مُرافَعة "حوضْ الزَرّيعة" أَمامَ "تْرِند" الهِجْرة
منذ سَنوات طويلة، عندما كان لي أبٌ أُناديه "يابا"، وكنّا نسكن في "بيت العيلة" الذي اختفى مع أِشياء كثيرة أخرى، كان والدي الذي لم يكن فلاحًا قَطّ، إنما "ابن مدينة قح"، يَهُمّ في كل صباح ليتفقد "حوض الزرّيعة" الذي كان بَهجَة للعين وَعيدًا مِن الألوان.
اعتاد والدي، الذي كان "شغيّل" ومِن ثم "معلّم" طيلة أيّام حياته، أن يصحو يوميًا مع شروق الشمس، لينظر إلى السماء داعيًا: "يا فتّاح يا عليم، يا رزّاق يا كريم"، قبل الخروج مِن باب بيتنا للعمل، لم يُغيّر أيًا من عاداته تلك. فحتى بعد أن ألَمّ به المرض وزلزَل كينونته، استمر يوميًا في الدّعاء والخُروج من باب بيتنا، لكن باتجاه "الحاكورة"، ليتفقّد "زرّيعاته".
عندما أتمَمت تعليمي الجامعي وعُدت إلى "بيت العيلة"، ووجدت أبي اشتد به المرض وساءت أحواله، أصبَحَت زيارة حوض الزرّيعة برفقته، وسماعه يتحدث بشغف وحبّ عن جديد زَرْعِه أمام ضيوفه، وقطْف ما تيسّر من محصول، من أهم عاداتي اليومية.
كان حوض الزرّيعة عبارة عن حوض طوله 5 أمتار فقط، وعرضه لا يزيد عن الـ 40 سنتمترًا، لكنه كان يعني لأبي دونمات من الزرع، فقد علّمني أن الأرض تُحِب مَن يزرعها ويهتم بها وتُعيد إليه الحُبّ بأضعاف من المحصول، حتى ولو كان حوضًا صغيرًا في حاكورة بيت.
عندما شاءت الأقدار أن ننتقل من "بيت العيلة" إلى بيت آخر لا توجد فيه حاكورة ليزرعها أبي، وَعَزَّ عليه فراق حوضه، أبصرتُ غمامةً من الحزن تطوف فوقه أشهرًا، حتى انقضّت على قلبه ومزّقته، ليقول لي "البيت حِلو بسّ فِشّ فيه ولا شِبر أرض أزرعه".
توفي أبي بعد انتقالنا إلى بيتنا الجديد بأربعة أشهر فقط. قال لنا الطبيب إن قلبه كان ضعيفًا فمات، أما أنا فقلت إن قلبه احترق حسرة على حوضٍ سُلِب منه، وبيتٍ ليس فيه شبر أرض ليزرعه.
شاءت أقداري بعدها أن أتزوّج وأنتقل من مدينة إلى قرية، لتصبح الزراعة والسهل والزيتون أحاديث مسائية يومية عند زيارة جيراني، ومَدعاة لاهتمامي. أصبح لي حوض زرّيعة خاص بي، أتأمّله يوميًا وأحتار في زراعته، أتفقد شجرة الليمون، أرويها، وأحزن إذا أصابتها "طابة" ابني أثناء اللعب، وأتحسّر على زَهر تناثر فوق التراب، وعلى حبّة ليمونة كانت أن تكون.
استَمِع للناس وهم يتحدّثون عن زيتونهم الذي لا يريد أحدٌ قطافه، فأغلب العائلات لم تَعُد الفِلاحة مصدر رزقها، يُحافظ الكبار مِن بقايا عصر السهل على أراضيهم ويعتنون بها في انتظار المحصول، لكن لا تعينهم أجسادهم التي أنهكها الزمن في حَصاد تَعَبهم، بينما يمتهن الأحفاد والأولاد مِهَنًا أخرى بعد أن سيطرت الكيبوتسات على الأسواق، وأضحى أغلبهم يعمل خارج القرية.
وفي ظل غياب الحياة القروية، وابتعاد الناس عن الفلاحة ومصدر رِزقهم المتوارث جيلًا بعد جيل، أصبحت الأرض غير المزروعة وتلك التي يُقطف زيتونها بصعوبة عبئًا على أصحابها، فزاد بيع الأراضي، وأصبحت الناس تُحاول استبدال أراضيها بالسيولة المادية نظرًا للأوضاع الاقتصادية الصعبة التي عمت وما زالت تعُمّ مجتمعنا العربي، المُهمَّش من قبل الدولة، والذي يتصدّر قوائم البلدات ذات أعلى نسب بطالة.
بينما حارب أبي على حوض زرّيعته وغلَبه القهر بحرمانه منه، يحارب الناس اليوم على بيع الأرض بأعلى أسعار، والتخلّص من ذلك الإرث العائلي المتوارث على مرّ القرون، مما ساهم في تفكيك ذلك الرابط التاريخي بين الفلسطيني الفلاح وأرضه.
مع مرور السنوات التي تحمل الدمار والحرب والفقر والخوف من المستقبل، أَضحت هذه الأرض عبئًا يُثقل كاهل الكثيرين من ساكنيها، وَغَلَب "ترند" الهجرة ليتحول للموضة الحالية في المجتمع العربي الذي تحول إلى "حارة كُلّ مِن أيده إلو".
أضمحَلّ شعور انتماء الفلسطيني في الداخل لأرضه لدى قسم لا يستهان يه من أبناء شعبنا، واستبدَله بحلم مستورد غربيّ الملامح، أوروبي النزوات، ويميزه التفكير الفردي الأمريكي بالمصلحة الشخصية المنعزلة عن الجماعة وفاقدة الشعور بالانتماء.
فبينما يتربّى الشعب اليهودي على محبة الوطن، ويجولون في بلادنا يطمسون تاريخنا ويزرعون آخر، يُربّي الفلسطيني أبناءه على نبذ الأرض، وتفكيك ذلك التواصل التاريخي لنا كشعب بأرضنا، بدأ ببيعها واستبدالها بسيارة جديدة، أو رحلة إلى الخارج، أو إقامة عرس يطغى عليه البذخ والفخامة، ونهايةً بحثه على الهجرة، ليأتي من يعلل ذلك بمقولة "وشو في هون تيرجع" ....
أنا سأقول لكم ماذا لدينا هنا ليرجع أبناؤنا إليه ويبقون لأجله...
لنا جذور عميقة، وتاريخ يجب أن نبقى هنا لنحميه ونحافظ عليه جيلًا بعد جيل، لنا هنا ذاكرة جماعيّة حارب أسلافنا وأسلافهم مِن قَبلهم كل محاولات طمسِها وتغيير معالمها، لنا عائلة وأصدقاء يحبوننا ونحبهم ويطيب لنا العيش معهم، لنا شوارع ألِفتها أقدامنا ووجوه مُحبّة تلقي علينا تحية الصباح حتى ولو اختلفنا معهم أحيانًا ... لنا عادات وتقاليد تعبر عن تراثنا وهويتنا، لنا أعراس ندبك فيها الدبكة وتعلو أصوات الفرح، لنا ليالي الحِنّة تصدح فيها ضحكات عروس ثملة من الحب والسعادة، لنا شوارع بأسماء قياداتنا وشهدائنا الذين ضحوا بأنفسهم لنحيا نحن ونستمر في الوجود، لنا جدّات ينتظرن الأحفاد ليجتمعوا حول صواني الفطير المحشوة بالسبانخ أول الشتاء، لنا أمهات هشّت عظامهن من سهر الليالي على راحتنا وآباء ينتظرون عودتنا ليتكئوا علينا في شيخوختهم وتعبهم... ولنا حوض زرّيعة ما زال ينتظر أياديَ ألِفَها لتبعث به الحياة من جديد ...
هذا هو وجودنا، الذي لم نُزوّره ولم نزرعه خلسة تحت جناح الظلام، فهل نترك الحقيقة لنلهث وراء وهْم الحياة المريحة في بلاد بعيدة؟
أنا لا أدعي أن حياتنا في بلادنا هي الجنة، وأعي تمامًا كل الإشكاليات الموجودة من عنف مستشرٍ وأوضاع اقتصادية صعبة وحروب لا تنتهي، لكن كما صَمد أسلافنا على مرّ القرون خلال الحروب والفقر والنكبة وغيرها من مآسٍ لنبقى نحن هنا، واجب علينا أن نصمد نحن أيضًا هنا لأجل الأجيال القادمة. من سيحفظ الوطن إن هاجرنا جميعًا؟ من سيحفظ الذاكرة إذا تخلينا عنها كلّنا؟ إن صمودنا هو الحقيقة الوحيدة الثابتة في واقعنا المجنون.
أحيانًا، عندما أمرّ من مخيمات اللاجئين في الضفة، وأرى لافتة كتب عليها "محطة مؤقتة في انتظار العودة"، أُبصر حُلم العودة في عينيّ لاجئ لم ينس موطنه حتى بعد مرور 76 سنة، وأرى خارطة فلسطين تُزيّن كل حارة وشارع وصف مدرسي، أتساءل – كيف ممكن لمن يعيش في وطنه أن يزدريه، بينما من سُلِب منه لا يزال ارتباطه به يتّقد لهذه الدرجة؟
عندما كنت في المدرسة الثانوية، استضافت الإدارة أحد "المفكرين الفلسطينيين" من الداخل لإلقاء محاضرة، وأتذكر جيدًا كيف وصف إبقاء الدولة اليهودية على 150 ألف فلسطيني في الداخل الفلسطيني ممن لم تَطَلهم يد التهجير بأنها كانت "غلطة" ندِمت عليها الدولة اليهودية فيما بعد. أما انا فأصبحت اليوم على يقين أن فلسطينيي الداخل ليسوا "الغلطة" التي ندِمت عليها الدولة، فهي قد نجحت في تحويلنا إلى مخلوقات هجينة مُطيعة، لكن غلطتها هي تهجير 750 ألف لاجئ فلسطيني معتقدة أن الكبار يموتون والصغار ينسون، لكن ما أن رمّم هذا الشعب نفسه بعد النكبة ورتّب صفوفه، حتى أصبح اللاجئون هاجسها الأوحد، حيث أشعل بؤس التهجير وحياة المخيمات فتيلة عزمهم وصوّبوا أعينهم إلى سيّدة الأرض ... كانت تُسمى فلسطين، وصارت تُسمى فلسطين.
في الحقيقة إن من يتواجد في محطة وقوف مؤقتة لحين العودة ليس اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات، بل نحن فلسطينيي الداخل، في انتظار الرجوع إلى أنفسنا وشعبنا قبل أيّ شيء.