القدس: الأكثر قداسة والأكثر فتنة
يعود تأسيس مدينة القدس إلى أوائل العصر البرونزي، أي في القرنين التاسع عشر والثامن عشر قبل الميلاد على يد الكنعانيين. هزمت القبائل اليهودية التي تحدت الفلسطينيين حوالي عام 1050 قبل الميلاد. حكم الملكان داود وسليمان القدس ما بين 1000 و 922 قبل الميلاد. جعلها داود العاصمة وبنى سليمان ما يعرف بالهيكل. بعد موت سليمان انحدرت المملكة اليهودية تدريجيًا وسقطت في السّبي البابلي عام 587 قبل الميلاد. استولى الإسكندر الأكبر على المدينة عام 332 قبل الميلاد وقبل أن تخضع للبطالسة ومن بعدهم السلوقيين الذين حاولوا إدخال الثّقافة الهلنستية للمدينة، احتلت قوات بومبي فلسطين في عهد ""جايوس يوليوس قيصر"" (101-44 قبل الميلاد)، لتصبح القدس جزءًا من الإمبراطورية الرّومانية قبل أن تصبح بيزنطية مع انتصار المسيحية في أوائل القرن الرّابع للميلاد.
عاشت قصة سيدنا المسيح مع الإمبراطور قسطنطين الذي أخذت والدته هيلانة على عاتقها في 330 ميلادية السّير على خطى السيد المسيح، وتخليد سيرته من خلال شواهد معمارية. فتم استدعاء العمارة لابتكار سبب للإيمان وتم تحديد مواقع عذابات يسوع، وبنيت القيامة على قمة معبد ""هادريان"" الذي يحتفي بالآلهة فينوس. وفي عام 638 للميلاد استولت الإمبراطورية الإسلاميّة الناشئة على المدينة بدون قتال، لتبدأ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا من الحكم الإسلامي المستمر. حكم القدس خلالها الخلفاء الأمويون والعباسيون والطولونيين والفاطميون، قبل أن تجتاح الحروب الصليبية المدينة وتقتل معظم سكانها عام 1099 للميلاد. استعاد صلاح الدين الأيوبي المدينة عام 1187 ونجح المماليك حكام مصر عام 1260 في هزيمة المغول وضموا فلسطين إلى سيطرتهم. وفي عام 1517، اكتسحت الإمبراطورية العثمانيّة الصّاعدة المماليك وحكمت المدينة لأربعمائة سنة متواصلة.
جلب الأتراك معهم التّفوق العسكري والاهتمام بالبنيّة التّحتية للمدينة، وفي عهد سليمان القانوني (1520-66) شيدت أسوار المدينة بشكلها الحالي.
القدس، المدينة الفاتنة بحجارتها الذّهبية وقبابها المفلطحة الّتي تعانق سماء زرقاء صافية في معظم فصول السّنة، مرت بتغيرات وتحولات جذرية كان بعضها سلسًا وسلميًا والبعض الآخر كان مفاجئًا ووحشيًا. وعلى الرّغم من هذه التّغييرات فإن البلدة القديمة في القدس لا تزال تحتفظ بمخطّطها الرّوماني البديع. يبدأ الشارع المعمد ""الديكومانوس"" من باب الخليل أو بوابة يافا في الجهة الغربية من المدينة وينتهي بباب الأسباط في الجهة الشّرقية. أما ""الكاردو"" الشارع المعمد الذي يقطع المدينة من الشّمال إلى الجنوب فيتفرع إلى شارعين: الأوّل ينحدر من باب العمود والّذي يعرف أيضًا بباب دمشق باتجاه باب النبي داود مارا بطريق خان الزّيت. أما الفرع الثاني فيتبع طريق باب الواد باتجاه باب المغاربة. وتُركت منطقة المعبد (المسماة كوادرا أو ""المربعة"") خارج مخطط المدينة حيث أقيم عليها معبد آلهة السّماء والبرق جوبيتر. يقع المعبد الرّئيس المخصّص للآلهة الرومانية الثلاثة ""جوبيتر""، ""وجونو""، ""ومنيرفا"" بالقرب من السّاحة العامة والسّوق، في مواجهته كان معبد فينوس، وفي نفس موقع القبر المقدس اليوم. كما تم بناء بوابة بأربعة أقواس عند تقاطع ""الكاردو"" و""الديكومانوس""، وقوسان للنصر وحمامان عامان. أما خارج المدينة فكان هناك درجات تصل لعين سلوان حيث كانت نافورة للاستخدام العام. وعند باب العامود انتصب عمود احتفالي وساحة رحبة مستديرة ترحب بالزائرين. لذا فإن مخطّط القدس هو مخطّط روماني مثالي من شبكة الشّوارع المتعامدة وبنية تحتية معقدة رسمت وخطت على جسد المدينة ولا تزال شاهدة على تلك اللّحظة التأسيسيّة والأساسيّة في تاريخ المدينة.
منذ منتصف القرن التّاسع عشر لم تشهد القدس فقط تحولًا درامياً من حيث التّطور العمراني الذي انعكس في التوسعات خارج أسوار المدينة فحسب، بل في تحديث الإدارة وتحولات كبيرة في الحياة والظّروف الاجتماعيّة للمدينة، والتي لم تأت بمعزل عن الإصلاحات (التنظيمات) التي اكتسحت الإمبراطورية العثمانية ككل. ومع ذلك، نلاحظ بأن نمو البلد خارج أسوار المدينة العتيقة قد اتخذ شبكة الطرق الرومانية القديمة كمسار لنمو المدينة الحضري: باتجاه الجنوب (بيت لحم والخليل)، باتجاه الشمال (نابلس)، باتجاه الغرب (يافا على شاطئ البحر الأبيض المتوسط).
خلال حقبة الاستعمار البريطاني (1917-1948)، جلب البريطانيون كما فعل المستعمرون البيض مع أرجاء المعمورة مفهوم التخطيط المنهجي إلى مشهد القدس. وفي أقل من ثلاثة عقود تم رسم العديد من المخطّطات للقدس بدءًا من مخطط ""ماكلين"" لسنة 1918، مرورًا بمخطط السير ""باتريك جيديس"" لسنة 1919، ومخطّط لجنة تخطيط المدن لعام 1921، ومخطط سنة 1930، وصولًا لمخطّط ""هنري كيندل"" لعام 1944. ركزت المخطّطات المختلفة على مناطق تدخل رئيسية ثلاث: المدينة القديمة حيث يجب الحفاظ على التّقاليد المعمارية والآثار التاريخية؛ المساحات المفتوحة حول أسوار المدينة حيث يجب الحفاظ على حزام أخضر بعرض 25 إلى 50 مترًا، والمناطق المخصّصة للأنشطة السّكنية والتّجارية والصّناعية، إذ حدّدت ارتفاع المباني بحد أقصى ضعف عرض الطرق، على أن تُبنى واجهاتها من الحجر الجيري المحلي.
لقد شهدت العقود الخمسة الأخيرة من تاريخ المدينة، أي ما بعد حرب 1967 والاحتلال الإسرائيلي للمدينة بشطريها، توسعات عمرانية فظيعة ومفاجئة لا تحترم التّغيرات والتّحولات السّلسة للمشهد الثّقافي للمدينة. وفي سباقها مع الزّمان والمكان والدّيمغرافيا، حرصت قوة الاحتلال الإسرائيلي على ترسيخ ""وقائع على الأرض ""تعزز أغلبية يهودية في المدينة وضواحيها. وقد تجلى ذلك في الأنشطة الاستيطانية داخل البلدة القديمة وبناء أحياء ومستوطنات يهودية جديدة في كل الاتجاهات، بالإضافة إلى سياسات التهجير ""الناعم"" والعنيف للسكان الفلسطينيين من المدينة وجعل حياتهم داخلها شبه مستحيلة. لهذا، فإن المشهد الثّقافي للمدينة الأجمل والأقدس قد تحوّل وبسرعة البرق إلى ساحة صراع وضحيّة للسياسات الحيزية والتهميش الاجتماعي والتّنمية غير المتكافئة والتمييز العنصري تجاه السكان الأصلانيين.
لقد حولت حكومة الاحتلال وذراعها بلدية القدس المدينة عمليًا إلى منطقتين متصلتين بشكل قسري وتخضع لنسقين غير متكافئ من النّمو والتّطور. وكما هو حال المدينة اليوم، فإن هناك خط غير مرئي يفصل بين الأحياء اليهودية والأحياء العربية. تفتقر الأحياء العربية إلى الخدمات الملائمة والبنية التحتية والمساحات العامة والسكن الميسور ووسائل النّقل العام، فيما تنعم الأحياء اليهودية بخدمات وبنى تحتية متطورة. كما أنَّ التّدمير المباشر للمنازل العربيّة في الأحياء العربية وأوامر الإخلاء لصالح منظمات يهودية متطرفة وسحب بطاقة الهوية، وتصنيفهم سكان لا مواطنين أصبح جزءًا من حياة المقدسيين اليومية. أما النسيج التّاريخي للمدينة فيعاني من السّياسات المكانية والتّخطيطية التّمييزية التي تؤثر على التّدمير المباشر وغير المباشر للمشهد، من خلال سوء ممارسات ترميم التراث أو سوء عرض المواقع الأثرية، أو أنشطة حفر الأنفاق تحت الأحياء العربية، أو إدخال بنى تحتية هائلة وشبكات مرور ضخمة لتلبية احتياجات المدينة الاستعمارية.
تستدعى العمارة وهي فن قادر على الإخفاء بقدر ما هو قادر على إظهار التناقضات التي أسهمت في إنتاج المشهد الثقافي للمدينة. وربما تكون القدس من المدن القليلة التي تحول فيها التخطيط والعمارة إلى أدوات من أدوات الدولة القامعة كما هي جيوشه وشرطته. وحتى يعود التّخطيط لوظيفته كأداة للعناية بالمشهد الثقافي والإنساني، وحتى تعود العمارة لتكون فعل إنساني إيجابي يساهم في نمو الفرد وتعزيز حريته، ستبقى القدس أسيرة هذه التناقضات وأرضية صراع محتدمة تخاض فوقها الحروب.
د. خلدون بشارة
أستاذ مساعد في دائرة العلوم الاجتماعية والسلوكية في جامعة بيرزيت ومستشار رواق