شخصيتان وحدثان شيرين أبو عاقلة وسامي أبو شحادة

شخصيتان فلسطينيتان، كل منهما "ملأت الدنيا وشغلت الناس" في فلسطين هذا العام: الإعلامية المقدسية الراحلة شيرين أبو عاقلة والسياسي اليافاوي سامي أبو شحادة. الأولى فجرت ينابيع حب وحزن وغضب بعد وبسبب اغتيالها من قبل قناص إسرائيلي غادر فجر الحادي عشر من شهر أيار/ مايو الماضي، والثانية فجرت ينابيع حب وتعاطف وتأييد بعد وبسبب إقصاء الحزب الذي يمثله من القائمة المشتركة قبيل منتصف ليلة الخامس عشر من أيلول/ سبتمبر الماضي. لقد أصبحت شيرين بعد اغتيالها أيقونة فلسطينية، تمامًا كما أصبح سامي بعد إقصاء حزبه نجمًا سياسيًا لامعًا. ويسأل سائل من أهلها: ما كنه ذلك؟ بكلمات أخرى، ما الذي يفسر أولا ارتقاء شيرين إلى مرتبة الرمز أو الأيقونة، وما الذي يفسر ثانيًا ارتقاء سامي إلى مرتبة النجم السياسي اللامع؟ هناك أكمة في كل من الحالتين، وهناك ما وراءها أيضًا.

شيرين أبو عاقلة: تعطينا حالة شيرين أبو عاقلة، منذ لحظة اغتيالها على مدخل مخيم جنين وحتى لحظة دفن جثمانها في مقبرة صهيون قرب باب الخليل في مدينة القدس العربية، درسًا مكثفًا في مجال علم الأيقونات وصناعتها (iconology and iconography). وقد كنا شاهدين على صناعة هذا الرمز الفلسطيني أو تلك الأيقونة الفلسطينية. فما الذي كنا شاهدين عليه حقًا؟ لقد كنا شاهدين على، ومشاركين في الحزن الجارف على رحيلها، تمامًا كما كنا شاهدين على، ومشاركين في التعبير عن الحب الجارف لها والغضب الجارف على قاتليها الحاقدين. وقد كنا، نحن الفلسطينيين، موحدين في هذا الحب وهذا الحزن وذاك الغضب. هل وحدنا هذا الحب وهذا الحزن وذاك الغضب أم كشف عن وحدتنا في العمق رغم خلافاتنا/ انقسامنا على السطح؟ أترك هذا السؤال الفلسفي مفتوحًا. ولكن ما لا يجوز إنكاره أو تجاهله هو التالي: هذا التدفق من مشاعر الحب والحزن والغضب له علاقة مباشرة وحميمة بشخص شيرين، بأدائها المهني على مدار ما يقارب ثلاثة عقود، بقيمها الإنسانية والأخلاقية، بوطنيتها الصادقة، بطلتها الأليفة وابتسامتها الخجولة وصوتها الشجي، وبمخاطراتها المعهودة في سبيل الكشف عن جرائم المحتل ومظالم الواقعين تحت وطأته. لهذا الجرف من مشاعر الحب والحزن والغضب، إذن، ما يقابله من صفات وأداء ومناقب والتزامات الراحلة شيرين. تمامًا كما كان لجرف مشاعر الحب والحزن ما يقابله من صفات وأداء ومناقب الشاعر الوطني الفلسطيني الراحل محمود درويش من قبل. ورغم اختلاف ظروف الرحيل في الحالتين، والذي له علاقة برصاصة قاتلة لجندي احتلال حاقد في الحالة الأولى، فقد غدا كل منهما رمزًا وأيقونة.

سامي أبو شحادة: لا أعرف، كما لا يعرف أحد غيري، إذا ما كان سامي أبو شحادة ظاهرة سياسية عابرة أم باقية. ولكنني أعرف، كما يعرف الكثيرون مثلي، أنه ظاهرة سياسية لافتة على المستوى الوطني الفلسطيني العام، وعلى مستوى فلسطينيي الداخل خصوصًا. لقد بدأ نجمه يصعد قبيل وبعد ما جرى ليلة منتصف أيلول الماضي، ليلة تقديم القائمة الانتخابية التي يرأسها إلى لجنة الانتخابات المركزية في القدس، بعد أن تم إبعادها عن القائمة المشتركة. وإذا كانت الروايات حول الوقائع الغريبة لإبعادها متضاربة، إلا أن أعضاء وأنصار حزب "التجمع"، وكثيرون غيرهم من النساء والرجال، مالوا إلى تصديق رواية أبو شحادة وزملائه، وبالتالي، تكذيب رواية "الخصوم الجدد" أو التشكيك في صحتها. ولكن زخم التعاطف مع سامي وحجم التأييد للقائمة التي تصدرها فاق كل التوقعات، يشمل توقعات أعضاء وأنصار حزب التجمع. ورغم عدم تجاوز القائمة لنسبة الحسم، وبالتالي، خسارة التمثيل في الكنيست، إلا أن نجم سامي ظل لامعًا. فما كنه ذلك؟ وكيف يمكن تفسير هذه الغرابة؟

ذلك الفيض من التعاطف مع سامي والتأييد للقائمة التي كان يرأسها لانتخابات الكنيست ال ٢٥ لهما علاقة مباشرة وحميمة بشخصه، بطلته الواثقة وابتسامته الجاذبة، بدماثة خلقه وقيمه الإنسانية والأخلاقية، بأدائه الإعلامي، وبالمواقف السياسية التي ينادي بها ويروج لها بالجرأة والوضوح اللازمين. تلك صورته، أو، قل، تلك الصورة التي يبثها فيلتقطها على التو جمهور السامعين والناظرين. أترك للقارئ الناقد تحديد مدى العفوية، كما مدى الصنعة والحرفية، في تكوين وبث مثل هذه الصورة. أضف إلى كل ذلك، ففي لقاءاته مع الجمهور وعبر وسائل الإعلام، هناك تأكيد على أسبقية الأخلاقي على السياسي، وعلى أسبقية الوطني على المقايضات البرلمانية ذات العلاقة بالمخصصات والخدمات. ولهذا كله، فقد مال الكثيرون إلى تصديق روايته حول الوقائع الغريبة التي أدت إلى إقصاء التجمع عن القائمة المشتركة، تمامًا كما مال الكثيرون إلى احتضانه قبيل وبعد يوم الانتخابات في الفاتح من نوفمبر. وظل سامي بعد تلك الانتخابات، التي لم تتجاوز فيها قائمة التجمع نسبة الحسم، ظاهرة لافتة في المشهد السياسي في الداخل الفلسطيني، تمامًا كما كان أيمن عودة من قبل ظاهرة لافتة في ذات المشهد خلال فترة رئاسته للقائمة المشتركة، خاصة حين كانت في أوجها.

أما الحدث الأهم، الحدث الفارق، في انتخابات الفاتح من نوفمبر على مستوى القيادة السياسية لفلسطينيي الداخل، والذي يجوز تسميته "هزة أرضية سياسية"، فهو التالي: فقدان الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، والحزب الشيوعي في صلبها، موقع الصدارة في مجال التمثيل البرلماني، وهو موقع أشغلته وفاخرت بإشغاله منذ نشأتها قبل أربعة عقود ونصف. غني عن القول في هذا الصدد، بأن إقصاء حزب التجمع عن القائمة المشتركة، وما أعقب ذلك من تعاطف شعبي معه وتأييد لخطابه السياسي ولرئيس القائمة سامي أبو شحادة، ساهم إلى حد كبير في إحداث الهزة الأرضية السياسية المشار إليها. وستكون لهذه الهزة الأرضية السياسية، على الأرجح، ارتدادات وتبعات اجتماعية وسياسية بعيدة المدى على مستوى فلسطينيي الداخل، يصعب الآن استكناهها.

وأخيرًا، لم يكن اغتيال شيرين أبو عاقلة من ناحية، ولم يكن ما تمخضت عنه انتخابات الفاتح من نوفمبر من هبوط مكانة الجبهة وعدم تمثيل حزب التجمع في الكنيست من ناحية ثانية، أهم حدثين فلسطينيين في هذا العام. ولكنهما كانا، دون شك، حدثين فارقين، ورافقت كلا منهما مفارقة غير خافية: أصبحت شيرين أيقونة بعد أن خسرت حياتها، وأصبح سامي نجمًا سياسيًا رغم خسارة حزب التجمع لتمثيله في الكنيست ال ٢٥!


(استخدام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected]).

د. سعيد زيداني

أستاذ الفلسفة في جامعة القدس وجامعة بير زيت سابقًا

شاركونا رأيكن.م