الإعلام البديل كأداة للتأثير على السياسة والمجتمع وصياغة الوعي
فقدنا الاتصال الشخصي المباشر أو نكاد. حوّلنا الإنترنت إلى مجتمع مشبّك عبر أجهزة التصوير، والهواتف الذكية، والحواسيب، والفيديو. أبدلنا الإنترنت الواقع الحقيقي إلى الواقع الافتراضي. والواقع الافتراضي هذا لا تجد فيه المعلومة فقط، بل ترى من ينشرها ويعلّق عليها وينتقي منها ما يريد، وما يرى أنّه قد يخدم رؤيته ووجهته.
لم يحدث للتكنولوجيا أن تتطوّر بالسرعة التي نراها الآن، حتى الجيل الذي خلق والحاسوب جزء من حياته يصعب عليه أن يستوعب ويواكب ما يجري الآن. حتى من كبر على فيسبوك والإعلام البديل، بات لا يعرف اليوم ما يجري في تيك توك. الغالبية العظمى من الناس من كافة الشرائح المجتمعية والعمرية أصبحت مرتبطة بالجهاز الذكي الذي بحوزتها ولا يمكن العيش بدونه بأي شكل من الأشكال. وهو ما يشكّل ارتباطًا فسيولوجيًا عميقًا مع الأجهزة وما بداخلها من تطبيقات مختلفة، سواءً للتواصل الاجتماعي أو أيّة وسائل أخرى لقضاء الوقت والترفيه عن النفس.
غيّر هذا كلّه المشهد الإعلامي، وبالتالي السياسي: الزعامة التقليدية تراجعت أكثر، الصحف أصبحت أشبه بالفلكلور وتراجعت شعبيّتها (إلا من كان قادرًا على التأقلم مع الإنترنت والنيوميديا)، المقالات تنحصر في النخب السياسية والأكاديمية ولا تستقطب عامة الناس. التلفاز لم يعد المنصّة المركزية التي يتابعها الناس، ويقتصر متابعوها على دقائق من الأخبار في ساعات المساء لمتابعة ما يجري من مستجدات وحقائق. حتى شكل القنوات التلفازية صار أقرب إلى ألفة شكل مواقع التواصل الاجتماعي. حتى التلفاز لم يعد تلفازا، بل أقرب إلى شاشة عرض.
أمّا الملاعب والمراكز والأطر الشبابية التي كانت ساحة حشد سياسي وحزبي واجتماعي للشباب، فتكاد أن تختفي. وتحلّ محلّها وسائل التواصل الاجتماعي، وخصوصًا التيك توك. حتى وصل الأمر إلى إطلاق اسم جيل التيك توك على الجيل الجديد من قبل الكثيرين، وباتت هي التسمية الرائجة لهم.
هبّة الكرامة، والحال كذلك، شكّلت علامة فارقة.
من لا شيء، سوى هاتفٍ وقضيّة عادلة، نقل الشقيقان محمّد ومنى الكرد قصّتهما إلى فلسطين، بل أبعد، إلى العالم. انتفض الشباب الفلسطيني على كافة السياسات الاستعمارية التي انتهجتها إسرائيل مع الأهل في الشيخ جراح ويافا ومحاولات التهجير التي برزت معالمها بشكل أوضح من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. سطّر الشباب من خلال هذه الوسائل نموذجا قياديا جديدا يتحدى وينتفض ويناضل ويرى في وسائل التواصل أداة أساسية لإيصال صوته ورسالته العادلة إلى كل مكان في العالم.
والمشاهدات التي حصدها التفاعل مع الهبّة ومسبّباتها وصل مستوى مشاهدات غير مسبوق، لم تنجح فيه مؤسسّات كبرى ولا زعامات تاريخية وتيارات وأحزاب.
كانت للشباب الفلسطيني مقولته، التي شكّلت عاملا فارقًا في المعركة على الرواية أمام نظام إسرائيلي يستثمر الملايين (وإن لم يكن المليارات) للترويج لسياسته أمام العالم من خلال شراء أقلام وانتداب مثقفين وفنانين وموارد ضخمة في الإعلام الرسمي والتقليدي والإعلام البديل من شبكات تواصل اجتماعي. وعلى الرغم من كل هذا، وقف جهاز الترويج الإسرائيلي مشدوهًا أمام قوّة وحضور الشباب الفلسطيني وداعمي القضية في كافة أنحاء العالم.
أزال الإعلام البديل حواجز كبيرة. بدلا من الكاميرات باهظة الثمن جاءت كاميرا الهاتف. بدلا من سيارات البثّ طائلة الأثمان جاء إنترنت الهاتف. بدلا من الاستديوهات الفارهة جاء الميدان. بدلا من اللغة الفصيحة جاء الشارع بكل شتائمه. بدلا من المقال جاء الشعار على الجدار. بدلا من الخطبة السياسية المتشّعبة والمملّة، جاء الهتاف السياسي في التظاهرة قصيرًا، واضحًا ومباشرًا.
لم يحدث من قبل أن أصبح تداول الخبر بهذا السرعة. وأحيانًا، يكون الشارع أسرع حتى من وتيرة الأخبار السريعة أصلا. متى خسرت قنوات، من قبل، المنافسة لأنّها تأخرت بضع ثوانٍ في نشر خبر؟
الشباب الذي كان ظهوره على شاشة لها جمهور واسع مجرّد حلم، أصبح له جمهوره الواسع الذي يبحث عنه. فيكفيه أنّ يدخل إلى صفحته في أيٍّ من وسائل التواصل ويمرّر ما يريد من قناعات ورسائل مختلفة قد تصل إلى ملايين المشاهدات وتحوز على قدرة كبيرة في صياغة الرأي العام المجتمعي وبل العالمي في بعض الأحيان. وأصبح الفيديو القصير أو المنشور المقتضب هو ما يحدد حجم المقالات، إذ يضطرّ الكتاب لأنّ يتكيفوا مع هذا التغيير ويعملوا على التقليل من حجم مقالاتهم والاختصار فيها، تباعًا لما يجري في وسائل التواصل الاجتماعي مثل فيسوك كما وسائل الكتابة المستقلة والمنتديات والمنصات المختلفة.
أمّا بالنسبة للرقابة على المضامين لكل ما نراه في وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات المستقلة والفردية فهي شبه معدومة، وتقتصر على رقابة من قبل شركات التواصل الاجتماعي التي تضع للمستخدم قيودًا تزداد عامًا بعد آخر. لكنّ عنوان هذا الإعلام: التحرّر. التحرّر من منابر السلطة، ومن أدواتها أيضًا، ومن مفهومها للسيطرة على المضامين المنتشرة بالذات في القضايا السياسية والاجتماعية. فهناك تحول كبير في العلاقة بين المعلومة والسلطة الحاكمة، بحيث صارت القوة غير متمكنة من احتكار المعلومة واقتصار المعرفة عليها، فنجد قدرة كبيرة على بث المعلومات والمشاهد والصور والتطورات لعدد كبير من الناس بشكل غير منضبط وانسيابي.
أمّا وسائل الإعلام التقليدية فقد يراها الكثيرون محافظة أكثر من أي وقت مضى على وسائلها المعتادة، ولا تقبل بالرضوخ للتحول الكبير الذي يحصل حول العالم. رغم ما يبذلونه من مجهود وتطوير لحضورهم في الصفحات المختلفة لوسائل التواصل الاجتماعي، والتي في حالات مختلفة تحصل على متابعة أكبر من تلك الوسائل التقليدية.
هذه المرحلة التي نعيشها تشهد ترديًا واضحًا في كل ما يتعلق بالإعلام التقليدي وبالأخص المكتوب منه. فمبيعات الجرائد أصبحت غير قادرة على تغطية مصاريف إصدارها، وحوانيت الجرائد التي اعتادت أن تمرّ عليها الأجيال السابقة قبل وصولها للعمل لتتبع ما يجري حول العالم أغلقت أبوابها. والصحف الحزبية لم تعد منتشرة وحل مكانها كل أدوات الإعلام البديل ووسائل التواصل الاجتماعي.
الميدان في مكان، وخطابنا السياسي في مكان آخر. جسر الهوّة بين الميدانين ليس مستحيلا، لكنّه يحتاج أدوات، لصياغة الوعي وصقل الشخصية والتأثير على تنشئة جيل جديد واعٍ وواعد يحمل رؤيا وفكر ومشروع لخدمة ذاته وكسب ذلك لمصلحة شعب ومجتمع ننتمي إليه ونسعى لتطويره ورفع قضاياه وحمل همومه.
كاتب المقال: يوسف طه وهو طالب ماجستير في كلية العلوم الاجتماعية في جامعة تل ابيب، ناشط سياسي ومستشار إعلامي.