الطفل المقدسي عبد الله أبو اشخيدم: عشر ساعات في التحقيق.. و100 سؤال!

لم يكن سهلا على طفل لم يتجاوز الثماني سنوات أن يستجمع كامل تفاصيل ذلك اليوم الذي اصطحبه فيه والده إلى المسجد الأقصى ليصليا معًا ويتلوا ما تيسر من القرآن ثم ينطلقا كلٌّ في طريقه.

الوالد ذهب إلى طريقه الذي اختاره عن إيمان واعتقاد ولم يترك مع صغيره سوى مفاتيح سيارته وذكريات كثيرة ربما يستذكرها ذات يوم حين يكبر ويستعيد تفاصيل ذلك الصباح النديّ المعطر برائحة والده في السماء.

في بيت الأجر في مخيم شعفاط للاجئين شمالي القدس المحتلة، كانت لا تزال يافطة ضخمة معلقة على مدخل بناية عالية تحمل صورة الشهيد فادي أبو اشخيدم، منفذ العملية الفدائية في حي السلسلة على تخوم المسجد الأقصى.

هناك استقبلنا خال الشهيد د. شبلي السويطي ""أبو أنس"" وكان سؤالنا الأول عن الطفلين الشقيقين عبد الله ""8 سنوات"" وهبة ""9 سنوات"" اللذين احتجزتهما قوات الاحتلال في معتقل المسكوبية في القطاع الغربي المحتل من مدينة القدس.

انتظرنا في قاعة واسعة تزدحم بمن حضر من المساندين والمتضامنين مع عائلة الشهيد، أتوا إلى المخيم من كل فج عميق، من بينهم آباء شهداء مثل والد الشهيد علي السويطي قائد كتائب الشهيد عز الدين القسام الذي تجشم عناء القدوم إلى المخيم من قرية بيت عوا ببلدة دورا؛ ليساند العائلة، وكان أن تحدث إلينا بابتسامة تحمل فخرا بالشهداء وبنجله عليّ الذي رفض الاستسلام حين حاصرته قوات كبيرة من جنود الاحتلال وظل يقاومهم حتى نفاذ ذخيرته.. ""الشهداء لا يستسلمون.."" قالها والد الشهيد.

لم يطل انتظارنا حتى حضر الطفل عبد الله بصحبة أحد أعمامه. كان يلتفت يمينا ويسارا ويتفحص الجمع الغفير الذين اجتمعوا ليستمعوا إلى الخطب والكلمات عن مناقب الشهداء.

كان لا بد أن نستنطق عبد الله ليروي لنا تفاصيل من ذلك اليوم منذ لحظاته الأولى وحتى لحظة لقائه حيث تركز الحديث معه عن غرفته التي دمرها الاحتلال فلجأ إلى سرير أمه وأبيه، وسألناه عن كتبه المدرسية التي نقلها إلى غرفة والديه حيث لم يبقوا له في غرفته الصغيرة مكانا للهو أو الدراسة أو لحل واجباته المدرسية.

حاول الطفل الصغير أن يستجمع كل ما لديه بعد نحو عشر ساعات من الاحتجاز في معقل المسكوبية المعروف بأنه من أسوأ معتقلات الاحتلال في القدس، وخلال تلك الساعات الطوال برفقة شقيقته الطفلة هبة تعرض لنحو مائة سؤال واستجواب من محققي شرطة ومخابرات الاحتلال وكان عليه أن يرد عليهم ويجيب على هذا الكم الكبير من الأسئلة وهو لا يدرك مغزى استجوابه ولماذا، حيث لم يكن يعلم بعد باستشهاد والده، وكانت آخر اللحظات بينهما صلاة في الأقصى وتلاوات من القرآن، ومفاتيح سيارة احتفظ بها عبد الله في حقيبته الصغيرة.

قال لنا ونحن نسأله عن التحقيق معه أنه لم يخش محققيه، وكان يجيبهم بما يعرفه دون زيادة أو نقصان، لكنّ حديثه معنا كان يحمل كثيرا من الدلالات حول ما يعانيه بعد كل ما حدث من فقد والده، وتحطيم غرفته الصغيرة، أو كما قال ""نفلوا الدار نفل.. كسّروها..."". لم تعد غرفته صالحة للنوم، كل ما فيها دمروه، سريره وغطاء نومه ولم يستجمع من الغرفة سوى كتب المدرسة التي حملها إلى غرفة والديه واستقر هناك في حضن والدته، وقد نال من الغرفة أيضا دمار كبير يراه عبد الله كل يوم، وتراه شقيقته هبة التي حالها من الارتباك والمعاناة حال شقيقها.

في مدرسة الهدى بالبلدة القديمة من القدس يدرس عبد الله، وفي صبيحة ذلك اليوم الذي استشهد فيه والده، انتقل إلى مدرسة الحسن الثاني، ومنها إلى بيت قريب له قبل أن ينقل للتحقيق، وفي كل محطة كان يبدو فيها حائرا كما ظهر من حديثه معنا، وفي تكراره لذات الكلمات في جوابه عن كل سؤال سألناه.. "" آه.. وبعدين.."" كانت أكثر الكلمات تكرارا على لسان هذا الطفل، لعلكم تتذكرون جيدا الطفل أحمد مناصرة في جلسة الاستجواب مع محققيه..."" بعرفش.. بعرفش.."" ""من يدري ربما تعرض عبد الله لتحقيق مماثل... "" كما قال لنا د. السويطي خال الشهيد.

في استجوابه.. سألوه بداية عن اسمه، وعن عمره، وعن أمه، ولماذا يحمل هاتفًا؟ كما سألوه عن وجهته التي ذهب إليها بعد مغادرته المسجد الأقصى، وبما تدركه ذاكرته كانت إجاباته على أسئلة محققيه، وحتى ذلك الوقت لم يكن يعلم أن والده استشهد وأنه لن يراه بعد اليوم.

غادر عبد الله مجلسنا في بيت أجر والده؛ ليكمل الحديث عنه خال الشهيد د. شبلي السويطي الذي كان شاهدا على جريمة اقتحام منزل شقيقته أم الشهيد وترويع أكثر من ثلاثين من أفراد الأسرة جلّهم من النساء والأطفال لم يسلموا جميعا من الاعتداء.

تعرض السويطي للضرب وكذلك أحد أبنائه بينما كان يحاول عبثا وقف الاعتداء على الأطفال والنساء بمن فيهم الطفلة ""هبة"" ابنة الشهيد وشقيق الشهيد وزوجة شقيقه، وحتى التعرض للطواقم الصحفية والاعتداء على الصحفيات ومصادرة كاميراتهم وهواتفهم.

بدأ السويطي حديثه بوصف قادة الاحتلال وجنوده بالإرهابيين حيث تاريخهم حافل بمثل هذا الجرائم من ترويع النساء والأطفال وارتكاب المجازر بحق المدنيين الآمنين. "" لا غرابة بعد ذلك بأن يحدث مع عبد الله الطفل ما حدث، فهم لم يرِحوه من استجواباتهم وقد فقد والده، ولم يتورعوا عن احتجازه لعشر ساعات وإمطاره بنحو مائة سؤال حاولوا خلالها استقاء معلومات منه مهما كانت تافهة لعلها تفيدهم في شيء. لقد فعلوا الشيء ذاته مع شقيقته هبة"". يقول خال الشهيد. يضيف:"" لقد ضربوا الكبير والصغير، كانت أعدادهم مهولة تزيد عن ثلاثمائة عسكري من مختلف الوحدات الخاصة، استباحوا منزل الشهيد ومنزل والدته وأشقائه ودمروا محتوياتها بالكامل بما في ذلك بعض الجدران الداخلية، وكان الأخطر من ذلك ما سببوه من رعب للنساء وللأطفال على وجه الخصوص، الذين يستيقظون من نومهم كل ليلة مرعويين وخائفين وقد تبولوا على أنفسهم من هول ما شاهدوه وما مروا به. كان عبد الله وهبة الأكثر تأثرا من ذلك، فهبة التي اعتقلت واحتجزت هي الأخرى لعشر ساعات لا تزال تعاني من هول ما مرت به، ولا تزال تعيش الصدمة من فقدان والدها.."".

المحامي مدحت ديبة محامي عائلة الشهيد تحدث إلينا عن معاناة أطفال الشهيد وما لاقوه من سوء المعاملة خلال التحقيق معهم أو اقتحام منزلهم وترويعهم فقال:"" احتجاز الأطفال مرفوض بموجب القانون الدولي الإنساني، وبموجب اتفاقية حماية المصابين في النزاعات الدولية والحروب المسلحة، ونحن في حالة حرب، وهناك مواثيق تضمن الحماية للأطفال من الاعتقالات العشوائية، وتضمن حمايتهم بمعرفة سبب التحقيق معهم. لكن ما حدث مع أطفال الشهيد هو أن التحقيق معهم تم دون أن يقال لهما لماذا يحقَّق معهم. بالإضافة إلى أن الاعتقال بهذا السن للأطفال دون وجود ولي أمر منافي للبروتوكول الأول من اتفاقية جنيف بخصوص حماية الأطفال في النزاعات المسلحة. ولكن كما هو معلوم، فإن التحقيق مع الأطفال في هذه الحالات يتم بموجب قوانين الانتداب البريطانية التي سنّها الانتداب البريطاني أيام حكمه لبلادنا فلسطين، وقام الاحتلال بتكييف هذه القواعد والقوانين حتى تتلاءم مع الأنظمة والتشريعات الإسرائيلية مثل: هدم المنازل، والتحقيق مع الأطفال والنساء دون السن القانوني ولساعات طويلة تحت مسمى ""منع الإرهاب""، وهذا كله غير قانوني ومنافٍ للأعراف والمواثيق والقوانين الدولية. والتحقيق مع أطفال الشهيد لم يكن بدافع تجريم الشهيد وتقديم الأدلة عليه، بقدر ما هو جمع معلومات تنقص الأجهزة الأمنية الإسرائيلية"".

عبد الله وشقيقته هبة نموذج لما يعانيه أطفال القدس، ليس نتاج ارتقاء آبائهم شهداء فقط، بل قائمة طويلة تضم المئات من هؤلاء الأطفال رهن الاعتقال في السجون، أو في الحبس المنزلي الذي يحول الأسرة بكاملها إلى سجان عليه أن يحرس سجناءه، وهو حال آلاف الأطفال أيضًا، الذين هدمت جرافات الاحتلال مساكنهم أو وقفوا يرقبون آباءهم وهم يهدمون منازلهم ذاتيا وبأيديهم بموجب أوامر بلدية الاحتلال في القدس، التي تحرمهم من المأوى ومن حقهم في السكن بينما تشيد كل يوم أحياء استيطانية على أراض هي ملك للمقدسيين وقد صودرت منهم.

إذن، هو عام آخر يوشك أن يغلق أبوابه على المقدسيين وعلى أطفالهم، كان زاخرا بالمعاناة وبالتحديات، فمعركة ساحة باب العامود، ومعركة الصمود بكل تجلياتها تظل حاضرة في استقبال عام آخر يزدحم أيضا بالأخطار ليس فيما ينتظرهم فقط من معركة صمود متجددة في ساحة باب العامود، بل أيضا فيما يتهدد المقدسات من أخطار ترسم معالم الصمود القادمة.


*المقالات المنشورة تعبّر عن آراء كاتبيها.

رأيك يهمنا