عن أبي واليوم العالمي لمناهضة العنف ضد النساء
- "علمك يابا هو سلاحك"
- " اه يابا بس يفوت الحرامي عالبيت بدي أقولو أنتا وقف عندك انا معي شهادة صف تناعش ولا حركة ها !! "
وثم يبتسم أبي وأمي وهكذا ينتهي النقاش، فهم يعلمون أنه سيأتي ذلك اليوم الذي سنقول به " طلعوا أمي وأبوي معهن حق " ... وفعلا توالت السنين وتبدلت الأقدار بعدها لنكتشف كم كان والداي على حق.
كان عندي 31 ربيعا عندما تحولت من زوجة تعيش في بيت يعيله زوجها بشكل أساسي ولذا تستطيع أن تسمح لنفسها برفاهية العمل لساعات قليلة في وظائف غير ربحية، إلى أرملة تربي طفلا بعمر السنتين وطفلا آخر سأستقبله إلى هذه الدنيا بعد بضعة شهور فقط. هي ثانية واحدة فاصلة كانت كفيلة بقلب الموازين وتحولت إلى أرملة من دون معيل.
ما زلت أذكر الأسئلة التي طاردني بها الناس من بعد وفاة زوجي " شو راح تتركي الشغل أسا وتقعدي بالبيت؟ "، " خلص لازم تتفضي للأولاد " ولم أفهم منطق الأسئلة، فمخططاتي شملت العمل المكثف والجاد والتطور الوظيفي لأستطيع إعالة عائلتي بينما اتضح أن توقع المجتمع مني كأرملة هو الدخول إلى حجري الصغير والانعكاف على نفسي والانقطاع عن العالم والعيش في فقر مدقع أساسه مخصصات التأمين الوطني الهزيلة!
إن الحيز الأكبر من ذاكرتي عن تلك الفترة يشغله لحظات تمردي على هذه التوقعات وإصراري على كسر القوالب النمطية وكان الطريق الوحيدة لإعادة بناء حياتي هو العمل والسعي للاستقلال المادي.
سبع سنوات مضت منذ ذلك اليوم المشؤوم الذي فقدت فيه أب أطفالي، واتخذت ذلك القرار المصيري بالسيطرة على حياتي حيث أخرجت شهاداتي واستعملتها كسلاح في وجه الأقدار، ووجدت أن الثبات والاستقلال المادي كان الحل الوحيد لأضمن لي ولأولادي حياة كريمة سعيدة وطبيعية، حيث لا أعتمد فيها على أحد ولا أتوقع شيئا من أحد.
تمر السنوات ويتغير العالم، ولكن العنف ضد النساء ما يزال آفة حقيرة تنهش أجساد النساء، أسمع النساء من حولي يتحدثن عن علاقات تعيسة مؤلمة وعنيفة لا يملكن القدرة على الخروج منها، تقارير عن تقاعس الشرطة في حماية النساء المعنفات، تقاعس عن إيجاد المجرمين وزجهم في السجون، حالة من الفوضى تحتل مجتمعنا.
تقتل امرأة أخرى، أنظر إلى صورها وأصاب بالهلع، هي أيضا أم، لها أطفال هي كل حياتهم، يثيرني الفضول فأدخل أتصفح وأقرأ أكثر عن حياتها، هنا صورة في اسطنبول، هنا صورة في العيد، تشبهنني هؤلاء النساء، بأي ذنب قتلن؟ لا أحد يعرف ... "على مين الدور؟ " أسأل نفسي، أشعر بالرعب ... أتذكر كل النساء الذين سبق وتحدثت معهن "ليش بدكيش تتركيه؟ " " وين بدي أروح فش الي حدا "، " كيف بدي أربي 4 أولاد من وين أطعميهن؟ " ... أتذكر كلام أبي " علمك هو سلاحك يابا " وفجأة تختفي السخرية والضحكات وأفهم مقصد أبي. علمي وعملي هو سلاحي أشهره بوجه اللص الذي يحاول قمعي وسلب حياتي أنا وأخريات كثيرات شبيهات لي، نحن اللواتي لم يكن علينا القدر رحيما وتركنا وحدنا لنواجه العاصفة، العلم والعمل والاستقلال المادي منع عني قدرا أسود لامرأة تحولت إلى أرملة في مجتمع امتهن تعذيب النساء وتهميشهن.
في اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد النساء، أضم صوتي للأصوات التي تتهم الشرطة بتقاعسها في معالجة قضايا العنف ضد النساء، في عدم توفير الحماية لهن على الرغم من أن العنوان على الحائط، في عدم بذل المجهود اللازم للبحث عن المجرمين. نعم أنا أتهم الشرطة وأضع كامل المسؤولية عليها فهي الدولة ونحن كمواطنات ومواطنين ليست لدينا القدرة على القيام بدور الدولة، وعلى الدولة نلقي كامل المسؤولية للحد من هذه الآفة ولتوفير بيئة آمنة خالية من العنف لنحيا فيها، ولكن ... برأيي يجب ألا نغفل دورنا كمجتمع في مواجهة العنف ضد النساء. علينا نحن كمجتمع أن نسعى للتغيير من داخل المجتمع، وبالأساس في وعي النساء لمدى أهمية حصولهن على تعليم أكاديمي أو مهني بمستوى يمكنهن من الاستقلال ماديا واقتصاديا بشكل كاف، لمواجهة مصير محتمل مهلك كالوقوع في دوائر العنف على أشكالها. علينا نحن كمجتمع دعم النساء في اتجاه الاستقلال الاقتصادي، عن طريق التربية للاستقلال المعنوي والمادي، وتأهيلهن لمستقبل أفضل كعاملات في مجالات الهايتك وغيرها من المجالات التي تعد مهن المستقبل، أو كرياديات أعمال في مجالات غير اعتيادية للنساء كالعقارات أو الاستثمارات والستارت أب. علينا أن ندعمهن لكي يشغلن مناصب قيادية وإدارية، وعدم الاكتفاء بوظائف جزئية وأجور منخفضة. والأهم، علينا توجيههن مهنيا (إن كان في المدارس أو عن طريق أطر أخرى) بعيدا عن المواضيع التقليدية للنساء كالتعليم الذي يعاني من نسبة بطالة عالية، أو المواضيع "الخدماتية" الأخرى التي تعاني من شح في الأجور.
إن لم تكن المرأة مقتنعة تماما أنها مخلوق قوي مساو للرجل في قدراته وقدرته على إدارة الأمور والحياة بشكل مستقل، وإن لم تمتلك الوسائل الفعلية لتحقيق هذا الاستقلال، فلن نستطيع فعلا اقتلاع هذه الظاهرة من جذورها، وهذه الوسائل الفعلية تكمن في التربية للاستقلالية واكتساب التعليم والمهارات اللازمة للاستقلال الاقتصادي للنساء.
كما حمتني شهادتي وتعليمي الأكاديمي وتربيتي للاستقلالية التي نلتها منذ صغري من مصير أسود استطاع أن ينال من الكثير من النساء غيري قد مررن بظروف مشابهة، فأنا أومن أنه يستطيع أيضا حماية نساء أخريات من مصائر سوداء تتربص لهن بشكل مفاجئ وغير متوقع على حافة الطريق.
في الختام أود أن أذكرنا جميعا بالجملة الشهيرة للد. نوال سعداوي حين قالت " المرأة كالدولة إن لم تُعِلْ نفسها بمالها فالقرار ليس بيدها ".