القيادات النِّسويّة الفلسطينيّة الميدانية: تحويل الأزمات إلى فرص!

شهدت السّاحة السياسيّة الفلسطينيّة في الدّاخل في الآونة الأخيرة، تحوّلات وتغييرات على مستوى القوائم الحزبية، وعلى مستوى علاقة مُركّباتها مع النّظام الإسرائيليّ والمجتمع اليهوديّ. وقد زادت هذه التّغيرات والتّحولات من تركيبة الواقع السياسيّ- الاجتماعيّ المُركّب، الذي تتشابك فيه مستويات القمع والتّمييز مُخلفةً وراءها حالة من الفوضى العارمة والتّشرذم وفقدان البوصلة التي لم نشهد مثلها من قبل. ويأتي هذا خصوصًا إثر تبدّد ""حلم"" القائمة المشتركة وفكرة العمل الوحدوي الجامع الذي كان لدى الكثيرين بمثابة نقطة ضوء بوسعها إحداث نقلة نوعيّة بمكانتنا السّياسية كأقلية أصلانيّة. ورغم عُلوّ الأصوات التي تطرح مجدّدًا تساؤلات ومواقف حول مفهوم العمل السياسيّ، إلّا أنّنا ما زلنا نشهد وللأسف استمرارًا لحالة تغييب النّساء عن الحيّز العام ومواقع اتخاذ القرار محليًّا وقطريًّا، إضافة إلى موضعة قضايا المرأة في أسفل سلم الأولويّات المُجتمعيّة وكأنّهنّ غير مرئيّات، إلّا في التعامل معهنّ كمخزون أصوات في انتخابات الكنيست أو انتخابات السّلطات المحليّة العربيّة.

تعاني النّساء العربيّات اضطهادًا مركّبًا تتشابك فيه أنظمة القمع، لكونهنّ من ناحية جزءًا من مجموعة حوّلها الفصل العنصريّ إلى أقليّة أصلانيّة يمارس ضدّها التّمييز المنهجيّ والإقصاء عن مواقع صنع القرار السّياسيّ، وبالتالي عن المشاركة في توزيع الموارد الماديّة والمعنويّة؛ وانتمائها من ناحية أخرى إلى مجتمع ذكوريّ لا يزال يعامل المرأة باستعلاء فيُقصيها عن السّاحة العامة ويحرمها من ممارسة دورها في اتّخاذ القرارات.

نحن نرى أنّ واقع التّمييز والتّهميش الصّعب الذي تعيشه النساء، وحقيقة عدم تحمّل الدّولة أو المجتمع العربيّ بمجمل هيئاته ومؤسّساته، مسؤوليّة عن هذا الواقع وعدم السّعي الجادّ لتغييره، ينعكس جليًّا وبحدّة أكثر في فترات الأزمات (رغم أنني أعتبر حالة النّساء العربيات أزمة متواصلة تنتهي بانتهاء التّمييز وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة الجندرية). ونحن نتعامل مع جائحة كورونا في هذا السياق، إذ أنّنا نعتبرها أزمة إضافية حلت علينا. فقد أظهرت أزمة كورونا واقع العنف الجندريّ ومكانة النّساء المتدنيّة بما لا يترك مجالًا للشّكّ. وقد شهدنا في ""كيان"" كيف استمر تجاهل وإهمال النّساء على كلّ المستويات، الأمر الذي أدّى إلى استفحال العنف الجندريّ النّاجم عن التحيّز الجنسانيّ والبطريركيّة المُتأصّليْن. وأبرزت جائحة كورونا الوَهن القائم في المُجتمعات والحُكومات على حدّ سواء، في كلّ ما يخصّ مكافحة العنف الجندريّ، إلى جانب تأثير هذه الجائحة على بعض إنجازاتنا التي حقّقناها حتّى الآن في المعركة على المساواة الجندريّة. مع ذلك، فإنّ الأمل لايزال ماثلًا أمامنا حتّى أثناء الأزمات. ويعود الفضل في هذا إلى القوة الكامنة في النساء الفاعلات في الميدان، ولإيماننا بأنّ التغيير المنشود والمستدام على الصّعيدين السّياسي والاجتماعيّ، لا يمكن أن يحدث من دون ربط الواقع السياسيّ العام مع الواقع المجتمعيّ، ومن دون قيادة التّغيير من صاحبات القضيّة: النّساء أنفسهنّ، مع الارتكاز على الحقل (Grassroots).

منتدى ""جسور"" والعمل الشعبيّ

ارتكازًا إلى هذا التوجّه، ارتأت جمعية كيان تطوير نهج عمل شموليّ مميز، تكمن خصوصيته باستناده إلى العمل الميدانيّ وتطوير قيادات نسائيّة ميدانيّة مؤثرة، محليًّا وقطريًّا، بغية تفكيك جذور ومُسبّبات التمييز الجندريّ، وتعزيز قوة وقدرة النّساء الجماعية من أجل تحصيل حقوقهن الشخصيّة، والاجتماعية، والاقتصادية والسّياسية. وشمل هذا النّهج تطوير حَراك نسويّ محليّ بموازاة تطوير ومَأسَسة حركة نسوية ميدانية قطرية. يشمل العمل المحلي بناء وبلورة وتنظيم عمل مجموعات وقيادات نسائية محلية، تسعى للاستجابة لاحتياجات النّساء وتحسين مكانتهن وزيادة مشاركتهن في الحياة العامة ومواقع اتخاذ القرار. ويتشابك هذا مع العمل القطري الذي تأسّس وانطلق عام 2009، في المؤتمر التأسيسي الأول، إذ تم الإعلان عن إقامة منتدى جسور النّسائي القطري ليشكل شبكة نسائية تعمل على رفع وتعزيز وعي المرأة الفلسطينية في شتى مجالات الحياة.

يرتكز عمل كيان في الميدان على 100 امرأة ضمن 15 مجموعة نسائيّة محليّة في مناطق عربيّة فلسطينيّة تنتشر في كلّ أرجاء المجتمع العربيّ، شاركنَ في مسارات تعزيز مُكّثفة أهّلتهنّ ليَكُنَّ ناشطاتٍ اجتماعيّات قائدات للتغيير. وجرت هذه المسارات بريادة مُنتدى ""جُسور"" الذي يتألّف من 25 ناشطة قياديّة فلسطينيّة يُمثّلنَ المجموعات المحليّة. وعمل منتدى ""جُسور"" بمعيّة المجموعات المحليّة على تنظيم مجتمعاتهنّ المحليّة وقد شهدنا على مدار السّنوات الماضية تطورًا كبيرًا في دور المنتدى، الذي بدأ كجسم داعم للقياديّات يوفر مساحة آمنة لتبادل المعرفة والخبرات، إلى أن تحوّل إلى شبكة نسائية منظمة تتماهى مع رؤيا جمعية كيان وأهدافها، وتعمل على تحقيقها من خلال تطوير برامج واستراتيجيات عمل تتناول القضايا الجندريّة والتحديات التي تواجهها النساء العربيات في البلاد، وليتم تنفيذها ميدانيا بالتوازي مع العمل المتواصل لتدعيم وتعزيز النّساء وزيادة فعاليتهن في المجتمعات المحلية. وكان لهذا الحراك إنجازات عدة، أهمها: جسر الهوة ما بين الحقل والنخب الثّقافية والسّياسية، وزيادة منالية النساء للمعرفة والمعلومات والمصادر والامكانيات المتاحة والممكنة، وتطوير نموذج خاصّ ومميّز لزيادة تمثيل النساء في السّلطات المحلية العربيّة وفي مواقع اتخاذ القرار، وكسر التابوهات والحواجز فيما يتعلق بمحاربة العنف ضدّ النساء على أشكاله كافة، وخاصة في البلاد النّائية البعيدة عن مركز الأحداث وعن المؤسّسات والخدمات والمعروفة بكونها أكثر محافظة وتقليدية.

كانت السّنة المُنصرمة، محطة مهمة في دور النّساء حيث كُنّا شاهداتٍ على القدرات الحقيقيّة وعلى قوّة النّساء الفلسطينيّات الفاعلات على المستوى الجماهيري على تنظيم مجتمعاتهنّ المحليّة من أجل قيادة تدابير الطوارئ التي ضمنتْ عدم التخلّي عن أيّ امرأةٍ بحاجة لمساعدة. وأثبت نموذج العمل الميداني نجاعته مجددًا في ظلّ عُزوف القيادة والجهات الرّسمية بشكلٍ يفوق المعتاد عن التّعامل مع النّساء بشكل جدّيّ كما هو الحال في باقي أيام السّنة. لقد كانت ""كيان"" مُدركة طيلة الوقت لواقع حياة النّساء المُعاش، وما فعلته الجائحة هو أنّها أبرزت وعزّزت المشاكل والتحديات.

قدرات نسائيّة استثنائيّة

رغم الوضع المُريع إلّا أنّنا رأينا قوّة الكوادر النّسائية؛ فقد قامت ناشطات وقياديّات فلسطينيّات في مُجتمعاتهنّ المحلية بتحمّل وزر التّحديات وأظهرنَ قدرًا استثنائيًّا من الرّوح القياديّة والمبادَرة. وقد شكّلت هذه الأزمة نقطة تحوُّل أمام هؤلاء النّساء الناشطات شعبيًّا، اللاتي كُنَّ أنشأنَ سلفًا شبكة قويّة، ومُعزَّزة، وذات علاقات وأواصر راسخة على المستوى المحليّ. لقد كانت هذه هي اللّحظة المُواتية للمزيد من الاستثمار في دعمهنّ لتنظيم أنفسهنّ على وجه السّرعة، بغية إجراء تقييمات للاحتياجات المُجتمعيّة عامة وللنساء تحديدًا، وبناء وتوسيع الشّراكات، وريادة تدابير الطّوارئ ذات الحساسية الجِندريّة. لم يكن بالإمكان إحداث تغييرات كبيرة في حياة النّساء، وخصوصًا في أوقات الأزمات من دون تبنّي توجّه العمل التّصاعديّ من القاعدة إلى الأعلى؛ فمن الجليّ والبائن أنّ لا أحد آخر قادرٌ على التمتّع بهذا المنظور الشّامل ذي الحساسيّة الجندريّة. لقد مَوْضَعْنَ أنفسهنّ كشخصيّات موثوقة تقوم برفع الوعي حول أزمة العنف المتوازية، وضمان إطلاع النساء على المُستجدّات وتشجيعهنّ على استغلال الموارد المُتاحة والانتفاع بها، مثل خط الدّعم الّذي تديره ""كيان"". وأفضت شبكة علاقات القياديّات للوصول إلى نساء لم يكن بوسعهنّ تلقي المعلومات أو الموارد بطريقة أخرى، ويُسمّيْن عادةً ""النساء الشفّافات""، ومن ضمنهنّ الأمهات الأحاديّات، وعاملات النظافة في البيوت، والنّساء المُسنّات، والنّساء ذوات المحدوديّات.

نحن نرى أنّ مفتاح النّجاح يكمن في حقيقة أنّ النّساء النّاشطات راسخاتٌ في مجتمعاتهنّ المحليّة، وأنّهنّ قادرات على تبصُّر الفوارق والتفاصيل الدّقيقة التي تعجز المنظّمات والمؤسّسات عن إدراكها من الخارج. يُضاف إلى ذلك أنّ غالبيّة المؤسّسات تهمل إدراج وجهات النظر الخاصّة بالنّساء نفسها حول أوضاعهن عامة وفي فترات الأزمات تحديدًا، ولم تُوْلِ الاعتبار لقوّة الناشطات المجتمعيّات الفاعلات في داخل مجتمعاتهنّ المحليّة، إلى جانب أنّها أخفقت في إبراز أصوات وقصص النّساء الخاصّة. في المقابل، فإنّ نشاط النّساء الشعبيّ ضمِنَ عدم التعامل مع المجموعات الهشّة على أنّهنّ غير مرئيّات، وعدم ترك النساء ليُعانيْنَ وحدهنّ بصمت. صحيح أنّ هذه السّنة المنصرمة كانت صعبة، إلّا أنّ الرّوح القياديّة التي تحلّت بها النساء الفلسطينيّات ضمن العمل الجماهيري الميداني، تمنحنا القدرة على التحلّي بالأمل بتحقيق مستقبل أكثر عدلًا ومساواةً لجميع النّساء.

للمزيد من المعلومات، يُرجى الضغط زيارة موقع كيان.

رفاه عنبتاوي

المديرة العامّة لتنظيم "كيان" النِّسويّ، الذي أسّسته في حيفا عام 1998 مجموعةٌ من الناشطات النّسويات الفلسطينيّات، لدفع مكانة النساء الفلسطينيّات في إسرائيل والقضاء على التمييز الجندريّ. ومن أهمّ المشاريع التي يعمل عليها تنظيم "كيان" منذ عشرين عامًا، مكافحة ومنع العنف الجندريّ عبر العمل الشعبيّ واعتماد منهج التنظيم المجتمعيّ وتطوير القيادات النّسائيّة

شاركونا رأيكن.م