الجرائم الكبيرة تولد من "التفاصيل الصغيرة"!
والتفاصيل الصغيرة ليست تفاصيل هامشية من حيث الوزن ومدى التأثير، بل هي كما لعبة البازل، مُرَكّب شَرطي لاكتمال المشهد. كذلك هو العنف بشتى أنواعه.
دعونا نمعن النظر، بجرأة ودون أن نتحايل على أنفسنا، في مشاهد العنف المستشرية التي نعايشها يوميًّا، فلربما نَكُف عن ترديد شعارات رنانة بمظهرها عاجزة بجوهرها، نطلقها مع وقوع كل جريمة عنف، ""الجريمة كانت متوقعة.. العنوان مكتوب على الجبين.. ترى من الضحية الآتية"" ولربما نعكف على العمل من أجل تصويب أخطائنا وتغيير أفكارنا ومعتقداتنا التي تؤول دائمًا للنتيجة ذاتها.
إن العنف الأسري أو المجتمعي؛ اللفظي والجسدي والنفسي والجنسي والاقتصادي، خلافًا للاعتقاد السائد، ليس وليد لحظة غضب أو طيش أو غريزة. بل هو نتيجة تولّدت من ترسّخ حالة ذهنيّة مبنيّة على مفهوم الهيمنة والسلطة فالوصاية المُطلقة. تترعرع هذه الذهنية في تربة الفكر الذكوري. وحين نتحدَّث عن الفكر الذكوري فإنَّنا لا نقصد الذكور فحسب، فهناك نساء يحملن الفكر الذكوري ويساهمن بتعزيزه ونشره دون أن يدركن مدى خطورته؛ وذلك يعود إلى ذوبان القيم الذّكوريَّة وتذويتها في نفوسهنّ نظرًا لعيشهنّ داخل ذلك المجتمع ببنيته الذُّكوريَّة؛ وبالتَّالي فإنَّهنَّ يتصرَّفن بما يتلاءم مع تلك البنية، ولا مناصَ من تفعيلِ الوعي الحقيقيِّ حول هذا الأمر من أجلِ التَّغيير نحو الأفضل.
ولذكورية الدولة في نوائبنا نصيب، فبذريعة الحفاظ على ""خصوصية المجتمع الفلسطيني"" نجدها لا تؤول جهدًا في تعزيز البنية الذكورية وتعميقها في مجتمعنا، بوساطة الدعم التام والغطاء والتمويل للمخاتير وكبار العشائر والحمائل لترسيخ فكرة أنه المختار، وما يترتب عليه من كونه الجانب المرجعي الموثوق.
التنشئة الأسرية نموذجًا:
بقصد أو بغير قصد منا، ومع ولادة بناتنا وأبنائنا، نؤسس لعلاقة طبقية فوقية سلطوية بين الذكور والإناث، فتجدنا نزرع في أذهان الابن أنه وصي على أخته، كما نزرع في أذهان الإناث أنهن أقل شأنًا وقدرة وقيمة من الذكور. ألم نشهد الاحتفالات والتبريكات بولادة الابن الذكر فيما تنكس الأعلام لولادة الأنثى؟ ألا تدعو النساء للمرأة الحامل بالقول ""تبكري بالصبي""، أو لأم البنات ""تزينيهن بالصبي""، من منا لم يسمع في عائلته تكرارًا مقولات مثل: أختك عرضك وحمايتها واجب عليك، أخوك بوخدك وبرجعك، أما حرّض النساء كما الرجال بناتهن للتنازل عن الميراث لصالح إخوتهن الذكور؟ هل تلقى المرأة المعنفة باب والديها مفتوحًا على مصراعيه لها ولأولادها حين تعود مضروبة معنّفة ومهانة من زوجها؟ كم عائلة تقبل أن تشكو ابنتها للشرطة على زوجها الذي يوسعها ضربًا؟ ألم يثبت بالدليل والبرهان أن الغالبية العظمى من النساء اللاتي فقدن حياتهن كُنّ ضحايا عنف لم يجدن آذانا صاغية ولا أذرعًا داعمة مفتوحة لمساندتهن؟
حين يتشبع الابن الذكر، منذ نعومة أظفاره، بفكرة تفوقه على أخته وحقه في فرض هيمنته عليها، لمجرد كونه ذكرًا، يصبح من الصعب جدًّا التأثير عليه وتغيير مفاهيمه تلك.
كثيرة هي الحالات التي وصلتنا في تنظيمنا النّسوي ""كيان""، حيث يقف الأخ بجانب صهره بل ويتآمر معه ضد أخته لمجرد أنها أصرّت على أن تعمل خارج المنزل أو لرغبتها في إكمال دراستها أو تأسيس عمل خاص بها.
لا تقتصر تبعيات التربية الذكورية وأضرارها على الأسرة فحسب، بل تنتشر آثارها كما النار في الهشيم، في كل دوائر الاحتكاك التي تجمع النساء بالرجال، سواء كان ذلك في سوق العمل أو في المؤسسات التعليمية والدوائر المجتمعية على أنواعها.
التحرش الجنسي نموذجًا
تشير الدراسات والإحصائيات أن واحدةً من كل ثلاث نساء تتعرض للتحرش الجنسي مرة واحدة على الأقل في حياتها، وليس هناك من طابع محدد لضحايا التحرش. هويات المُعتدى عليهن متنوعة من حيث الجيل والشكل واللباس والدين واللون ودرجة التحصيل العلمي أو الأكاديمي. وهناك نساء يتعرضن للتحرش أو الاغتصاب في سن الطفولة المبكرة، كما تشمل هذه الظَّاهرة إناثًا مسنّات تجاوزن عقدهن الثامن.
وبالرغم من هذه المعطيات، المثبتة علميًا، والتي تتأكد صحتها يوما بعد يوم لا تزال الألسن تذنّب الضحية وتحملها مسؤولية الاعتداء عليها بادّعاءات فارغة وتمحُّلات سطحيَّة كلباسها أو سلوكها الذي أغوى المعتدي وأفقده السيطرة على غرائزه.
لم تغفل الأبحاث والدراسات التي بحثت في جرائم الاعتداءات الجنسية دوافع الاعتداء/ المُعتدين. وقد أفرزت النتائج أن الدافع الأول والأساسي للتحرش هو الرغبة في الهيمنة وليس كما يميل الكثيرون للادعاء أن الدافع هو رغبة جنسية؛ علمًا أنَّ هذا الدَّافع الأخير أيضًا غير مبرّر على الإطلاق. وبطبيعة الحال، وارتباطًا مع ترسيخ فكرة الارتباط الوثيق بين الأنثى وما يُسمَّى ""الشرف""، يجد المعتدي أن الطريق الأقصر للهيمنة على ضحيته هو النيل من كرامتها عن طريق المساس بجسدها؛ منطلقًا من فكرةٍ سادت في المجتمع مفادها أنَّ المرأة لا تملك الحقّ على جسدها، وبالتَّالي فهو ملك لغيرها.
رغم أن الجانب القانوني في الكيان الإسرائيلي يعتبر متطورًا، ولكن، كما العادة في كل القضايا التي تعنى بالنساء، ليست هناك مواكبة لتطبيق هذه القوانين، لذا فهي لا تتعدّى كونها حبرًا على ورق ولا تستطيع حتى أن تمنح الناجيات من الاعتداءات الجنسية ذرة من الضمان أنَّ لهنّ حقًّا يحفظه من أجلهن القانون. فلا الشرطة تقوم بدورها ولا المشغلون، لا سيما المشغلون في السوق الخاص الفلسطيني داخل إسرائيل الذي لا رقابة على مدى تطبيقهم للقانون.
لا نبالغ حين نقول إننا نزرع الألغام في درب بناتنا وأبنائنا ونساهم مساهمة زخمة في شق درب الآلام التي يطأنها خلال مسيرة حياتهن، فالعنف والتحرّش ما هو الا نهج مرتبط بشكل وثيق بالذُّكوريَّة التي نعيشها ونرسِّخها يوميًّا في مناحي الحياة كافَّة.
الظلاميّة الغربية
تجدر الإشارة إلى أننا لسنا بصدد اتهام مجتمعاتنا العربية ومقارنتها بالغرب ""المنفتح""، ولا نسعى إلى التمثُّل بالغرب، كما تتّهمنا الحناجر الذكورية في مجتمعنا، فظلاميّة المشهد المجتمعي الذكوري الأبوي ليس حكرًا على المجتمعات العربية. فالمجتمعات الغربية سبّاقة لتأسيس هذا النظام. فعلى سبيل المثال، إذا نظرنا الى كيفية تعاطي الغرب، أكاديميا وسياسيا، مع الباحث ورجل القانون السويسري يوهان باخوفن الذي يُحسب على مجال تاريخ الثقافات وبالموازاة إلى الباحث لوريس مرجان الباحث في مجال الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا الذي بحث في المجتمعات الأمومية عند قبائل الإيروكوا في زمنه (سنة 1851 والسنوات ما بين 1871 و1877). نجد أن أعمال لوريس مرجان قوبلت بالاحتضان والإشادة وأطلق عليه لقب ""أبو الإثنولوجيا"" لتأسيسه علوم الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا الجديدة، وذلك في الوقت ذاته الذي أسس باخوفن فيه علمًا جديدًا: علم المجتمعات غير الأبوية أو علم المجتمعات الأمومية، غير أنه لم يُكرّم ولم يُحتفَ به بالقدر نفسه. وسبب هذا الفرق بسيط جدًا، فلو أُخذ عمل باخوفن على محمل الجد، لتسبب ذلك في بدايات انهيار الأيدلوجية الأبوية ورؤية العالم من خلالها، فهو يسجّل بداية تطوير نموذج جديد لتاريخ الإنسانية، ومن هنا كانت هناك خطورة شديدة في الاعتراف على نحو كافٍ!
النسوية عابرة للثقافات والمجتمعات والأمكنة والأزمنة – وحيثما توجد الذكورية توجد النسوية
عودة الى واقعنا
العنف والجريمة، ضد النساء، واقع مرير تتحمل مسؤوليته أطراف عدة. والمذنبون به كُثر. من مؤسسات رسمية وأجهزة حكومية وجهات تدعّي زورُا تبني قيم حقوق الانسان والعدالة الاجتماعية وتلوّح عبثًا براية حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية. فبالرغم من أن القوانين في الدولة تعتبر متطوّرة فيما يتعلق بجرائم العنف والاعتداءات الجنسية على النساء إلا اننا، في عملنا الجاري في تنظيم ""كيان""، نصطدم تكرارًا بعبثية تعاطي المؤسسات ذات النفوذ (الشرطة والمحاكم والوزارات وأذرعها في البلدات العربية)، تطال قضايا النساء على اختلاف مستوياتها. وقد أثبت بحث ""قتل النساء"" الذي أجراه تنظيم ""كيان""، بعد أن تغلغل في خبايا عائلات أربعة عشر من المغدورات اللاتي فقدن حياتهن، أنه لولا تخاذل وتغاضي، بل وتواطؤ المؤسسات لما كانت أولئك النساء المغدورات اليوم تحت التراب.
وبالطبع، ما ورد آنفًا، لا ينفي مسؤوليتنا الشخصية. لن ينجو مجتمعنا من آفة العنف والجريمة، ولن نجد الطمأنينة في بيوتنا وعائلاتنا، ما دُمنا نوجه أصابع الاتهام للآخر دون أن نراجع أنفسنا، وأفكارنا، ومعتقداتنا ونهج حياتنا اليومي تجاه الذُّكور والإناث، لن ننجو قبل أن نصوّب بوصلتنا نحو العدالة الجندريّة ونفكك الفكر الذكوري المتغلغل في أذهاننا، رجالًا ونساء على حد سواء.