الرضا الوظيفي لدى الشباب العرب- ضروراته ومآلاته

أمين شاب في الثلاثينيات من عمره، يعمل صيدليا منذ أكثر من 5 سنوات، يصف نفسه بأنه إنسان مجتهد في عمله، حيث توكل إليه الكثير من المهام التي يؤديها على أكمل وجه. معدل دخله الشهري يفوق المعدل العام، لكنه قرر التوجه لتلقي استشارة مهنية؛ بادعاء أنه فقد الحافز ولا يشعر بالرضا الوظيفي، ويفكر جديًا بترك مهنته ودراسة مهنة أخرى، حتى لو اقتضى الأمر العودة إلى نقطة البداية!

رنين شابة في مقتبل العمر، درست علم البصريات، عملت في أكبر وأشهر شبكات البصريات في البلاد، تنقلت من شركة إلى أخرى، وفي كل مرة كانت تترك مكان عملها بادعاء أن المشكلة تكمن في ظروف العمل، توجهت لتلقي استشارة مهنية، وفي الجلسة الأولى لخصت المسألة بصوت يغلبه اليأس: ""على ما يبدو أن المشكلة لدي، وليست في مكان العمل!"".

وهنا يتبادر السؤال، ما الذي يدفع شبانا وشابات عاملين -يُعدّون بعيون كثيرين ممن حولهم ناجحين ولا ينقصهم شيء- للتفكير في ترك مكان عملهم والعودة إلى دائرة الحيرة والقلق من جديد؟

يقترح الدكتور ""مارك سافيكاس"" أسلوبًا مختلفًا في تقديم الاستشارة السردية، التي تهدف في الأساس لمساعدة المستشيرين على ملاءمة الوظيفة مع حياتهم، بدلاً من ملاءمة أنفسهم مع الوظيفة، وينظر في هذا النهج إلى حياة الفرد على أنها ""رواية تجري صياغتُها""؛ وتشكل المهنة جزئية يُستفاد منها لتطوير المشروع الحياتي الشخصي للإنسان.

تشير الإحصائيات في البلاد إلى أن واحدًا من كل اثنين يغيّر مكان عمله كل 3-5 سنوات. وتشير الدراسات الحديثة إلى أن ثلثي العمال الأصغر سناً لا يعملون بوظائفٍ دائمة، بل لديهم ""عقود محدودة الأمد""، ويتفقون مسبقًا على الرحيل عند انتهاء العقد.

في عصرنا لا تجد الناس يعملون في الزراعة والحرف اليدوية كما كان سابقا، وعقد طويل الأمد مع المشغل لم يعُد صفة محمودة بالضرورة، هذا إضافة إلى أن تنوع المهن والتغيّرات السريعة في سوق العمل أحدثت الكثير من التحولات في التعامل مع الشركات وأماكن العمل، وإذا كان تقدير العمال في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين مبنيًّا في الأساس على الاستمرارية والعمل الجاد والمواظبة، وكان من بين الصفات المحمودة وقتئذ الاستمرارية والطاعة وتنفيذ المهام، فقد تبدلت متطلبات العمل في أيامنا هذه وأصبح جلّ التركيز على المهارات والمؤهلات الشخصية والتخصص المهني، وأضيفت صفات جديدة؛ كالقدرة على التعلم الذاتي، والقدرة على استخدام التكنولوجيا، وباتت صفات أخرى، كالذكاء العاطفي والمرونة المهنية والإبداع، أساسيةً لأجل التميّز المهني.

سابقًا كان عدد المهن قليلا ومحدودا، أما اليوم وحسب إحصاءات موقع وزارة العمل الأمريكية مثلا فقد تجاوز عددها الألف، ناهيك عن الكثير من التخصصات الفرعية. ومعروف أنه كلما زادت البدائل المتاحة ازدادت الحيرة، ومع تسارع التغيّرات وبروز مهن جديدة واندثار أخرى باتت الاستشارة المهنية حاجة ملحة لمواكبة هذه التغيّرات السريعة، وباتت عملية الاختيار في حاجة إلى الكثير من المهارة والتمحيص والتعمق في معرفة شخصية الفرد وطبيعة الدراسة التي تلقاها وسوق العمل، والاستفادة من متخصصين في مجال الاستشارة المهنية لديهم الخبرة العلمية والتجربة المهنية الكافية لوصل الخطوط المهنية بعضها ببعض، من أجل الوصول إلى صورة واضحة ورؤية شاملة.

تعتمد الاستشارة المهنية على التأمل الذاتي وتهدف لمساعدة الفرد على معرفة ميوله المهنية وقدراته النفسية والتحصيلية، بالإضافة إلى سماته الشخصية البارزة، كما يُؤخذ بالاعتبار أحلام الفرد وطموحاته والقيم الموجِّهة والحاجات النفسية، كما يتم تحديد الحواجز الشخصية النفسية والحواجز الخارجية المختلفة (اجتماعية، سياسية، جندرية) وكيفية التعامل معها.

بالعودة إلى أمين؛ كان جليًا في جلسات الاستشارة عدم تخطيه لمرحلة بلورة الهوية المهنية الشخصية، وكان اختياره للتخصص الدراسي مبنيا على ضغوطات اجتماعية وتوصيات من قبل الأهل والأقرباء، ووفقًا لمتغيرات سياسة سوق العمل، دون فحص أو تعمق في احتياجاته الشخصية والنفسية التي تشير إلى انجذابه إلى تخصصات ذات تحديات ذهنية ومهنية عالية، وشغفه في دراسة وتعلم تخصصات عُليا، الأمر الذي لم يُتَح له في عمله الحالي حيث الرتابة (الروتين) وقلة التحدي الذهني، على الرغم من حصوله على مردود مادي كافٍ. كان من الضروري في الاستشارة العودة إلى مرحلة بلورة الشخصية المهنية، ومراجعة الضغوطات الاجتماعية والاعتبارات السياسية وتصنيفها، وتمييز الصفات والمهارات والقدرات الشخصية وإعادة صياغتها، واستخلاص نقاط القوة التي تساعده في الشعور مجددًا بكونه ""بطل"" روايته الذاتية، والإيمان بذاته وبقدراته المهنية، والبحث عن تخصصات تساهم في تحقيق شغفه في التعلم والتقدم الدراسي والمهني، وتشجيعه للانطلاق مجددًا نحو مسيرة تحقيق الذات.

أما رنين فبدا واضحًا خلال الاستشارة- وبعد تحديد مواطن القوة الشخصية لديها- أنها في حاجة إلى عمل يتيح لها مساحة مبادرة واستقلالية أكبر، ولذلك استفيد من علاقاتها المهنية السابقة وخبرتها السابقة بهدف بناء مشروعها الخاص وعودتها لسوق العمل كمديرة أعمال في مجال البصريات، وليس كموظفة أجيرة تعمل في مساحة عمل ضيقة ومحدودة.

لذا فمن الأهمية بمكان توجه الطلاب العرب لتلقي الاستشارة بعد إنهائهم المرحلة الثانوية، وقبل دخولهم مرحلة التعليم والعمل، بهدف تخطيط مستقبلهم المهني على الوجه الأشمل، مراعين بذلك كل المركبات النفسية والمهنية التي ذكرت سابقًا.

نصائح عامة على طريق الاختيار السليم

تعرف على ذاتك المهنية.. ما هي النشاطات والمهام التي لديك شغف لإنجازها؟ ما هي النشاطات التي تتقنها وتسعد بها ولا تشعر بالوقت عند أدائها؟ إضافة إلى معرفة قدراتك الذهنية أو الجسمانية، والتخصصات المدرسية التي أحببتها بشكل خاص.

ما هي صفاتك الشخصية البارزة؟ لو سألنا مجموعة من الأشخاص ممن يعرفونك جيدًا؛ بماذا يصفونك وما هي الصفات البارزة التي يسِمونك بها، ومعرفة أي المهن تتناسب مع هذه الصفات.

ما هو حلمك المهني؟ ما طبيعة مكان العمل المرغوب في هيئته المثالية؟ وهل الحلم يتناسب مع ميول الفرد المهنية وقدراته التحصيلية وسماته الشخصية؟ وما الذي يمنع الفرد من تحقيق هذا الحلم؟ وكيفية تخطي الحواجز من أجل تحقيقه.

استعن بمتخصصين في مجال الاستشارة المهنية، ممّن لديهم اضطلاع في النفس البشرية وبدائل الدراسة وسوق العمل، إضافة إلى كونهم واعين للضغوطات والتحديات الاجتماعية والسياسية المحيطة، وممن في إمكانهم رؤية وعكس الصورة الكاملة بشفافية وموضوعية.

وفي النهاية تذكر أن حياتك عبارة عن رواية أنت المسؤول عن صياغتها وتشكيلها وكتابة أحداثها، وبما أن مهنتك تشكّل أحد الفصول الكبيرة في حيّزها الأساس؛ كان لزاماً عليك كتابة كلماتها بكل حب وشغف. وعليه أدعوك لِأن تعمل في المجال الذي تحبّ، حتى لو اقتضت الحاجة وضع خطة بعيدة المدى، وعليك بالجد والاجتهاد الكبيرين لتحقيقها، وعندها أحبب ما تعمل، واسعد باختيار وبناء تفاصيل حياتك، وتذكّر أن تفخر في سردها ذات يوم.

باسل رفيق إغبارية

محاضر وأخصائي نفسي تشغيلي وتنظيمي

رأيك يهمنا