ملاحظة حول ضرورة ضبط عالم الطب النباتي في فلسطين

لقد حبا الله فلسطين، على صغر انبساطها، بتنوع جغرافي مناخي مميز، بدءا بجبالها السامقة، ومرورا بخاصرتها الساحلية، فصحرائها ووصولا لأغوارها، مما وفر لأرضها تنوعا بيئيا معقدا استوطن فيه ما يربو عن 2600 صنف نباتي، وهو أكثر من ضعف ما ينمو في بريطانيا على اتساع مساحتها. وقد أظهرت الأبحاث التي أجريناها ان قرابة ربع الغطاء النباتي لفلسطين قد تم استخدامه علاجيا وفقا للموروث الطبي العربي الاسلامي، وهي نسبة غير مسبوقة عالميا وتفوق ما هو قائم بكل الثقافات، والتي يتراوح فيها معدل ما استخدم لغرض العلاج بحوالي 5-7% من مجمل نباتها، وذاك في أحسن الحالات. ما زال الفلسطينيون يستخدمون، لحد هذه اللحظة، أكثر من مئة وخمسين نبتة طبية محلية في حياتهم المعاصرة، هذا فضلا عن عشرات الانواع النباتية المستجلبة من مختلف أصقاع المعمورة والثقافات، والتي بات الناس اليوم يتداولونها على نطاق عالمي. هذه الصحوة المتعاظمة على مستوى الوعي والاهتمام بقيمة هذا المجال الصحي، لا شك أنها تعكس حالة إدراك حقيقية وشاملة، خلافا لما كانت عليه قبل عقدين من الزمن.

ففي عام 1997 أجرى كاتب هذه السطور، خلال عمله في مركز الابحاث والتطوير المنطقي، بحثا ميدانيا حول اوضاع الطب النباتي في التجمعات الفلسطينية على طرفي الخط الأخضر، حيث تم استطلاع أبرز المعالجين الشعبيين (حوالي 50 معالجا) الذين توزعوا على مناطق الجليل والمثلث والنقب والضفة الغربية وبعض اجزاء الجولان السوري المحتل. اذا ما استثنينا نفرا قليلا ممن ورثوا مهنة التداوي بالأعشاب عن آبائهم وعايشوها واقعا حقيقيا على الطبيعة، وانغمسوا في التعرف على النباتات الطبية وخصائصها ومعرفة أنجح اساليب تحضير العقاقير الشعبية منها، فقد كشف هذا البحث عن واقع متدهور لجموع المعالجين الشعبيين في مستوييه المعرفي والعملي، كان ينذر، في حال استمراره، بانقراض هذا الجانب الحضاري في المنطقة المعنية. لم يتمكن غالبية المعالجين الشعبيين من التعرف الا على عدد ضئيل من النباتات الطبية وتحديد خصائصها العلاجية، وتعويضا عن ذلك لجأوا إلى استخدام الوصفات التي تقدمها العطارة التقليدية والتي بدورها تعاني من هزال واضح في بلادنا. لقد وصل الامر ببعضهم حدا جعله يستخدم نبتة واحدة في معالجة كافة الامراض والعلل، وبدلا من توسيع آفاقه ومعرفته ""جنـّد"" الشياطين والجن لتحقيق ""نتائج"" علاجية عالية.

تلك المعطيات المقلقة وغيرها من المواقف السلبية التي كانت تهيمن على عقول الأهل وجيله الشاب على وجه الخصوص، وأولها رفض فكرة جدوى الطب النباتي واعتباره ممارسة بدائية منتمية لحقبة ما قبل الحداثة قد أكل عليها الدهر وشرب.. هذه النظرة قد تبدلت ايجابا على نحو لافت لدى كافة الفئات العمرية وقطاعات المجتمع الفلسطيني بما في ذلك فئة الأطباء والصيادلة، وذاك وفقا لنتائج بحث ميداني آخر أجريناه قبل ثلاث سنوات. لمزيد من الدقة، فمن المفيد التنبيه هنا أن مجتمعاتنا العربية، ولسخرية الأقدار، أبقت على حضور موروثنا الطبي, ليس بالضرورة من باب الاعتراف بأهميته وإمكانياته الهائلة، وإنما بالذات لكونه الملجأ الأساسي لفقراء الناس في حصولهم على احتياجاتهم الصحية والطبية والتجميلية، في ظل غياب محزن للتأمين الصحي والخدمات العلاجية المناسبة لأبناء المجتمع في معظم البلدان العربية. محنة الموروث الطبي الشعبي في فلسطين قد لا تشذ جوهريا عن واقع الطب الشعبي في العالم العربي، لكن مأساته تتضاعف لكونه يكاد يخضع لوصاية شبه كاملة من قبل الباحثين الإسرائيليين، وغالبيتهم ذوو توجه صهيوني ينزع إلى استجماع ما سلم واستبقي في الذاكرة والممارسة الطبية الشعبية، وتوظيفه في مهمة تأكيد مشروعية الاستيطان في بلادنا وأحقيتهم المزعومة في روايتهم التاريخية السياسية على هذا البلاد. كثيرة هي الاصدارات العبرية المتعلقة بهذا المجال، والتي تبدأ بالتحايل على أهلنا باسم العلم والتوثيق، لاقتناص ما أمكن من معلومات، ثم تتناولها بالتحريف والتقطيع والتوصيل، لتنشر تحت عناوين توراتية وتلمودية مثل كتاب ""نباتات الرمبام الطبية"" او ""الأعشاب الطبية التلمودية وخصائصها اليهودية"" وغيرها الكثير الكثير. إذا كان بوسعنا تحمل هذا الواقع الغريب، فيه الباحث المهاجر المستوطن يكاد يهيمن بشكل كامل على ثقافتنا وتاريخنا في هذا الحقل الهام، ويتلاعب به خدمة لمشاريع سياسية، فإن الأكثر إيلاما أنك وعندما تبحث عن جوانب علمية لهذا الموروث في الأدبيات العلمية الحديثة، ستكتشف أنهم في طليعة من يتحدث عنه وينطق باسمه.

هذا الوضع المشوه هو تحديدا ما دفع بنا، بصفتنا فلسطينيين متنوعي الاختصاص بهذا المجال، لاعتراضه من خلال جهد بحثي منسق، شمل أغلب وجوه موروثنا الطبي لاستعادته إلى الأيدي العربية، وقد أطلقنا على هذا المشروع الهام اسم: "" مشروع احياء الطب العربي""، حيث حقق الكثير من أهدافه بنجاح لافت. على مدار حوالي ثلاثة عقود متواصلة، عمل طاقمنا البحثي المشتمل على متخصصين في الكيمياء والصيدلة وعلم النبات والأحياء والأطباء، على إجراء الأبحاث الميدانية المختلفة، ومراجعة أهم الأدبيات الطبية العربية القديمة والحديثة، وفحص درجة السمية والفعاليات البيولوجية والدوائية لأبرز النباتات الطبية المستخدمة في موروثنا الطبي، وتجريبها خلويا وعلى نماذج حيوانية مخبرية... وصولا لأبحاث سريرية منضبطة ونشر المقالات العلمية والكتب المرجعية. أن التغافل والاهمال المحزن لتراثنا الطبي يحمل في طياته خطرا ثقافيا بالغ الاذى، فضلا عن كونه يشكل اهدارا عبثيا لطاقات اقتصادية هائلة كامنة فيه.

على الرغم من ان الطب العربي موثق جيدا في الكتب والأدبيات القديمة، ويعتمد فلسفة وأساليب فريدة ومميزة، وما زال يوفر مصدرا لعلاجات طبية وتجميلية للملايين من سكان الشرق الاوسط وحوض البحر الأبيض المتوسط حتى هذه اللحظة، الا انه ما زال يعاني من الاهمال وتسوده فوضى عارمة وخطيرة، لهذا تسلل إلى مفاصل هذا العالم الجميل الكثير من المدعين الذين لا يملكون الحد الأدنى من المعرفة العلمية، ولا علاقة لهم حتى بقواعد المعالجة الشعبية الأصيلة، فجعلوا منه فرصة للارتزاق والاغتناء السريع، مما الحق به ضررا كبيرا.

إن الارتقاء بمتطلبات الخوض في هذا المجال، يستدعي العمل الرسمي المثابر في اعادة تنظيمه، بدءا من الاعتراف به بصفته جزءا من النظام الصحي الرسمي، وضبط فوضى الاصدارات والمنتجات المنتحلة صفة العلم والثقافة، وذاك من خلال اعتماد منظومة كاملة من التشريعات والتقييدات على العاملين بهذا الحقل، وخاصة في ما يتعلق بالتأهيل العلمي وأخلاقياته، مما سيفضي بالأكيد لتشكيل حاجز يصعب تسلقه من قبل أولئك المتطفلين، ويعيد الاعتبار لهذا الموروث العظيم من جهة، ويؤمن تحقيق الإمكانيات والجدوى الفعلية صحيا واقتصاديا وتنمويا، من ناحية ثانية.

كاتب المقال: د. عمر سعيد وهو باحث مختص في علم الأدوية والعقاقير، حاصل على لقب دكتور من معهد العلوم التطبيقية ""التخنيون"" بحيفا، مختص في بحث التأثير الدوائي للمستخلصات العشبية المستخدمة في الموروث الطبي العربي، ويعكف مع فريق من المختصين على مراجعة وتطوير الموروث الطبي العربي الإسلامي وتحريره من إسار التشويه الذي اعتراه قرونًا خلت، نحو الانطلاق في تأصيل الحديث وتحديث الأصيل في عالم الطب النباتي المتوسع تباعا.

الصورة: لنبتة الخلة المستخدمة في الطب النباتي من تصوير د. عمر سعيد في قرية الحدثة."

د. عمر سعيد

باحث مختص في علم الأدوية والعقاقير، حاصل على لقب دكتور من معهد العلوم التطبيقية "التخنيون" بحيفا، مختص في بحث التأثير الدوائي للمستخلصات العشبية المستخدمة في الموروث الطبي العربي، ويعكف مع فريق من المختصين على مراجعة وتطوير الموروث الطبي العربي الإسلامي وتحريره من إسار التشويه الذي اعتراه قرونًا خلت، نحو الانطلاق في تأصيل الحديث وتحديث الأصيل في عالم الطب النباتي المتوسع تباعا

شاركونا رأيكن.م