القدس بوصلة الرّياضة الفلسطينيّة
على ملاعب ترابيّة قاحلة تدحرجت كرة القدم بشكلها البدائي في ملاعب القدس منذ العهد العثماني حسب الرّوايات التّاريخية، إذ تم تنظيم مباريات وديّة تنشيطية بين فرق المدارس وأولها مدرسة المطران التي أسّست فريقًا لكرة القدم في العام 1908 كان من أقوى فرق المنطقة، وتواصل تأسيس الفرق المدرسية مرورًا بمدارس الفرير، وتراسنطة، والفرندز حتى ظهرت الأندية العائلية وفي مقدمتها عائلة الدّجاني التي أسست فريقًا مرموقًا تزامن خلال فترة الانتداب البريطاني مع تأسيس فرق الأرثوذكسي العربي، والفرق القروية في بعض الأحياء مثل سلوان وبيت صفافا ونادي ""الهومنتمن"" ونادي ""الأكس"" والأهلي العربي التي تبارت ضمن دوري الدّوائر الحكومية الّذي ضم العاملين في سكك الحديد، والبريد، والجمارك، والأراضي، والكهرباء، والهجرة، والزّراعة، والمعارف، والأشغال العامة، والبريد، والعدلية، والبلديات.
ثم ولدت منافسات كأس ودوري الزّهرة وكأس البلديات في القدس، وكانت الفرق المقدسية تشارك فيها بقوة كما شاركت في دوري الاتحاد الفلسطيني العام بعد إعادة تشكيله عام 1944, وتكاثرت الأندية المقدسية في هذه الفترة حتى العام 1948 (عام النكبة) الذي يعتبر عام النّقلة النّوعية حيث ظهرت على السّاحة تدريجيًا الأندية العريقة كالموظفين، وجمعية الشّبان المسيحية، والنّادي الثّقافي. وفي عام الوحدة 1952 شاركت الفرق المقدسية إلى جانب عدّد من فرق الضّفة الغربية في الدّوري الأردني وأهمها نادي الموظفين حتى حرب حزيران التي سبقها بسنوات قليلة وأعقبها أيضًا تأسيس فرق عريقة مثل: سلوان المقدسي وشعفاط اللذان شاركا في دوري على مستوى الضّفة الغربية نظمه اتحاد الأندية العربية من نسختين عامي 1968 و1969 وسط تواصل انبثاق الفرق، كالعربي بيت صفافا، وهلال القدس، والثّوري، والعيسويّة ولاحقًا جبل المكبّر، وصور باهر، وأبو ديس وغيرها. لتشهد الرّياضة المقدسية نهضة كبيرة احتضنها ملعب المطران الشّهير وملعب الشّيخ جراح الكبير، وحقق بيت صفافا لقب كأس جريدة الفجر عام 1977 وسلوان لقب دوري عام 1978، الذي نظمته رابطة أندية الجنوب الّتي اتحدت مع اللّجنة الرّياضية لشمال الضّفة الغربيّة؛ فتم إطلاق رابطة أندية الضّفة الغربيّة التي أشرفت على الرّياضة الفلسطينيّة وكان مقرها مدينة القدس التي شكلت البوصلة الرّياضية لفلسطين، وكانت محجًا لكافة الفرق التي جاءت لتباري أنديتها في مباريات خالدة، لا تزال محفورة بالأذهان وأبرزها أكبر وأشهر ديربي على مستوى الوطن بين سلوان وجمعية الشّبان المسيحية، إضافة للقاءات فرق شباب الخليل وغزة الرّياضي وأرثوذكسي بيت جالا، ومجموعة البيرة وثقافي بيت ساحور، ومركز طولكرم وشباب أريحا وشباب رفح وحطين وبلاطة وغيرها...
كانت تلك مرحلة مهمة من مراحل تثبيت وجود الرّياضة المقدسية على الخارطة حتى العام 1994 الذي شهد عودة السّلطة الوطنية إلى فلسطين وعودة المجلس الأعلى إذ أعيد تشكيل الاتحادات الفلسطينية بكلّ أنواعها وانخرطت أندية القدس كباقي أندية الضّفة فيها لتعزيز العمل الوطني الرياضي الفلسطيني، حيث شاركت أندية القدس بكلّ تخصصاتها في البطولات الرّسمية واشتهرت بكرة القدم، وكرة السلة، والكرة الطائرة، وكرة الطاولة وكرة اليد. إضافة للملاكمة والمصارعة وكمال الأجسام والكاراتيه وهي الرّياضات الأكثر شهرة وممارسة في مدينة القدس لكن كلّ الألعاب خفت بريقها وتراجعت شعبيتها كثيرًا لأسباب عدة أهمها: انتفاضة عام 1987 وما أعقبها من أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة، لكن كرة القدم بقيت اللّعبة الأكثر شعبية وحققت فيها فرق القدس إنجازات لافتة حتى عام 2008، عندما استلم اللّواء جبريل الرّجوب رئيس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم مهام منصبه رسميًا، فحقق نقلة نوعية كان أبرز تجلياتها دوري المحترفين الّذي تألق فيه من القدس فريق هلال العاصمة وتُوِج بطلًا لأربعة مواسم (2019،2018،2017،2012). كما وضع بصمته على لقب كأس الضّفة الغربية 3 مرات وكأس فلسطين مرة واحدة، وكأس السوبر 4 مرات، وكأس الشّهيد ياسر عرفات مرتين وسبقه جبل المكبّر الّذي توج بطلًا لأوّل دوري قبل الاحتراف عام 2008، وحمل اسم الأمين العام للجبهة الشّعبية أبو علي مصطفى ليضيفه إلى لقب كأس الضّفة الغربيّة عام 1993.
في القدس لا تزال الرّياضة الفلسطينية تفرض نفسها بقوة على المشهد الاجتماعي، وتم تأسيس رابطة لأندية المحافظة تعنى بشؤونها، كما تم تشكيل تجمع مقدسي للاتحادات الرّياضية أطلق عليه اسم تجمع قدسنا ونشأت في السنوات الأخيرة ظاهرة تشكيل أكاديميات رياضية تعنى بالنشء. وحققت اللّجان المساندة للاتحادات الرّئيسية في الضّفة الغربيّة انجازات مهمة على مستوى القدس من خلال تنظيم مباريات دورية عديدة لمختلف الأعمار لإبقاء جذوة النّشاط الرّياضي وشعلته متوهجة في المدينة.
لغة الاحتراف جعلت أندية القدس السّباقة في التّوجه إلى التّعاقد مع لاعبي الدّاخل الفلسطيني الذين أثروا الدّوري الفلسطيني، وعزّزوا روح المنافسة فيه وفي مقدمتهم علي الخطيب وحسام أبو صالح، وهيثم ذيب، وخالد عزام، ووجدي أبو يونس، وعبد الله جابر، ووسيم إغبارية، ومجدي خلايلة وغيرهم ممن لعبوا في المنتخب الفلسطيني أيضًا تجسيدًا للتلاحم والتّعاضد بين أبناء الوطن الواحد.
تعاني الرّياضة المقدسية من عزلة بسبب جدار الفصل حيث تضطر الفرق المقدسية في معظم الدّرجات لإقامة مبارياتها على الملاعب المعشبة مثل ملعب الشّهيد فيصل الحسيني في ضاحية الرّام وملعب ماجد أسعد في البيرة، وملاعب نابلس، وطولكرم، وجنين، والخليل، وبيت لحم وأريحا. وهذا يكلفها أموالًا باهظة الثّمن لكنها رغم ذلك تحافظ على حضور مقدسي مميز في خارطة الرّياضة الفلسطينية، كما أنها تحيي بطولات محليّة في ملاعب العاصمة الصّغيرة والمعشبة مؤكدة على الدّوام أنها بوصلة الرّياضة الفلسطينيّة.