بقطراته المشتهاة، عزف لحنه رقيقا على شبّاكها المشرف على الكون، لينتشلها من حلم كانت قد تناولته على عجل ساعة الصباح الطازج. كان شباك مخدعها مشرعا للشمس والمطر، تُراقص الهواء والنجوم، ستائرُه البيضُ تتكسر إغواءً.. كان بإمكانه الولوج دونما استئذان.. لكنها الأخلاق.. دفعته للطرق، والتريث قليلًا ريثما تغسل وجهها من شذرات حلم كاد أن يلتهمها، لولا طرقات وئيدة على الزجاج أيقظت في التراب رائحته المحمومة للبدايات، معلنة نهاية حلم تعثر فتبعثر.. وتناثر ممزوجا بعبق الأرض الأخّاذ، بفعل قبلة أرسلتها السماء ذائبة في دموعها، ليفرّ من الدمع ملحه، فيصير رحيقا.. تتراقص النحلات على جداوله وترتوي، ثم تحلق عاليا، عاليا..

جاءها نيسان على غير ما اشتهت، مثقلًا بالمطر، ليداهم نهارها الذي تأهب لدغدغة ضوء ربيعي دافئ، بعد شتاء طويل وبارد، لم تدرك أنه كان يحاول غسل آثار الوحل عن خطوات آذار الراحل، بعد أن سحب معه ما سحب من السنديان العتيق.. وبعض الزنابق الغضة.

ولم تنتبه أن آذار في غفوتها كان قد أخطأ موسم الحصاد، فاستلّ منجلًا مسمومًا ليحصد سنابل الأرض خضراء. ليرحل عنها ذهبها قبل موسم الذهب، الآتي.

احتضنت نيسان الخلوق الذي استأذنها وانتظر، رغم شوقه وحنينه، ليدخل حجرتها المقدسة، مداعبا خصلات شعرٍ غجري تناثرت بكامل فتنتها على خدّين مضرجين بالورد، صحة... وجمالًا فطريًّا، لم تعبث في ثناياهما اللّدنة مباضع الجرّاحين المجمّلين يومًا...

كانت متصالحة مع ذاتها بما يكفي كي تنام بسكينة، وتنهض بتؤدة.. وتبتسم لمرآتها الشاحبة..

لا همّ الأمس يضنيها ولا سرّ الغدّ يؤرقها.. لولا فضول جارتها، وتطفلها على دقائق حياتها، بحثًا عن تفاصيلها.. المخبوءة.. التي يجهلها الكون.. والتي لا تخص أحدا سواها..

نهضت كأميرة كسولة، مدت ذراعيها ذات اليمين وذات الشمال.. تثاءبت بأناقة، تلكأت قليلًا قبل أن تغادر الفراش، لا شيء في أجندتها لهذا الصباح، سوى ممارسة الحريّة، فاستنشقت كل ما منحتها السّماء منها.. وكل ما منحها نيسان من عطور.. ألقت نظرةً خاطفة على مرآتها، تفقدت نقاء بشرتها الحمراء المغبّرة، وازدادت إعجابًا بالتضاريس المتراصّة في جسدها المستدير المزدان بالنتوءات..

كان نيسان يدفعها بقوّة نحو النافذة، لتلقي نظرة على جارتها البعيدة... التي بدت اليوم أبعد من ذي قبل، فقد لاذت -على غير عادتها - بصمت مريع، وهي التي ثقبت الآذان والقلوب بضجيجها الذي لا يهدأ، وضوضائها الخانقة.

مضى زمن طويل وجارتها الثرثارة منهمكة بكلّ ما تملك، في الجراحة التجميليّة، ورغم سحر جمالها الفطري، إلا أنها كانت مهووسة بالاستئصال والنفخ.. والشدّ.. الذي لم يَهبها سوى تشويهًا، تلو تشويه.
وحدها من لاحظ تشوّه الجارة، عندما كانت ترنو إليها عبر نافذتها البعيدة، فتشفق عليها بصمت، متابعة مسلسل انهيارها البطيء الذي لم تكن المسكينة تدركه، أو لعلّها كانت تهرب بتجاهله، من مواجهة صادمة مع الحقيقة.

فتلك غاباتها الممّتدّة قد بدأت تذوي وتتلاشى تدريجيًّا، وجداولها الرشيقة اضمحلت بعد أن التهمتها العقاقير الفائضة عن حاجة الحقن والتجميل، لقد استطاعت أن ترى بوضوح كل ما حلّ بالمسكينة من خلال ثقب امتد شرخه عميقا وطويلا، في درعها "الأوزوني" الواقي.. ولم يكن الوصول إليها ونصحها واردًا.. وليست آذانها مشرعة للإصغاء.. فقد كانت منغمسة، حدّ الثمالة بعناق شيطان الاستحواذ الذي استولى على قلبها، فدفعها إلى تملّك كل ما يحيط بها.. حدودها السّماء وأبعد، لا شيء يزلزل اعتقادها بأنّ مجرّات الكون كلّها قيد تصرفها.

لعل التحديق من هذا الثقب البائس قد غرّر بي، حدثت نفسها وقد تشوشت في حدقتيها الرؤية، والتبست على روحها الرؤيا.

فلم تكن جارتها الجميلة هي من يسعى للتجمّل والاستحواذ، لو دققت النظر قليلا لاستطاعت أن ترصد تلك الفطريات التي نمت فوق جلدها الأسمر، وتكاثرت حتى صارت مستعمرات لا يهدأ تدفقها، وأطلقت على نفسها اسم "المجتمّعات البشريّة". وبدأت تلك المجتمعات تنظّر، وتطبّق نظرياتها فتضيف وتحذف، تبني وتهدم، مشوّهة في كل مرّة جانِبًا جميلًا، بعضها اكتفى بالاستحواذ على كل ما خلق الله، وبعضها كان يصبو للاستحواذ على الإله نفسه!

حمدت الله أن لا بشر يستوطنون وجهها، وأنها في معزل عن آلياتهم، وأطماعهم، وأن سنوات الضوء تقيها من فضولهم، ودمارهم. يبدو أنها نسيت أدوات النبش والحفر التي أدمت خدّيها.. إنها آلياتهم التي لم تستطع طردها.. تألّمت بصمت وهي تمسح عن وجنتيها آثار بعض الخدوش التي خلّفتها رحلة استكشافيّة، قام بها مسبارٌ فضولي دقيق، حَبا كنملة سامّة فوق ملامحها الصامتة بحثًا عن غاز "الميثان".. مستكشفا أنواع الحجارة والصخور التي تشكّلت في المكان..

لم يتورّع ذلك المسبار القزم عن نبش عيونها.. فخدش نظرتها الرقيقة بصلافته المستفزة.. تذكرت ألمها ذاك وهي تحدّق بالكُرة المسكينة مثقوبة الدرع، الهادئة على غير العادة، فبدا لها أنها تحتضر، وقد تضّخم ورم عجيب على خدّها الأيسر، بينما غاص الأيمن في ضمورٌ عميق.. مشكلا عاهة أطلقوا عليها للتمويه، اسم غمازة!

كان الخدُّ الأيسر مُنهمِكا بابتلاع ثمار الخدّ الأيمن.. حتى امتصّ كل عسله، ونفطه، فأصيب بالتخمة.. التي تحوّلت إلى ورمٍ خبيث ممعن في الاستفحال..

وفجأة ساد الصمت.. صمت اليمين والشمال..

صمت مريب أتاح لها الإمعان في النظر مليا، لتشاهد عري غريمها جليا ومعيبا..

فقد كان منكمشا في ثنايا تلك البقعة المتورّمة، يختبئ كفأر مذعور، في إحدى غُرف قصره المنيف.. التي بدت بكل رفاهيتها، جحرا حقيرا غارقا في المعقمات.. وكان يهذي: لا بُدّ أنه فايروس أحمق، لا يعرف من يكون "أيلون ماسك"... أيجرؤ على الوصول إليّ؟ لا، استحالة.. أنا الذي هزمت المجرات، أتهزمني نقطة مغمورة تحت المجهر؟

وكلما ألح عليه الهذيان، كانت غرفتهُ تلك تضيق وتضيق وهو يزداد اختناقًا، وذعرا.. وهلوسة.. وتقزما..

لم تنس أن أيلون ماسك كان قد اخترق مدارها عنوة، فلم تطق النظر إليه مطولا، ولم توله المزيد من الاهتمام. تجاهلته والتفتت بعيدا عن قبحه، نحو الغابات، أرهفت السمع وأمعنت النظر طويلًا..

أذهلها المشهد المنتفض من تحت الردم بموسيقاه التصويرية الأصيلة، منذ متى تلاشى انسكاب الخرير موشحا بحرير الزقزقات؟ ها هي تعود محلقة في تلابيب الروح نقية، فتتبعها أسراب لحرائر الفراشات تتسابق منتشية، على غير هدى، دون مطاردة، عازفة برفرفةِ أجنحتها المتحررة ألحانًا جديدة للحياة.. تنتظر، بلا ضجر على حافة وريقة سوسنة، ريثما تنتهي نحلة دأبت شغفا على مهمتها، تمهلها حتى تمتلأ وترحل، لتفترش بدورها المخمل البنفسجي ملاذا، وجنة أبدية..

الشوك لا يخز النوّار.. بل يغمزه للنهوض والانعتاق من القاع، فيدفع اليباس، يوقظه وينقذه، من سباته الموسمي تحت بشرة التراب الخمري، لتمتدّ بلا وجل، سيقان شقائق النعمان، جذلى، تنتصب رشيقة كالنخيل لتعانق السماء.. فقد غابت أيدي القاطفين.. وتراقصت الغزلان على هذه السمفونية الخرافية، غير آبهة بالصيادين، لا صيادين بعد اليوم..

لم تعد فضلات البشر تحجب العشب البري عن شمسه وكلوروفيله.. وتوقفت عن دفنه، منذ أسابيع.. فدفنها، لينقلب السحر على الساحر، مفترشا نفسه سجّادة امتدت على امتداد الجرح، لتصلِّي فوقها الأشجار خاشعة، بعد أن توضّأت بمطر نيسان المُعمّد بالخزام وإكليل الجبل. وطالت صلاتها.. واستجيب الدّعاء..

فانهمر المطر الحر مُرًّا، يحاول أن ينسج للشمس بُحيرة من إكسير، لتستحم فيها، وتسبح وحدها بلا تماسيح تبتلعها، ولا هوام تحوم حول شعرها المبلول بأريج النوّار.

ذاك الصباح لم تسمع الشمس ولا البُحيرة ولا الأقمار ولا الكواكب، ضجيج احتكاك القطارات بسكك الحديد.. ولم يزعجها طنين الطائِرات الحائمة كناموس بِلا ناموس حول الآذان..

لكن الروائح بدأت تختلط، لتشوّش المشهد الساحر المرصود من عينين للتو أيقظهما نيسان، لحسناء أمعنت النظر عبر ثقب آخذ بالضيق، لحسن حظ جارتها الموبوءة. أنه قد بدأ يضيق..

تأفّفَ أنفُها الصغير ممّا استنشقَ.. رائحة احتراق للحمٍ بشريّ مُنتهي الصلاحيّة.. مئات من الأجساد المنهكة تراصّت مرقّمةً بلا أسماء، كسبائك ذهب.. بدأت تنصهر في بوتقةٍ واحدة.. لم يقِف إلى جانِب النعوش مودّعوها.. ولم يُسكب الوردُ والبَخّور. ولا تُليت الآيات..

أليس سُكّان الأرض فريقين؟ واحد يُحاصر أرضهُ فيخنِقُها وآخر تُحاصِرهُ الأرض في مترين تُرابًا، فتخنقه.. ليس قبل أن تشيعه دموع الملتاعين على فراقه؟ أدهشتها وآلمتها فوضى اختلاط الفريقين، وغياب المشيعين، والأرض التي لم تفتحُ كعادتها، عيونها لاحتضان المكدسين في النعوشِ، والنعوش بمن فيها سُرعان ما تناثرت رمادًا فدُخانًا بعثرهُ الأثير.. وتلاشى.. تواروا بلا وداع، ولا شواهد، كأنهم لم يكونوا..

أمعنت في ملامح الراقدين في انتظارِ أدوارهم في بوتقة المحرقة، لم تتبينها، بالكادِ لمحت رؤوسَهُم التي كان يغزوها شيب خريفي.. تألّمت على صمتِهم، وسكبت على رمادهم المبعثر دمعة لم تروِهِم.. فقد كانت بعيدة.. في فلك بعيد.. خيّل لها أنها لمحت جدهم الخليل بينهم، وقد تدلى فأسه على كتفه المكبل بأغلال الشوك، بعدما أجهز على جميع الأصنام، التي لا حول لها ولا قوة، فاضحا عري عجزها الدفين، ساخرا من خدعة كبيرة.. من بطش مزعوم، موهوم.. استعرت ألسنة اللهب تعانق خاصرته، تراقصها رقصتها الوحشية، لم تدر أكانت ناره بردا وسلاما، أم سمّا وسهاما؟

أسدلت جفنيها في محاولةٍ بائسة للهروب إلى سُباتٍ يُنسيها ما لمحت عَيناها وما استنشقَ أنفُها.. لكن خدوش جسدها ذكّرتها بالوعد.. الذي قطعهُ "أيلون ماسك" على نفسه، بأن َيُرسِل لاحتلالها، مليون بشري، سيصلونها مع حلول العام 2060! بغية الاستجمام..

وقبل أن يغلبها النُعاس الذي هيأتهُ السَكينة.. حيثُ لا مِسبار يَطرُقُ أنفَها.. ولا حرَكَةٌ تُثير قَلقها.. تراجعت خَجِلى واعتذَرت لِخالِقها: ربّ سامحني على هذهِ الإثرة التي تَعلمتُها من أُختي الأرض.. مسكينَةٌ أُختي..

ثُم نهضت تركُض على أطراف أصابِعها وأعادت النظر إلى الكُرة الأرضيّة الصامِتة.. وهي تذوي تَدريجيًّا.. حيث لم تَعُد تُكفيها العقاقير.. ولم تَعد قادِرة على استنشاق الأُكسجين.. أشفقت على حالِها.. واحتارت.. كيف تمدّ لها يَد العون؟ أينفعها غاز الميثان الذي لا أمتلكُ سِواه؟ لمَ لا؟ فقد يكون وحده القادر على دحر هذا الوباء الذي اجتاحها من حيث لا تدري..

تساءلت الكُرة المرّيخيّة.. وهيَ لا تزال في حالةٍ من الاضطِراب على مَصير شقيقِتها.. ومن وعد "أيلون ماسك".. لكن اضطرابها أخذ يتضاءل كلما تشوشت رؤيتها.. فقد كان الثقب المهول الذي من خلاله رصدت تلك الأحداث، ينحسر ويزداد التئامه فيحجب عنها الرؤية.. ورغم الغبش الذي سببه هذا الشفاء، فقد استطاعت أن تلمح عَبرَهُ، تدفق الأخضر يانعا في موطنه بعد غياب طويل..

عند قدمي العشب لمحت نوح الأخير، يراقب حركة العناكب التي دأبت من جديد على غزل الحرير من لعابها، لتعيد حياكة النسيج المطعون..

لم يرسل الغربان للامتحان، ولم ينتظر غصنا غضا في منقار حمامة، فمنذ اقتلع الزيتون من موطنه ما عاد الحمام يتغمد أفنانه طوقا للنجاة.. فقد وُئدت النجاة كما وُئد العدل.. يوم وُئد زيتون الأنبياء.. وذبح الحمام..

أغمض نوح عينيه المقروحتين، بعد أن وقعتا على قعر سفينته التي جفت حدّ التشقق. والانكسار، ولمّا تلح أضواء المرافئ بعد.. تشبثت عيناه بحركة العنكبوت، لا حراك، ولا متحرك سواه، تضاعف نشاطه وهو يرتق بإصرار ثقب العالم الذي فضه العالم بيده، يوم أوغل في الهتك..

منذ فقدت الأرض بكارتها، لفعوها بألف عار.. وقرر المغتصب محوا للعار، أن يكرر خطيئته، فحملت منه، لتتوالد من رحمها المدنس الزلازل والبراكين فتتدفق بلا توقف..

قرّي عينا أختي الأرض، فلعلك بعد هذا الصمت وهذا الخراب ستولدين من جديد، وستهزين نخيلك المتمايل ثقلا، وتلدين بلا ألم، بلا دنس.. لن تلدي اللقطاء بعد.. احرثي باطنك النقي، لا بد فيه ما أضاع البشر من إنسانيتهم.. فها أنا العاقر، وها أنت الولّادة.. وليس كل أولادك عاقّين..

وقبل أن يسدّ الضوء ما تبقى من هذا الخرم الضيق، حيث كانت تشاهد من خلاله الحقيقة عارية، نفخت عَبرهُ آخر فقاعة حب:

يا بنيها، وأنتم تولدون، لا تلتفتوا وراءكم! فقد اكتظت أرض سدوم الجريحة بأعمدة الملح الشاهقة، سيروا حفاة نحو الآتي، كي لا تدنسوا قدسيته.. وأطعموا البقرات العجاف، فهناك ما يزيد ويفيض من ذهب سنابلكم..

 


كاتبة المقال: إيمان بكر حمدان وهي معلمة لغة عربية وصاحبة مقهى مجاز الثقافي في شفاعمرو.

إيمان بكر - حمدان

معلمة لغة عربية وصاحبة مقهى مجاز الثقافي في شفاعمرو

شاركونا رأيكن.م