الهِجرَةُ في زَمَن الحَرب: أَسئِلَةُ المَصير وتَحدّياتُ المُستَقبَل

في ظلّ حَرب الإبادة المُستمرّة والتدمير المُتزايد، باتت تساؤلاتُ المصير والمستقبل تُسيطر على أحاديثِ الناس. شبابٌ وشاباتٌ لم يُفكّروا في الهِجرة يومًا، بَدأَ الخوف يَتسلّل إلى أفكارهم مَع تزايد الصراع وانهيار بُنية الحياة اليومية. أَجبرَ التهجيرُ الجماعيّ الذي شهِدته غزة ولبنان، إضافةً إلى تصعيد سياسات القمع بِغَرَض تكميم الأفواه ومَنع التّعبير عن مواقف الإنسان الفلسطيني تجاه الحرب الوحشيّة ضد شعبه، أَجبرَ الناسَ على مواجهة واقعٍ مرير. كما أنّ انهيار التعليم وتدهور الاقتصاد الإسرائيلي أثّر بشكل مباشر على الأقليّة الفلسطينية المرتبطة بتغيّر حالة الاقتصاد الإسرائيلي، مما أثّر سلبيًا على وضعها الاقتصادي والاجتماعي وأشاع التخوّف مِن أبعاد هذه الخسائر عليها. بالإضافة إلى تَفاقم الأزمات النفسيّة والذهنيّة، مما جَعل المستقبل يبدو أكثرَ غموضًا. أمام هذا الواقع، بدأت الهجرة تتصدّر النقاشات، مع انعدام اليقين بشأنِ ما يَحملُه الغد.

البَقاءُ أَم الرّحيل؟ مُعضِلة الفلسطينيين في الدّاخل

لا تتبنى هذه المقالة موقفًا سياسيًا محدّدًا تجاه الهجرة أو البقاء، بل تَسعى لتسليط الضوء على الحالة العامّة. لا تزال الأغلبية العُظمى مِن الفلسطينيين مرتبطةً بأرضها وبيتها، حيث تُعدّ العائلة الفلسطينية رمزًا للصمود، رَغم التهجير القسريّ المستمر، إذ تُشكّل هذه الذاكرة الجماعية الموروثة عبر الأجيال عاملًا رئيسًا في تحديد الهويّة والمصير. يَعيش الشباب الفلسطيني في الداخل المُحتلّ هذا الصراع بشكل يوميّ، إذ تتراوح تساؤلاتهم بين البقاء والصمود أو الهجرة بحثًا عن الأمان والاستقرار في ظلّ استمرار الحرب.

تَصعيدُ الهُجوم والقَصف في غزّة ولُبنان 

تشهدُ المنطقة تصعيدًا خطيرًا منذ بداية حرب الإبادة التي شنّها الاحتلال الإسرائيلي على غزّة ولبنان قَبل نحوِ عام، استهدفت إسرائيل بنية تحتية كبيرة في غزة، مما أدى إلى ارتقاء أكثر من 41,000 شهيد وفقًا لتقارير وزارة الصحة في غزة. وفي الوقت الذي يَستمر فيه القصف على غزة، تحوّل التركيز العسكري الإسرائيلي نَحو لبنان، مما تسبب في نزوح كبير للسكان من جنوب لبنان باتجاه بيروت وسوريا والمناطق التي تُعتبر حتى الآن آمنة نسبيًا.

بالإضافة إلى ذلك، ازداد عدد الشهداء في لبنان جراء العدوان الإسرائيلي ليصل [حتى كتابة هذا المقال] إلى أكثر من 1500 شهيد، في حين بَلَغ عدد الجرحى أكثر من 5 آلاف معظمهم من المدنيين، بما في ذلك أطفالٌ ونساء. تَعكس هذه الأرقام حجم المعاناة الإنسانية الناتجة عن التصعيد العسكري المستمر، مع استمرار الهَجمات الجوية على المناطق المأهولة في لبنان وغزة، مما يؤدي إلى نزوح واسع النطاق للسكان وإزهاق المزيد من الأرواح.

تحوّلت هذه الحرب إلى حربٍ وُجوديّة لجميع الأطراف، وهناك تحذيرات بأنها سَتشهد تصعيدًا أكبر في حال عَدم تحقيق إسرائيل أهدافها العسكرية، ويزيد هذا الأمرُ القلقَ العام عند الناس مِن جَرّ هذه الحرب لتكون حربًا إقليميّة شاملة.

أَزمَة العُنف والجَريمة في الداخل الفلسطيني

في عام 2024، شَهد المُجتمع الفلسطيني داخل إسرائيل ارتفاعًا غير مسبوق في معدلات العُنف والجريمة، حيث تجاوز عدد الضحايا 170 قتيلًا منذ مطلع العام، تُعدّ هذه الأرقام الأعلى في تاريخ هذا المجتمع، وتُؤكّد تفاقم أزمة الجريمة. أحد الأسباب الرئيسَة لتصاعد هذه الظاهرة هو انتشار الأسلحة غير القانونية على نحوٍ واسع.

هناك اتهامات موجهة للسلطات الإسرائيلية بالتقاعس عن التعامل بجدّية مع الأزمة، حيث يرى كثيرون أنّ عَدم التدخّل الجاد يُعزز شعور الفلسطينيين في الداخل بالإهمال والتهميش. على الرغم من أن الفلسطينيين يشكلون نحو 20% من السكان، فإن نسبة الجريمة بينهم تَفوق بكثير نظيرتها في المجتمع اليهودي.

كما أن للعنف المستشري آثارًا اجتماعية ونفسيّة خطيرة على المجتمع الفلسطيني، حيث يعيش العديد من الأفراد تَحت تهديد مستمر، ما يسبب ضغوطًا نفسية كبيرة على الأُسر، ويؤثر بشكل مباشر على حياة المجتمع اليومية.

أدى استمرار حرب الإبادة الوحشية وتفاقم العنف والجريمة داخل المجتمع الفلسطيني إلى أزمة مركّبة تهدد بقاءه. دفع انعدام الأمان والحماية العديد من الفلسطينيين إلى التفكير في الهجرة، حيث فَقَد البعض الأَمَل في تحسّن الأوضاع، بينما استاء آخرون لدرجة اتخاذ قرارٍ بترك البلاد بحثًا عن الأمان والاستقرار.

الهِجرَةُ أَم البقاء: أَسئِلَة مَصيرّية تُواجه الشَباب الفِلسطيني

في ظلّ التدهور المُستمر في الأوضاع السياسية والاجتماعية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، يَطرح الشَباب الفلسطيني اليوم أسئلةً مصيرية تتعلق بمستقبلهم. كَشابة فلسطينيّة ناشطة اجتماعيًا، وَجَدتُ نَفسي مضطرة لطرح هذا السؤال الجوهري الذي يَفرضه الواقع المَعيش: "هل نبقى هنا ونواجه التحدّيات المتفاقمة، أم نختار الهجرة بحثًا عن بداية جديدة، بعيدًا عن الحرب ومخلّفاتها؟".

البَقاء في مُواجَهة الحَرب أَم الهِجرَة؟

يجدُ الشباب الفلسطيني الذي عاش سنوات من الصراع والتوترات المتصاعدة نَفسه اليوم على مفترق طرق. يعتبر البعض أن البقاء هو الخيار الطبيعي والوحيد للحفاظ على الهوية والصمود أمام محاولات التهجير المُمنهج. بينما يرى آخرون أن الهجرةَ أصبحت ضرورة مُلحّة في ظل الانهيار النفسي والاقتصادي الذي فرَضته الحرب والجريمة داخل المجتمع.

تقول إحدى الشابات: "أكثر سنة اقتنعت فيها بالهجرة هي السنة التي فهمت فيها كلّ ما يَجري حولنا. كلّ شيء مخطط له لدفعنا إلى الرحيل طوعًا". بينما يرد آخر: "البقاء هو الجواب. صُمودنا هو بقاؤنا، والهجرة تعني أننا نَخسر كلّ شيء".

يعكِس هذا التناقض في الآراء الصراعَ العميق الذي يعيشه الفلسطينيون اليوم. يرى البعضُ أنّ البقاء واجبٌ رغم التضحيات الهائلة، بينما يرى آخرون أن الهجرة هي الحلّ الأمثل لضمان مستقبل أفضل. حتى بين المؤيدين للهجرة، هناك من يعتقد أن العودة إلى الوطن في نهاية المطاف حتميّة، لأن أيّ مكان آخر سيكون مؤقتًا.

الهِجرَةُ كَحلّ أَم مَأزق؟

من جهة أخرى، يُشير البعض إلى أن الهجرة قد تكون جريمة بحقّ الذات والوطن، وأن البقاء، رغم تكلفته العالية، فهو الخيار الأكثر احترامًا للتضحيات التي قُدمت على مدار عقود من النضال. لكن آخرين يرون أن الهجرة ليست خيانة، بل هي محاولة للبحث عن حياة كريمة بعيدًا عن واقع الحرب والدمار الذي دمّر حياتهم نفسيًا واقتصاديًا.

كما عبّر أحد الشباب عن معاناته قائلًا: "هذه الحرب دمّرتني نفسيًا واقتصاديًا وأكاديميًا، والعنف والجريمة في مجتمعنا عبء ثقيل". وفي السياق نفسه، عبّر شاب آخر عن رأيه مستندًا إلى قول محمد الماغوط: "الوطن حيث تتوفر لي مُقوّمات الحياة، لا مُسبّبات الموت"، ليختار الهجرة على أمل إيجاد حياة أفضلَ في مكان آخر.

الصِراع المُستَمرّ بين الانتماء والغُربة

تُلخّص هذه الآراء المتباينة الصراع الداخلي الذي يعاني منه كثير من الفلسطينيين. تبدو الهجرة خيارًا مرغوبًا فيه بسبب الدمار النفسي والاقتصادي الناتج عن الحرب، لكن البقاء يظل رمزًا للصمود والتمسك بالأرض. هناك اعتراف بأن الهجرة قد تكون مؤقتة، وأن العودة إلى الوطن قد تكون ضرورية، ما يعكس الشعورَ العميق بالانتماء رغم التحديات.

خاتمة: قَرارٌ بين الهُروب والصُمود

في نهاية المطاف، يَبقى القرار بين الهجرة والبقاء مسألة معقّدة تَحمل في طيّاتها العديد من التحديات والآمال. الهجرة، بالنسبة للبعض، هي هروب مِن واقع مؤلم بحثًا عن حياة جديدة، بينما يعتبرها الآخرون خيانةً لفكرة الصمود والبقاء على الأرض. لكن سواءً اختار الفرد البقاء أو الرّحيل، فإن الخيارات تظلّ محفوفة بالصعوبات في ظلّ تصاعد العنف والجريمة التي تَخنق المجتمع الفلسطيني في الداخل المحتلّ. ومع استمرار هذه الظروف القاسية، يبقى السؤال مطروحًا: أي الخيارين هو الأكثر واقعيةً وأقل كلفةً على المدى البعيد؟

هديل زطمة

ناشطة اجتماعيّة من مدينة الناصرة

عدي
احسنتِ تلخيص الحال! مقال جميل نحو بداية ثقافية مشرقة لك
الخميس 3 تشرين الأول 2024
رأيك يهمنا