سياسة الإقصاء العنصرية بالتعليم تجاه طالبي اللجوء في إسرائيل وتكريس الفوقية اليهودية
لجأت الأقلية الفلسطينيّة في إسرائيل إلى المحاكم الإسرائيليّة بقضايا التعليم بمواضيع نستطيع حصرها بمجالين مركزيين: الأول هو مطلبّي والذي تندرج بداخله قضايا متعلقة بتخصيص الموارد والميزانيّات لتحسين مناليّة التعليم لدى الأطفال بالبلاد. أبرز الالتماسات للمحاكم بهذا الشأن تتعلق ببناء مدارس جديدة وتحسين أوضاع مبان قائمة أو توفير سفريّات للأطفال أو شق طرق لإتاحة وصول الطلاب إلى المدارس (خاصة في القرى غير المعترف بها) وزيادة الملكات لوظائف تعليميّة مهمة لمنع التسرب وما إلى ذلك من قضايا يكون المطلب الرئيسي ماديًا بالأساس استنادًا إلى حق المواطنين الفلسطينيين بالمساواة بالتعليم. أمّا المجال الثاني الذي برزت فيه المرافعات القانونية فهو اكثر "دفاعي" يتعلّق بحق الأقلية الفلسطينية بالدفاع عن حقها بالتعبير عن الرأي والاستقلالية الثقافية بتمرير مضامين تعليميّة تتوافق والذاكرة الجماعية. كذلك لجم محاولات الجهاز الأمني التدخل بالمضامين التعليمية وبتعيين المدرسّات والمدرسّين وما إلى ذلك من محاولات سلطوية حاولت فيها الدولة تدجين الفلسطينيين بواسطة تلقينهم مواد تتعارض مع تاريخهم الجمعي والثقافي. وفيما تستند معظم المرافعات على ادعاءات دستورية تنحصر بين الحق بالمساواة ومنع التمييز بممارسة الحق بالتعليم ومناليته والحق بالتعبيرعن الرأي فأننا قد لا نرى التماسات برز فيها إدعاء العنصرية تجاه الفلسطينيين. فادعاء التمييز وفقًا للقانون الإسرائيلي لا يحتاج لأي بيّنات تثبت النيّة بالتمييز ويكفي إثباته بالإشارة إلى المحصلة. على سبيل المثال إذا اكتشف أن عدد ملكات ضبّاط الدوام للمدارس اليهوديّة قياسًا لعدد الطلاب يفوق نسبة ضباط الدوام المسؤولين عن المدارس العربية قياسًا لعدد الطلاب عندها يكفي الأمر لإثبات ادعاء التمييز ولا حاجة للإتيان ببيّنات دامغة تثبت أن السلطة فعلت ذلك بنيّة الإساءة المباشرة للعرب. أما إدعاء العنصرية فيحتاج لدليل مباشر يثبت أن الإقصاء أو عدم توفير الموارد كان متعمدًا ومباشرًا استهدف المساس بحق الطلاب العرب.
ولعل أبرز القضايا التي نستطيع فيها إثبات النهج العنصري هي تلك المتعلقة بقبول طلاب عرب لمدارس غير عربية وهي قضايا تكاد تكون نادرة لأسباب عديدة أولها خيار العربيّ الطبيعي تسجيل أولاده بمدارس عربيّة. لذا كان من الطبيعيّ أن تنال قضية الطفل تمير حسنين عام 2005[1] اهتمامًا إعلاميًا خاصًا وذلك لرفض بلدية الّلد تسجيله بمدرسة يهوديّة بادعاء أن اندماجه بمدرسة يهودية قد يمس بمصلحته كطفل لأنّ المدرسة تقع في حارة يهودية وجميع طلابها يهود ومنهاج التعليم فيها غير معد للطلاب العرب. كان من السهل بهذه القضية إقناع المحكمة بأن الحديث عن قرار عنصري موجه ضد الطفل كونه عربيًا مما حذا ببلدية اللد (المختلطة) بالتراجع عن قرارها وتسجيل الطفل. شبّهت قضية حسنين بقضية الطفل الأفريقي الأمريكي براون[2] والذي أقرت فيه المحكمة العليا الأمريكيّة أن الفصل بجهاز التعليم بين الأمريكيين الأفارقة وغير الأفارقة هو لاغ حتى إن ثبت أن الموارد المخصصة للجهازين التعليميين المنفصلين هي متساوية وذلك لأن الفصل ومنع إمكانية الاندماج بين الطلاب يمأسس دونيّة الفرد الأفريقي ويمس بكرامته وبقيمة الفرد المتساوية بين جميع البشر.
خصوصيّة الأقلية الفلسطينية في إسرائيل وخيارها استغلال إمكانية التعلم وفقًا لجهاز تعليمي عربي مستقل نوعًا ما واتباع استراتيجية محاولة تحسين وضعه القائم وليس مطلب الاندماج مع المدارس اليهودية لا تستطيع أن توفر لنا مقياسًا واضحًا لمدى عنصرية الجهاز التعليمي في إسرائيل في كل ما يتعلق بفتح امكانية الاندماج لمن لا ينتمي للأغلبية السائدة المهينة. قضية حسنين أعلاه كانت استثنائية ولا تعكس حجم أي ظاهرة تخص العرب بهذا الموضوع.
محاولة فهم مدى تجذّر التفرقة العنصرية بالجهاز التعليمي تحتاج إلى طلاب لا ينتمون إلى الأغلبية العرقية أو القوميّة المهيمنة المعنيين بالاندماج بالنظام التعليمي الإسرائيلي وعلى عالرغم من ذلك يجدون أنفسهم منفصلين بمدارس خاصة تشملهم فقط. تلك هي حالة الأفارقة اللّاجئين في إسرائيل الذين لجأوا للمحاكم مرارًا لفرض اندماجهم بمدارس يهودية عادية وعدم فصلهم بمدارس خاصة فيهم فقط. سألقي الضوء على قرار المحكمة المركزية في تل أبيب الذي صدر بشهر تموز الأخير (2022) والذي مأسس العنصرية ضد الأفارقة طالبي الّلجوء في البلاد متبينًا حيل التمييز العنصري لبلدية تل-أبيب.
يتواجد اليوم في البلاد نحو 300 ألف طالبي لجوء سياسي من أصول أفريقية معظمهم من السودان وإيريتريا دخلوا البلاد في الأعوام 2008- 2012. يحظر القانون الدولي إبعادهم الى دولهم نظرًا للخطر على حياتهم سواء لأسباب عرقية أم لنزاعات سياسيّة كانت نتيجتها بالكثير من الأحيان تنفيذ مجازر بحق عوائلهم. وتشير الباحثة القانونيّة د. تامي هارئيل شاحار من جامعة حيفا[3] إلى أن معظم الأطفال الأفارقة المتواجدين اليوم بجهاز التعليم الابتدائي ولدوا في إسرائيل. يعيش الآلاف من طالبي اللجوء في مدينة تل أبيب وتم تركيزهم بثلاثة أحياء جنوبيّ المدينة. واجه الأفارقة ظواهر عنصرية عديدة منذ أن أتوا البلاد وتحديدًا في تل أبيب حيث تم التجند الجماهيري على يد سكان محليين الذين طالبوا بطردهم من الأحياء التي سكنوها وسط تأييد بعض من أعضاء البرلمان الإسرائيلي الذين نعتوا الأفارقة بصفات منحطّة تفوح منها رائحة العنصرية.
منع طرد الأفارقة إلى بلدانهم يلزم الدولة المستقبلة (الحاضنة) دمجهم بالمدارس المحليّة. قامت إسرائيل بتركيز غالبية أطفال اللاجئين الأفارقة بمدارس وحضانات خاصّة منفصلة عن المدارس الحكوميّة العامة بالمدينة مما حذا بمؤسسات حقوق الإنسان بالتوجه للقضاء مطالبين إلغاء سياسة بلدية تل أبيب تركيز الأطفال الّلاجئين بمدارس خاصة ومنع اندماجهم مع باقي الطلاب الإسرائيلييّن. وفي الإلتماس الذي تقدت به جمعية حقوق المواطن في إسرائيل والعيادة القانونية لسياسات التعليم في كلية الحقوق بجامعة حيفا (بواسطة المحاميين هاران رياخمان وطال حاسين) طالب الملتمسون وعددهم 764 تغيير سياسة تسجيل الطلاب الأفارقة التي لا تتيح المجال أمامهم إلا الالتحاق بمدرسة مكونة فقط من طلاب أفارقة. أسند الملتمسون إداعاءتهم على أبحاث عالمية ومحلية تثبت أن فصل الطفل اللاجئ عن السكان المحليين بسلك التعليم يؤدي إلى دنو تحصيله التعليمي وتكريس مكانته الدونية وعدم الإتاحة له بالتطور الطبيعي وفقًا لقدراته. كما تدل الأبحاث عامة بقضايا التعليم أن أفضل طريقة لمساعدة الفئات المستضعفة عامة بالخروج من الفقر هي دمجهم مع الأغنياء. فدمج "القوي" مع "الضعيف" يأتي بالفائدة عليهما سواء للمدى القريب او البعيد. تركيز فئة مستضعفة مع بعضها يخفض سقف التوقعات منها بينما غربلة الأقوياء مع الضعفاء يجعل التحديّات أكبر ويشعر فيها الطفل بقيمته الأنسانية المتساوية لباقي الأطفال دون علاقة لانتمائه العرقي او لون بشرته. وشدد الملتمسون عن رغبتهم بالشعور بالانتماء للمكان الذي ولدوا فيه ورغبتهم بكسب اللغة والصداقات لتعزيز هذا الانتماء.
أنكرت بلدية تل ابيب أي نية مبيّتة لفصل الأطفال الأفارقة اللاجئين عن باقي الاسرائيليين مستندة إلى القانون الذي يلزم تسجيل الأطفال للمدارس وفقًا لمناطق تسجيل جغرافية. وبما أن معظم اللاجئين يسكنون بحارات متقاربة فالنتيجة هي وجود مدارس منفصلة لهم عن دون قصد! واستعانت البلدية ببعض الحالات التي تم فيها دمج بعض الأفارقة بمدارس عادية محاولة اثبات خلو سياستها من أي دافع عنصري فاتحة المجال لتقديم طلبات نقل لمدارس أخرى وفقًا للرغبة الشخصية. شدد الملتمسون على واجب البلدية تبني سياسة تسجيل للطلاب تضمن ضمان مصلحة الأطفال وعدم فصلهم العرقي والترفه عن الاعتبار الجغرافي الذي يلزم تسجيل الطالب بمدرسة لا تبعد أكثر من 2 كيلومتر عن مكان سكنه. إلا أن البلدية أجابت أن تسجيل الطالب بمدرسة تبعد أكثر من 2 كيلومتر عن مكان سكناه سيلزمها توفير سفريات للطلاب ومن الأجدى استثمار الأموال الموجودة لدعم مشاريع تربوية وليس على السفريات التي تضر أيضًا بالبيئة!
لم تكن المفاجأة من رد البلدية بقدر الصدمة من قرار المحكمة.
رفضت المحكمة المركزية في تل ابيب الالتماس مستندة إلى صلاحية البلدية تسجيل الطلاب وفقًا لأماكن سكناهم متجاهلة كليًا السياق الذي يجري الحديث عنه ونتيجة سياسة التسجيل التي تؤدي بشكل حتمي الى خلق نظام فصل عنصري عرقي بالتعليم. وبات من البديهيات القانونية في إسرائيل أنه اذا كان اتباع سياسة معينة سيؤدي بالمحصلة الى تمييز أو خلق نظام فصل عرقي وجب تغيير هذه السياسة وان كانت ظاهريًا مسندة إلى القانون. تجاهلت المحكمة هوية الطلاب والمناخ العام العنصري المحيط بهم في أماكن سكناهم مانحة الضوء الأخضر للبلدية باستمرار استخدام معاييرها بادعاء ان الملتمسين فشلوا في إثبات نيّة البلدية التمييز العرقي والعنصري ضد الأفارقة. بيد أنه ليس من واجب الملتمسين أن يثبتوا النوايا المباشرة وتكفي محصلة الفصل العنصري لدفع المحكمة للتدخل وإلزام البلدية العدول عن معاييرها التي تبدو لأول وهلة حياديّة لكنها على أرض الواقع ليست إلّا أداة سهلة لتكريس ممارساة عنصرية ضد الأجانب ذوي الوجوء السمراء لا غير.
قد يسأل القارئ ما الفرق بين وضع الأفارقة وتركيزهم بمدارس منفصلة وبين الفلسطينيين خاصة سكان المدن المختلطة في إسرائيل والذين بمعظمهم يدرسون بمدارس عربية منفصلة. فهم أيضًا يسكنون بمجمعات وحارات عربية غالبًا تنحصر فيها إمكانية التسجيل لمدارس فقط عربية وبالمحصلة العربي يدرس بالمدرسة العربية واليهودي باليهودية وقلّما نجد عربيًا بمدارس يهودية. الفرق هو ان وجود جهاز تعليم عربي منفصل يصب برغبة العربي ممارسة حقه بالاستقلالية الثقافية المتجلي بالتعلم بلغته الأم مع كل التحفظات من مضامين ومستوى التعليم. إلا أن الإفريقي يطالب بالاندماج بالدولة "الحاضنة" لأن دولة الأم لم تعد الحضن الآمن له. وحينما تكون الدولة الحاضنة مبنية على أسس فوقية عرقية وعنصرية عندها لا يسع هذا الغريب إلا العيش بعيدًا عن مخاطر نزاعات دولته وقريبًا من مخاطر تكريس دونيتة وتحقيره على يد الدولة التي من المفروض أن توفر له المساحة الآمنة للعيش ككل البشر. سياسات إسرائيل العنصرية مع طالبي اللجوء ما هي إلا إثبات جلي للعقلية العنصرية السائدة التي تبحث عن جميع الطرق لتكريس فوقية اليهودي حتى تجاه من يعلن رغبته بالاندماج التام والانخراط بالمجتمع الإسرائيلي.
الإحالات:
كاتبة هذه السطور ترافعت باسم الطفل تمير حسنين عام 2005 خلال عملها السابق بمؤسسة عدالة: المركز القانوني لحقوق الأقلية في إسرائيل. را: https://www.adalah.org/ar/content/view/709
Brown v. Board of Education, 347 U.S. 483 (1954)
را: تامي هارئيل بن شاحار وشاحاف يينون " قريبون ومنفصلون: حول الفصل العرقي في المدارس في أعقاب التماس براون ضد رئيس بلدية تل-أبيب (12.09.22). نشر باللغة العبرية بالمدونة القانونية: " ICON-S-IL Blog