الحركة الإسلامية: رسوخ في الثوابت ومرونة في الوسائل

ما زالت الساحة السياسية تمور مورا بالجدل منذ قررت (القائمة العربية الموحدة) الذراع السياسية للحركة الإسلامية في الداخل الدخول إلى الائتلاف الحكومي من خلال "قناعتها" إن الأوان قد آن للدخول في طريق قد يكون مفخخا ولا يخلو من المخاطر الحقيقية، إلا أنه يستحق التجربة إن كان سينقل مجتمعنا العربي بعد أكثر من سبعين عاما على قيام إسرائيل ووقوع النكبة الفلسطينية، من طور "الاحتجاج" إلى طور "التأثير"، دون التنازل عن أي من الثوابت الدينية والوطنية، ودونما الدخول في مساومات ومقايضات على الحقوق المدنية والسياسية الأساسية، الجماعية والفردية لمجتمعنا العربي، على اعتبارها حقوقا أصيلة تنبع من حقنا الأصيل التاريخي والديني كشعب أصلاني في وطنه، والتأكيد على حقوق شعبنا الفلسطيني في الاستقلال وكنس الاحتلال، وإقامة دولته كاملة السيادة وعاصمتها القدس، وتنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة وعلى رأسها القرار 194، وغيرها من القرارات وفي قلبها القرارات ذات الصلة بالقدس المحتلة والمسجد الأقصى المبارك، وعدم شرعية كل ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في القدس خصوصا وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 عموما، والتي تدعو كلها إلى وقف انتهاكات الاحتلال وإزالة كل آثاره على الأرض الفلسطينية كلها.

(1)

سيظل قرار الدخول إلى الائتلاف الحكومي اجتهادا ليس منزلا من السماء، وهو يحتمل الخطأ والصواب، والحُكْمُ له أو عليه مرتبط بالنتائج في نهاية المطاف، وإن كنت أنا شخصيا أرى أن أكثر ما يمكن أن يذهب إليه حزب عربي في ظرف معين، أن يكون داعما للحكومة من الخارج، فيما يسمى برلمانيا ب "الكتلة المانعة"، مقابل مجموعة من المطالب المحددة، مع الاحتفاظ بالحق الكامل في إلغاء هذا الدعم إذا ما دعت الضرورة لذلك.

كان يمكن لهذا النقاش أن يظل هادئا في أوساط الأكثرية العاقلة والموضوعية من مجتمعنا وشعبنا، إلا أن الأسلوب العدواني والتخويني الذي تبنته بعض أطراف القائمة المشتركة سابقا، وخروج "النقد المشروع" للموحدة وللدكتور منصور عباس عند حدوده المحمودة إلى ما هو أخطر من ذلك بكثير، حولت الساحة السياسية العربية إلى مرجل يغلي ويوشك ان يفيض خرابا ودمارا دونما حاجة أو داعٍ من أي نوع.

لا أحد من الأطراف السياسية الفاعلة على الساحة يمكن أن يدعي "العصمة" من الخطأ أو سوء التقدير أو عدم التوفيق في اختيار المفردات والتعبير عن القناعات. إلا أن الفشل في إدارة الخلاف والاختلاف بما يضمن تعانق الاجتهادات بدل تصادمها، هو الكارثة التي يستسلم لسطوتها الكثيرون تحت ضغط الغرائز الثأرية والصراعات الشخصية، وغلبة النزعات التنظيمية والحزبية.

من العجيب أن يكون الرأي العام العربي في الداخل متقدما بأشواط عن القيادات الحزبية المنافسة، إذ استوعب بحسه البعيد عن التعقيدات التنظيمية، المشهدَ السياسي المتعلق بقرار القائمة العربية الموحدة الدخول إلى الائتلاف الحكومي، ووازن عند الحكم عليه، بذكاء وعقل مفتوح - يجب أن نعترف به - بين المصالح والمفاسد، فوجد أن المصالح أكثر من المفاسد، ولذلك لا غرابة ان تنعكس هذه القناعات على استطلاعات الرأي التي تعطي القائمة العربية الموحدة أربعة نواب إلى خمسة على الأقل في الانتخابات الوشيكة، بينما لا تبتسم هذه الاستطلاعات للقائمة المشتركة بعد انهيارها الكامل وانقسامها هي أيضا إلى تحالف الجبهة الديمقراطية/الحزب الشيوعي – العربية للتغيير من جهة، والتجمع الوطني الديموقراطي من جهة أخرى، وتنذر بنتائج كارثية سيكون لها مردودها السلبي على مجمل الأداء والحضور السياسي العربي في الكنيست وخارجها!

(2)

أثبت الرأي العام العربي غير المتحزب وغير المؤطر وهو الأكثرية الساحقة من الناخبين أيضا، أنه أكثر قدرة على استيعاب أولويات المجتمع العربي والتي تؤكد على معيار التزامن والتوازي بين المسارات ذات العلاقة بالهم المدني/الوطني المحلي، والوطني الفلسطيني، والذي يعني ضرورة النضال من أجل تحقيق الحقوق المشروعة لمجتمعنا العربي في الداخل، وهي الأولوية التي لن يقوم أحد بتحمل المسؤوليات عنها نيابة عنا لا الأحزاب الصهيونية ولا السلطة الفلسطينية ولا الأمة العربية والإسلامية، ولكن تتحمل المسؤولية عنها الأحزاب العربية إلى جانب هيئاتنا الوطنية الجامعة كلجنة المتابعة العليا واللجنة القطرية لرؤساء البلديات والمجالس المحلية، والحركات الشعبية، ومنظمات المجتمع الأهلي، والقوى المجتمعية الحية.

هذه الأولوية تأتي بالتزامن والتوازي مع فريضة الاهتمام بقضية شعبنا الفلسطيني ونضاله من أجل التحرر والاستقلال، والتأكيد على المواقف الراسخة والثابتة تجاهها وتقديم الدعم الممكن لها، والتي تقوم عليه الحركة الإسلامية ومؤسساتها الفاعلة على مدار العام، بما لا يحلم الوصول إلى 1% منه كل الأحزاب والحركات الأخرى المنافسة!

هنا يجب التأكيد أيضا على حقيقة قد تخفى على الكثيرين تحت ضغط الظروف، أن الحل للقضية الفلسطينية ليس بأيدينا نحن كمجتمع عربي فلسطيني في الداخل، لأنها قضية أمة عربية وإسلامية كاملة، ومسؤولية المجتمع الدولي أيضا، بينما حَلُّ قضايانا نحن هنا داخل إسرائيل هي مسؤوليتنا الحصرية بامتياز بعدما تخلت عنا الأمة، وبعد أن تخلى عنا المجتمع الدولي للأسباب ذاتها، ولجُبْنِهِ في محاسبة إسرائيل على سياسات التمييز العنصري والقهر القومي التي تمارسها ضدنا كمجتمع عربي فلسطيني يعيش على أرض وطنه كمواطنين في دولة إسرائيل، وسياسة الفصل العنصري/ الأبرتهايد التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي ضد شعبنا الفلسطيني في القدس والضفة الغربية المحتلة، وحصاره الظالم لقطاع غزة منذ العام 2007 وحتى الآن، وبعد أن استثنتنا اتفاقية أوسلو تماما، التي سَلَّمَتْ بأننا جزء لا يتجزأ من إسرائيل. لذلك، المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل أصبح بفعل العوامل التي ذكرت خارج أي حل بين الطرفين مستقبلا، إلى درجة أن هذا المعيار الظالم وقع أثره الكارثي – من بين ما وقع عليهم - على أسرانا السياسيين/الأمنيين الحاملين للجنسية الإسرائيلية، داخل السجون الإسرائيلية الذي يقبعون فيها لنحو أربعين عاما، في الوقت الذي تحرر فيه قادتهم من الفصائل الفلسطينية المختلفة مبكرا تنفيذا لما نصَّت عليه اتفاقية اوسلو.

(3)

ليس من الصعب أبدا ملاحظة أن هذا القطاع الواسع من الناخبين غير المُحَزَّبِين في مجتمعنا العربي، يميل إلى تصديق الحركة الإسلامية والقائمة العربية الموحدة وهو يرى الحركة سباقة في إسناد شعبنا الفلسطيني المحتَلّ في الضفة والقدس وقطاع غزة، والمظلومين من شعوبنا العربية والإسلامية في كل بقاع الأرض، وعلى مدار الساعة إغاثيا وإنسانيا وسياسيا، ورعاية شؤون القدس والمسجد الأقصى بالتعاون مع الأوقاف الإسلامية والفعاليات الشعبية والأهلية في المدينة المقدسة، من خلال مشاريعها المتعددة والرائدة على مدار العام، كشد الرحال ومشروعات الترميم ودعم الأسر المحتاجة، ودعم القطاع الصحي، وتعزيز اقتصاد أهلنا في القدس، إلى غير ذلك من المشاريع المميزة والنوعية. لن يستطيع أحد إنكار هذا الدور المقدس الذي تقوم به الحركة الإسلامية، ولن تستطيع كل محاولات "إثارة الغبار" حولها، ان تمنع الأغلبية الساحقة من شعبنا في أن ترى الحقيقة.

ما لفت انتباهي أيضا نجاح الأغلبية الساحقة غير المؤطرة وغير المتحزبة – بعكس الحزبيين والمؤدلجين - في مجتمعنا العربي الفلسطيني داخل إسرائيل، في استيعاب وفهم الحالة السياسية العامة في إسرائيل. لذلك، لم يكن صعبا على هذه الأغلبية في مجتمعنا العربي أن تستوعب أن الحالة السياسية من حيث الانقسام الحاد والعميق، والخلافات غير القابلة للتجاوز، التي تعيشها الأحزاب الصهيونية بكل صيغها وأيديولوجياتها، والتي سببها وجود نتنياهو في المشهد السياسي، هيأت فرصة قد لا تعود مرة أخرى في حال اختفى نتنياهو من الحلبة السياسية.. من غير الحكمة ألا تستغل الأحزاب العربية هذا الوضع السياسي "النادر!" بطريقة أو بأخرى يتم التوافق حولها، سواء كان ذلك من خلال موقف موحد ينخرط فيه الجميع، أو من خلال التقاسم الإيجابي للأدوار، من أجل تحقيق ما أمكن من الأهداف في مدة قصيرة يمكن أن تعوض "العجز" في الإنجازات رغم وجود بعضها بلا شك، خلال سبعة عقود من الزمن.

رفضت أطراف "القائمة المشتركة" سابقا هذا التحدي، وظلت على وضعها القديم "أسيرة" لشعاراتها المتوارثة دونما النظر في المستجدات وفرص استثمارها تحقيقا لأهداف محددة كما ذكرت.

من الحسن أن أؤكد هنا، أنني شخصيا احترمت خيار أطراف المشتركة سابقا في هذا الشأن، ولا أحد له الحق في "الاعتراض الساخن" على هذا الخيار... كما أنني شخصيا لا أخفي تحفظي من خيار القائمة العربية الموحدة إذ كان رأيي الذهاب في طريق مختلفة تحقيقا لنفس الهدف، إلا أن القائمة الموحدة في المقابل قبلت التحدي - بقرار ديموقراطي - وأقدمت على تنفيذ "عملية" أشبه ب "بمغامرة" – كما يصفها الكثير من أبناء الحركة الإسلامية – إما أن تنجح فتحقق مصالح مجتمعنا العربي كله بلا استثناء، أو تفشل فيتحمل أصحابها ومن نَظَّرُوا لها المسؤولية الكاملة عن الفشل والذي يعني اختفاءهم من الحلبة السياسية والحزبية تماما!

قدمت الحركة الإسلامية وذراعها السياسية أثمانا باهظة بسبب هذا القرار، وتحملت في سبيله الكثير، إلا أنها ما زالت مقتنعة أن الطريق الذي اختارته يستحق هذه الأثمان، ومن دفعوا في هذا اتجاه مستعدون لدفع الثمن إن فشل المشروع.

الذي لا يمكنني أن أٌقبله أو اتفهمه، أن تقود قوائم القائمة المشتركة سابقا ومعها بعض الجهات التي تصارع على وجودها وحضورها، "حربَ بسوسٍ" شرسةً ضد القائمة العربية الموحدة، استعملت خلالها – مع الأسف – كل الأسلحة التقليدية وغير التقليدية، أدناها "التخوين"، وهو سقوط قِيَمِيّ وخطيئة بشعة، واعلاها التحريض الاعمى، وهو جريمة مكتملة الأركان، حيث كاد هذا التحريض ان يؤدي الى كوارث لولا لطف الله تعالى، ولولا المسؤولية الوطنية الكبرى التي تحلت بها الحركة الإسلامية، فمنعت بهذا السلوك النبيل الانحدار نحو اختلال السِّلْمِ الأهلي في مجتمع يعاني الكثير من الازمات، ويواجه الكثير من التحديات الداخلية والخارجية.

(4)

مجتمعنا العربي مُقْبِلٌ في هذه الأيام على انتخابات برلمانية ستجري في الأول من شهر تشرين الثاني/نوفمبر هذا العام 2022، وهي فرصة لمجتمعنا العربي الفلسطيني عموما، ولأحزابنا العربية كلها خصوصا، لاستخلاص العبر والدروس، والاحتكام إلى العقل، وتغليب المصالح العليا وتأخير المصالح الضيقة شخصيةً كانت أو حزبية، والارتقاء الى مستوى المسؤولية الوطنية، وعدم الانزلاق فيما تبقي من أسابيع الى الانتخابات، لمستنقع الحرب البينية التي لن تخدم إلا عدونا المشترك الداخلي (العنف والإجرام) والخارجي (السياسة العنصرية).

ذهاب كل طرف حسب خياراته التي ارتآها، حق مشروع مهما اختلفنا أو اتفقنا حول هذه الخيارات...
انشغال الأحزاب بعرض برامجها ودعوة الناس لدعمها بالحكمة والأسلوب الحسن وبالروح الرياضية اللائقة، حق مشروع أيضا.

التعاون فيما اتفقت عليه الأحزاب، والأعذار فيما اختلفت حوله، خُلقٌ نبيل يليق بمجتمعنا العربي وبشعبنا الفلسطيني.

التخلي الكامل عن كل أشكال الصراع والنزاع والاتهامات تخوينا وتكفيرا، وتعزيز الاحترام المتبادل، هو المطلوب في هذه المرحلة الدقيقة، وكل خروج عن هذه المبادئ التي يجب ألا يُخْتَلَفَ عليها، يجب أن يُدان بكل المفردات القوية والواضحة وغير المتلعثمة.


استعمال الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected].

إبراهيم عبدالله صرصور

الرئيس السابق للحركة الإسلامية - الشق الجنوبي، في الداخل الفلسطيني

شاركونا رأيكن.م