تَناقُض العَمَل الشّبابي في ظلّ الإِبادَة الجَماعيّة والحَرب

من الصعب الكتابة عن العمل الشبابي في ظلّ الحرب، فكيف إذا كانت الحرب قد بلغت مستوى الإبادة الجماعية كما يحدث اليوم في قطاع غزة؟ الإبادة التي أَسقَطت كلّ القيم والمعايير الدولية، وأسكتت المنظومة الأمميّة عن أبسط مبادئ حقوق الإنسان، والقانون الدولي، والكرامة الإنسانية. هذا الانهيار الأخلاقيّ الشامل يجب أن يكون مدخلًا لمراجَعة جذرية، ومساءلة حقيقية: ما هو دورنا كشباب فلسطيني؟ وإذا كنّا عاجزين عن وقف الحرب، فهل نعجز أيضًا عن رَفض التّواطؤ معها؟

الواقع الصادم أن بَعض مؤسسات العَمَل الشّبابي اليوم باتت تلعب دورًا في تجميل وجه النظام العالمي القبيح، عبر قَبولها بالفتات الماليّ المَشروط من الدول المتواطئة مع جرائم الإبادة، وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي. لا يُمكن فهم استمرار هذه المؤسسات بالعمل كما لو أن شيئًا لم يحدث؛ تنظّم ورشات عن "الريادة" و"التميّز" و"الابتكار" بينما الأرض تحترق وأشلاء الأطفال تملأ شاشات العالم.

ما نراه هو حالة انفصال تامّ عن الواقع، تقدِّم فيها النخب العاملة مع الشباب مشاريع تنمويّة لا علاقة لها باحتياجات الشباب الحقيقية، بل تساهم في تفريغهم من الهمّ الجمعيّ، وتوجيههم نحو خَلاص فردي وهميّ. بدلًا من بناء صمودهم في وجه الاستعمار، وتعزيز تنظيمهم الذاتيّ، يُعاد إنتاج نخب جديدة قادرة على التحدّث بلغة المموّل، لتقول ما يُريد سماعه.

لقد أَدّى اتساع نموذج "العمل الشبابي المموَّل" إلى تهميش المبادَرات الذاتية والقاعدية التي كانت تُبنى من قلب الأحياء والمخيمات. المبادرات التي كانت تبدأ بجمع تبرّعات صغيرة، أو بمبادرة طلابية، أو حتى بِلقاءات في السّاحات، أُحبطت أو أُقصيت لصالح مشاريع مصمَّمة مسبقًا في مكاتب المنظمات، بلغات أجنبية، وبمصطلحات لا تَمتّ للسياق الفلسطيني بِصِلَة. كثير من المبادرات المقاوِمة حُوصرت لأنها ببساطة لا "تنسجم" مع أهداف الممِّول.[1][2][3]

إن هذا المشهد يعيدنا إلى ما كتبه فرانز فانون في "معذبو الأرض":

"إن عدم استعداد الطبقات المتعلّمة، وانعدام الروابط العمليّة بينها وبين جماهير الشعب، وكَسَلها، بل وجُبنها في اللحظة الحاسمة من النضال، كلّ ذلك سيؤدي إلى كوارث مأساوية."

والكارثة المأساوية اليوم واضحة: إبادة جماعيّة في غزة، وتطهير عرقيّ في الضفة الغربية.

لكن قَبل أن تقع هذه الإبادة، كانت الأرض قد مُهّدت لها من خلال عمل شبابي مدجَّن، تقوده مؤسسات قَبِلَت التّمويل المشروط، وساهَمَت في تطبيع خطاب الممّول وتقييد اللغة، حتى بات مجرّد استخدام مصطلحات مثل "إبادة" أو "مقاطعة" محظورًا داخل بعض هذه المؤسسات. 

باتَت هذه النُخب تُدين النضال الفلسطيني ضمنيًّا أو صراحةً، مقابل الاستمرار في التّمويل، وتحوّلت إلى أدوات ناعمة في يد النظام الدولي الذي لم يوقف المجازر بل بارَكَها أو صَمَت عنها. بَدَل تعزيز وعي الشباب بطبيعة النظام الاستعماري، تعمل المؤسسات على إعادة إنتاج قِيَم "الرجل الأبيض"، كما أشار فانون أيضًا:

"في السياق الاستعماري، لا يُنهي المستوطن عمله إلا عندما يعترف المواطن الأصلي بصوت عالٍ بسيادة قيم الرجل الأبيض."

وهكذا يُنتَج جيل من الشباب المستهلِك، المَقطوع عن واقعه السياسي، المؤمن بأن خلاصه في الرّيادة والحاضِنات والمشاريع الصّغيرة، في مقابل تراجع جذري في الخطاب الجمعي والنضالي.

الفارق الجوهري بين المشاريع الفرديّة ومبادَرات التحرّر الجماعية هو أن الأولى تبحث عن نجاة شخصية، والثانية تنبع من فهم جذري للاحتلال كمنظومة يجب مواجهتها. لا يمكن تحرير فرد بمعزل عن الجماعة، ولا معنى لـ "التمكين الاقتصادي" إن لم يُقرن بفعل سياسي يضع فلسطين في المركز.

وحتى حين تقدّم بعض هذه المؤسسات مساعدات لغزة، فإنها لا تتجاوز في كثير من الأحيان وجبات طعام رمزيّة، بينما يذهب جزء كبير من التّمويل لتغطية النفقات الإداريّة ورواتب الموظفين الكبار التي قد تتجاوز 6 آلاف دولار. فالمساعدة هنا ليست موقفًا أخلاقيًّا، بل أداة لتلميع الصورة أمام المموّل وتحسين فرص استمرار المشروع.

وكما كتب فانون أيضًا:

"إذا حَرِصنا على استخدام لغة يفهمها خريجو القانون والاقتصاد فقط، يُمكننا بسهولة إثبات أن الجماهير يجب أن تُدار من الأعلى."

هذا بالضبط ما تفعله هذه المؤسسات: إدارة الشباب من الأَعلى، بخطاب نخبوي، دون وعي سياقي أو مساءَلة حقيقيّة، ودون بناء وعي نقديّ نابع من تجربة الاستعمار المباشرة.

لكن... لا يزال الأمل موجودًا.

رغم هذا الظلام، فإن العمل الشبابي الحقيقي لم يُقمع بَعد. لا يزال ينبض في مخيمات اللاجئين، والقرى المهدّدة بالمصادرة، وفي المبادرات الذاتيّة لشباب لم ينتظروا دعمًا ولا تمويلًا ليبدأوا. في شعارات على الجدران، في مبادرات لإغاثة غزّة خارج أطر المؤسسات، في ندوات حرّة تُعقد رغم المنع.

هؤلاء هم من رَفَضوا التّدجين، وواجهوا الواقع كما هو، ليس بوهم "التّمكين" النيوليبرالي، بل بإيمان عميق أنّهم جزء أصيل من مجتمع مناضل، لا فئة مستهدفة ببرامج تمويل.

إن تحرير العمل الشبابي اليوم يبدأ بفك الارتباط مع النظام التّمويلي المشروط، وإعادة الاعتبار للمسؤولية الجَماعيّة والتنظيم الذاتيّ، والعودة إلى الشارع، إلى الفعل السياسيّ، إلى المواجهة سياسيًا، لا إلى التّجميل.


[1] https://www.aljazeera.net/politics/2024/5/16/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%85%D9%88%D9%8A%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B7-%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A7-%D8%B4%D8%A8%D8%AD-%D9%8A%D8%B7%D8%A7%D8%B1%D8%AF

[2] https://badil.org/ar/press-releases/13767.html

[3] https://badil.org/ar/press-releases/3262.html

حازم أبو هلال

باحث في علم النفس المجتمعي وموجه مجموعات.

رأيك يهمنا