دور الإعلام الاجتماعي في تحديث التجربة الوالدية
يعتبر مصطلح الوالدية مصطلحا قديما-جديدا، فهو يعني الوالدين اللذين يقومان برعاية وتربية أطفالهم، فيقومان بالتنشئة الاجتماعية من خلال تمرير القيم التربوية والمعرفية التي تؤهّل الطفل ليكون فردا في العائلة ومن ثم جزءا من المجتمع الأوسع.
لذا يعتبر دور الأهل في حياة الطفل دورا رئيسيا هاما، لا يعوّض بأي وسيلة أو مرجعية أخرى، وتحديدا في السنوات الأولى من حياة الطفل. وهذا يعني أن لا بديل للأهل!
بين هذه السطور، سأقوم بتسليط الضوء على تجربة الوالدية الحديثة والمتأثرة من منصات التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة، على أثر انتشار استعمالنا لها كأهل وتواجدنا المكثف عبر الشاشات المختلفة.
مع ولادة ابني الأول قبل ما يقارب العشر سنوات، كان اعتمادي الأساسي بالبحث عن المعلومات في مجال الحمل، والولادة والتربية من خلال اقتنائي للكتب أو استعارتي لها من صديقات أو من المكتبة العامة. كان الكتاب رفيق دربي، الذي ألجأ إليه كلما احتجت معلومة أو أردت التأكد من معلومة معينة أو حتى اتباع خطوات معينة في المراحل الانتقالية والمعابر.
في الأفق، كانت هناك بعض التطبيقات الجديدة والمفيدة، والتي كانت ترافق المرأة الحامل خلال حملها وولادتها بإيصال المعلومات العلمية المرتبطة بالموضوع لتسهيل تجربتها الشخصية.
أستطيع أن أصرّح أنه كان لدي انبهار كبير بهذه التطبيقات لكنها لم تكن مصدر معلوماتي الرئيسي، وقد كنت حذرة من استعمال الهاتف بشكل دائم ومستمر، ففي حينها، كانت الصورة واضحة بأن الهاتف جهاز يمكننا السيطرة عليه!!
مع ولادة ابني الثاني، بعد أربع سنوات، كانت الحياة مختلفة فقد أصبح هذا الجهاز الصغير- الهاتف، مرافقة أساسيا لحياتي الشخصية ولحياة كل من حولي.
أربع سنوات كانت كفيلة بتغيير تجربتنا الوالدية من حيث تعاملنا مع مصادر المعلومات السريعة والمتاحة، قضاء أوقات الفراغ وتخليد لحظاتنا الجميلة في صور وفيديوهات.
أحيانا أقارن نفسي مع نفسي، فأجد أن ذكرياتي مع طفلي الأول مدوّنة في مذكرات مكتوبة وراسخة في الذاكرة ومحكية فيما بيننا داخل العائلة، لنجد أنفسنا- أنا وزوجي، نستعيد الذكريات ونسترجعها من خلال أحاديثنا الدائمة عما كان، أما ذكرياتنا مع طفلنا الثاني فهي مرئية داخل كثير من الصور والفيديوهات في الهاتف وحاضرة معنا بكل لحظة فتعيدنا للحظة نفسها بسلاسة وسهولة.
هذا الجانب الجميل من لحظات الوالدية تؤثر بما عاصرناه خلال سنوات قليلة، ففي الحالتين ذكريات أطفالنا محفورة في قلوبنا، إلا أن التجربة نفسها اختلفت، ففي الأولى كان الذهن صافيا مرتاحا لا يركض وراء المعلومة بكبسة زر، وكانت لحظات الوالدية كاملة لا يتداخل بها أي تأثير خارجي -صناعي، أما في التجربة الثانية فكانت تجربة خاصة جميلة بتفاصيلها الصغيرة المحفوظة، يرافقها كم هائل من المعلومات المتاحة بين أيدينا وأيدي الاخرين.
في الحالتين كانت هنالك تحديات مختلفة تؤثر على تجربتنا وعلاقتنا مع أطفالنا، لكن الأثر التكنولوجي كان تأثيرا ملحوظا وصارخا عبر السنين.
بعد أربع سنوات من ولادة ابني الثاني، حصل ما حصل وعشنا جميعا تحت طائلة جائحة كورونا فتغيرت معالم حياتنا عامة وتأثرت تجربتنا الوالدية والعائلية بشكل خاص. تغييرات مفاجئة داهمت حياتنا، فجعلت أفكارنا، مشاعرنا وسلوكياتنا تختلف. كانت هناك الصدمة الأولى- صدمة جماعية عالمية، ومن بعدها أخذت حياتنا شكلا جديدا.
جزء منا أصابته حالة ذهول وجمود، فتوقف به الزمن هناك عند لحظة البدء، وجزء آخر كانوا بحالة هروب واستسلام مما كان، فغابوا بعيدا في غياهب الحياة وجزء أخير كانوا بحالة بحث وعمل مستمر من أجل اجتياز ما كان والوصول لبر الأمان.
بين كل ما كان وحصل، أكملنا دورنا الوالدي كأهل ...
في هذه المرحلة، تداخل دوري الوالدي كأم مع وظيفتي كمرشدة أهل، فحاولت بناء ما يناسبني ويجعل حياتي وحياة الأشخاص من حولي أكثر سهولة. فكرت كثيرا وبحثت عن حلول داخل زحمة البيت المكتظة بالألعاب والصاخبة بالصراخ تحت مظلة الإغلاق الأول.
عندها انطلقت من حاجتي الشخصية للتعبير عن خوفي، قلقي وتوتري من الوضع القائم، فبدأت بعمل تسجيلات صوتية تحكي عن مشاعري فتحاكي مشاعر من يسمعها، فتصلني الإجابات بكل لهفة وحماس.
كان تفاعل الناس مع ما أقدم هو بذرة حسنة زُرعت في الأرض فأنبتت تواصلا قويا ومتينا يعبّر عن حاجاتنا كأشخاص للتواصل والاتصال، كم بالحري في ظل ظروف صعبة مثل جائحة كورونا. ففي هذه الأيام، تواجدنا جميعا- أطفالا وأهالي أمام الشاشات، تواجدنا لساعات طويلة، هروبا من الجائحة وعبورا لعالم جديد مختلف. كل من عبر لن يستطيع الرجوع!!
فها نحن الآن هنا، قد وصلنا لعالمنا- عالم مليء بالشاشات والعيون المترقبة والنفوس المشتاقة للمعرفة. معرفة ما هو جديد ... معرفة معلومات تفيدنا بتعاملنا مع أنفسنا، مع أزواجنا، أطفالنا وعائلاتنا ... معرفة ما يدور في العالم القريب والبعيد من مجريات أحداث خاصة وعامة ... معرفة ما نعتقد أنه يصلح لتحسين والديتنا وتطويرها.
في ظل كل هذه المعرفة، نحتاج لأن نعرف ما يناسبنا كأهل ويتلاءم مع ظروف حياتنا الوالدية والعائلية، دون الانغماس بالتقليد أو المقارنة أو الإحباط مما شاهدنا أو سمعنا، لأنه ما بين الموجود- كم كبير من المواقع، والفيديوهات، والتسجيلات وجلسات الإرشاد الفردية والجماعية، التواصل مع المختصين\ات والحصول على الإجابة بسرعة، وما بين المنشود- والدية صالحة تهتم بالتفاصيل الصغيرة والكبيرة لتزرع في نفوس أطفالها الطمأنينة والراحة والقوة، هنالك حاجة كبيرة للتوقف والتأمل واختيار ما يناسبنا ويناسب أطفالنا.
بعض الأسئلة التي يمكنها أن تساعدنا في تحديد خياراتنا في ظل الظروف الراهنة، هي:
ما هو دوري في حياة أطفالي؟ كيف أريد لهذا الدور أن يكون؟
كيف أختار ما يناسبني؟ ما الذي يمكنه أن يساعدني في ظل كم المعلومات الكبير القائم؟
هل أنا راض كأهل عن العمل الذي اخترت؟ إذا لم أكن راضيا، فماذا سأفعل؟
الإجابات ستوضح لنا كيف المسير.
في الختام، نتذكر سويا، أن عشر سنوات من حياتنا كانت كفيلة بتغيير حياتنا بشكل كبير، ففي ظل هذه التغييرات يبقى دور الأهل هو الدور الثابت في ظروف غير ثابتة، والذي نحتاج للتشبث به والحفاظ عليه من خلال اكتساب المعرفة وملاءمتها لنا ولعائلاتنا.
كاتبة المقال: رباب قربي وهي مرشدة أهالٍ متخصصة في مجال الوالدية، العائلة والجنسانية ومديرة مركز "محطات".