الطّلاق في مذهب التّوحيد.. إمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان
بسم الله الرّحمن الرّحيم
والصلاة والسلام على الأنبياء والرسل اجمعين
إذا تفكّر الإنسانُ يومًا في ماهيّة الزّواج وأشغلّ العقل في إدراك كنهِهِ، لرآه دون شكٍّ أجلّ ما يقدّمه المرءُ في حياته من تضحيات وتنازلات، أوّلها الاختيار بترك ما تعوّدت عليه النّفس وحيدةً من عاداتٍ ورغباتٍ ومناهج، وقولبتها في إطار علاقةٍ هي في الحقيقة رحلةٌ غامضةُ المعالم نحو المستقبل المجهول. ولعلّ أفضل ما يُقال عن وصف الزّواج هو أنّه الانتقال المدروس من ""الأنا"" إلى الـ ""نحنُ"" ومن سياسة الـ ""أريد"" إلى الـ ""نريد"".
ولمّا كان الزّواج ميثاقًا إنسانيًّا أخلاقيًّا، ورابطًا اجتماعيًّا حقوقيًّا، ترتّبت عنه مواجبُ ومطالبُ ربانيّةٌ وفقهيّةٌ في العقد كما في الحلّ، وجب على المؤمن أن يقف عند سائر حدودها ويعمل على تحقيقها جملةً وتفصيلًا، إذ كان فيها الضّمانُ الأكبر لحفظ كرامة الأطراف وتهيئة ظروف التّعاون بينهما لإنجاح هذا الميثاق الرّفيع المستوى، الّذي لم يكُن يومًا حكرًا على عامّة النّاس فحسب، بل شارك في تطبيقه كُثر من الرُّسل والأنبياء بشهادة قول الآية الكريمة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْواجًا وَذُرِّيَّةً}.
إنّ مذهبُ التّوحيد كغيره من المذاهب الإسلاميّة المتعدّدة – والّتي ما هي إلّا أوجه مختلفةٌ لنفس الحقيقة الواضحة – كان ولا يزالُ يحلّلُ ما حلّلهُ الإسلام ويحرّمُ ما حرّمه الإسلام، مستقبلين في قضايا الزّواج والطّلاق قبلةَ الشّريعة المباركة، الّتي نظّرت فأقنعت وكتبتْ فهدتْ وعلّمتْ. وقد برز في مذهبنا التّوحيديّ أقلّةٌ من أهل العلم والفقه والتّبصّر الّذين تبحّروا في علوم الفقه ومسائله، سالكين سلكَ أئمّة المذاهب المتّبعين. وأحد أهمّ هؤلاء عندنا هو الفقيه العلّامة السّيّد الأمير الشّيخ جمال الدّين عبد الله التّنوخيّ (توفّي عام 1479) من بلدة عبيه اللّبنانيّة، الّذي درس الفقه على أيدي شيوخه المعتمدين في دمشق آنذاك، ليعود إلى أبناء الطّائفة الدّرزيّة بعد ذلك، معلّمًا إيّاهم ما غاب في عصر مظلمٍ تفشّى فيه الجهلُ وقلّة الأمن والعلم.
وفقًا لتنظيرنا التّوحيديّ المتّبع، فإنّ الطّلاق من المشروعات إسلاميًّا كتابًا وسُنّةً وإجماعًا، إذ جاء لفظُ الطّلاق على اختلاف مشتقّاته في القرآن الكريم أربع عشرةَ مرّةً، نذكر منها قوله سبحانه {الطَّلاقُ مّرَّتانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْريحٌ بإحْسَانٍ}، وقوله أيضًا مخاطبًا رسوله الأكرم صلّى الله عليه وسلّم قائلًا {يَا أَيُّها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}.
أمّا في السّنّة النّبويّة المباركة فالأحاديثُ في الطّلاق كثيرةٌ مصيبة، أشهرها عن ابن عمر رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذ قال: ""أبغضُ الحلال إلى الله تعالى الطّلاق"". وقد كنتُ يومًا في مجلسٍ عامرٍ احتجّ فيه رجلٌ بهذا الحديث مُسائلًا: ""لماذا صنّف الفقهاءُ كلّ هذه المصّنفات وتعبوا في الكتابة والتّنظير حول أبغض الحلال عند الله جلّ وعلا""، وكأنّه أراد أن يدّعي وجود ما أحقّ وأهمّ للكتابة فيه والتّأليف. فجاء ردّي بأنّها شهادةُ فخرٍ للإسلام الحنيف الشّريف، الّذي لم يهمل من حياة الفرد والمجتمع أيّ جانب قلّ أو جلّ، واضعًا ثقلًا خاصًّا في معالجة هذه المسألة الّتي رأى تأثيرها ذا الأمد البعيد، محاولًا أن يعالجها قبل التّفاقم، مقدّمًا الإصلاح فيها عن الانفصال والتّفريق، عملًا بقوله جلّ وعلا {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهِا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقُ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيمًا خَبِيرًا}.
تمامًا كما يراه ويصفهُ علم الاجتماع الحديث، لم يكُن الطّلاق يومًا خيارًا محبّبًا في المذهب التّوحيديّ، لما فيه من أبعاد ونتائج سلبيّةٍ على حياة الزّوجين والأولاد، وما يترتّب عن حدوثه من اضطراباتٍ معنويّةٍ وماديّة، وتشقّق لروابط الدّم والعلاقات الأسريّة. على الرّغم من ذلك، فقد علّمتنا الوقائعُ وتجاربُ الحياة أنّ الطّلاق على الرّغم من مراراته وصعوبته، قد يكونُ في بعض الأحيان الخيار الأفضل بعد تعسّر الحلول وتعذّر جميع الحلول والأبواب، وفي ذلك يقول الإمام ابن قدامة في كتابه المغنيّ: ""والعبرةُ دالّة على جواز الطّلاق، فإنّه ربّما فسدت الحال بين الزّوجين، فيصير بقاء النّكاح مفسدةً محضةً وضررًا مجرّدًا بإلزام الزّوج النّفقة والسّكنى، وحبس المرأة مع سوء العشرة، والخصومة الدّائمة من غير فائدة، فاقتضى ذلك شَرْعَ ما يزيل النّكاح لتزول المفسدةُ الحاصلةُ منه"".
هذه هي المعادلة الّتي تمثلُ دائمًا أمامنا في المحكمة الدينية الدّرزيّة بدائيّةً واستئنافًا، في حين نحاول ترجمة ما نتعلّمهُ من مواقف الطّرفين إلى جوابٍ واضحٍ صريح، نبتّ فيه حول إمكانيّة رأب الصّدع وإعادة المياه إلى مجاريها، أو التّفريق – بعد فشل المحاولات – بين الزّوجين المُختلفين. هذا، مع الأخذ بالحسبان ما استجدّ في الآونة الأخيرة من مسبّبات الطّلاق، الّتي وصلت على سبيل المثال خلال العام الفائت إلى18.4 بالمئة، أي ما يعادل 191 حالة طلاق تمّ عرضها على هيئة المحكمة المذهبيّة.
قضايا تعدّدتْ فيها الطّلباتُ وتنوّعت فيها أسباب الخلاف، مُظهرةً تأثّر المجتمع بما يجتاحُ العالم من بصمات التّكنولوجيا الّتي – وعلى الرّغم من إيجابيّاتها الكثيرة – أدخلتْ إلى المبنى العائليّ المعهود بعض دسائس الشّكّ والغيرة وحتّى الخيانة، وسط تشجيع موجة المادّيّة العمياء ونيل إعجاب المراقبين والمتابعين والمعجبين، مع إهمال الواجبات العائليّة، والمسؤوليّة الجماعيّة والمطالب الأبويّة والأموميّة.
في غمرة ما نعيشه اليوم من تزايد موجة الطّلاق، والتّرويج الخاطئ لاعتباره مجرّد فسخٍ لعقدٍ أو قضيّة حياتيّة عاديّة، بتنا على يقين أنّ الحلّ يكمنُ في فتح باب الحوار الصّادق أمام الشّباب المقبلين على الزّواج، وتوفير الفرصة الحقيقيّة أمامهم للتّعرّف على مؤسّسة الزّواج بكلّ معالمها وتفاصيلها، وإيضاح ما يفترض على الزّوجين من مسؤوليّاتٍ ومتطلّبات. عبر زيادة هذا الوعي الرّاشد، ورفع مستوى المعرفة الاجتماعيّ – الدّينيّ لدى أبناء المجتمع، سننجحُ في الحفاظ على هذه المؤسّسة التّقليديّة الّتي هي في نظرنا صمّام أمانٍ هامٍ لقيام مجتمعٍ صالح، ينظرُ إلى عواقب الأمور بعينٍ واعية، ويقومُ على أساسٍ قويم تُحترم فيه شريعةُ الرّحمن وحقوق الإنسان.