تَجويع غزّة: "أنقذوا ما تبقى ومَن تبقى منا!"

سأكتب اليوم عَن التّجويع القَهري بحقّ شبابنا وشاباتنا وأطفالنا ونسائنا وكهولنا، لكنّي لن أَستعير كلماتي مِن قلبي المحتَرِق لأجل غزة، ولن أضاهي زملائي وزميلاتي في غزة في إحساسهم الموجع بمعنى الجوع وطَعمِه، نعم، فللجوع طَعم ومذاق مرير ورائحة كريهة، فَمَهما كَتَبه غير صاحِبِه لن يرسم ملامحه لأنّه ينخر الروح نخرًا، وبينما يتهاوى فإن هزالًا مريعًا يجب أن يقهره كي يكتب وكي يَنجو لأجل صغاره، إنه ذلك الشعور الذي يتعايش معه كلّ شباب غزة وشاباتها، كلّ أطفالها ونسائها، وهم يعيشون الجوع يمضغونه، لا طَعم سوى الحرمان، ولا قول سوى الإشارة المنهَكَة وصرخات لا تنتهي، بينما يصمّ العالم آذانه لهم.
"أنقذوا ما تبقى ومَن تبقى منا!"
سَتَحمل لكُم هذه المدوَّنة اليوم كلمات بعض من زملائي وزميلاتي الصحافيّين والصحافيات، هم يكتبون الجوع والألم بل ويقايضون لأَجل حفنة طحين على كاميراتهم ومصدر رزقهم الوحيد في ظلّ إبادة لم ترحم، لا تعتذروا أو تتألّموا لأجلهم، تألّموا لأجل إنسانيّتكم، فمن يَقرع الطناجر على سطح بيته أهون علينا ممن يشيح بوجهه عنّا.. هياكلنا مُتَساقطة في الشوارع، ومن يَتلو أسماء آلاف الأسماء لشهدائنا الأطفال موصلًا الليل بالنهار إكرامًا لأجل أرواحهم أهون علينا ممّن يُلقي علينا بآيات الصبر والثواب، كأنّه قَدَر أهلنا أن يعيشوا عذابات الإبادة والقتل والتشريد والنزوح وانهيار العائلة وفقدان الأحبة وفقدان الرّزق والسّلم والأمن، والبكاء ألمًا وظلمًا وكَمَدًا لما يقارب العامين، ومَن تَعِب هُم من يشاهدون المجازر...!! ومَن تأفف هو من رأى دمنا المسفوك وعاد نائمًا شبعانًا آمنًا يبكينا سرًّا وخوفًا ...! وهو من يأتي معتذرا وكأن الجوعى يسمعون الاعتذار...! لم ينتفض الكَون لأجل أطفالنا ولم يَهدم الأصنام احتجاجًا على تجويعنا وحصارنا وكأنه قَدَرنا أن نعيش حياة نتلظّى على صفيح ساخن من أشكال الموت وأنواعه البشعة.
لا مستقبَل لشباب غزة وشاباتها اليوم في ظل التجويع الممنهج والواضح بأبشع صوره الآن في غزة، بسبب الاحتلال الإسرائيلي والحصار المتواصل على قطاع غزة وإغلاق المَعابر ومنع المساعدات الإنسانية من الدّخول لغزّة، بل وقصف وقتل من يعمل في تأمين المساعدات الإنسانية. هذه المدونة اليوم هي نافذة لصوتهم وكلماتهم وحسرتهم علينا.. فلتسمع كلّ الدنيا أن غزة الكريمة العزيزة تجوَّع من بعد قتل وخراب ودمار.. أصواتنا وأصواتهم هي للتاريخ ولم تكن يومًا لهذا الحاضر البائس!
روح تقاوِم بين رُكام الأيام!
الصحافي أحمد غانم يكتب على صفحته على الفيس بوك:
"خلال عامين من الحرب خسِرت ما بين خمسة عشر إلى عشرين كيلوغرامًا لكن في الأسبوع الأخير فقط خسرت خمسة كيلو دفعة واحدة، لكن الحقيقة أن ما يُفقد ليس وزنًا فحسب بل شيء أعمق بكثير، نحن لا نفقد الشّحم والعَضَل فقط بل نفقد طاقتنا وقوتنا وحيويتنا ونور وجوهنا ووهج عيوننا، نفقد قدرتنا على النهوض من الفِراش كما كنّا، على الابتسام تلقائيًّا، وعلى الضحك من القلب، نفقد استجابتنا العاطفية كأن أجسادنا تتأخر في التقاط المعاني، وكأن عقولنا تطفئ أضواء التّركيز بالتدريج، كلّ شيء يتباطأ، نبضاتنا حركتنا وحتى أحلامنا، الحرب لم تَعُد قصفًا وسقوطًا ودمارًا فقط بل صارت تآكلًا داخليًّا صامتًا موغلًا في الجسد والروح. صرنا نَذبُل مِثل نبتة تُركت دون ماء أو شمس، نضعف كلّ يوم دون ضجيج، ونخبو دون وداع، نَخسر أنفسنا بصمت كما يفتت الزّمن التماثيل القديمة حبّة رمل بعد أخرى. ليس هذا جوعًا فقط بل إنها حالة من الانطفاء العام حيث تستهلك حياتك وأنت حيّ، وحين تنظر في المرآة لا ترى وجهًا نحيفًا فحسب بل ترى جسدًا يقاوم وروحًا تمشي حافية في ركام الأيام، لا يُقاس هذا الفقد لا يقاس بالكيلوغرامات بل يقاس بكم ما لم يعد فينا كما كان".
أما الصحافية دعاء روقة فتقول وتكتب: "أقولها بصريح العبارة بعد تغطية استمرت ولا تزال منذ ٦٥٦ يومًا من الإبادة والعمل ’أنا مُنهكة‘. وصلنا لمرحلة صعبة جدًا في الواقع المرير الذي نعيشه في قطاع غزة واشتداد المجاعة، نحن نعمل في ظروف صعبة جدًّا وفي تحديّات كبيرة على حساب أجسادنا الهزيلة وصحتنا المُنهكة.. نحن متعَبون يا الله كُن معنا يا الله، أوقفوا الإبادة الجماعية في غزة، نحن نموت جوعًا".
الصحافي صالح الناطور – مراسل "التلفزيون العربي"، يكفي أن تنظر إليه وهو يقف صلبًا لتعرف كَم أنهكته الحرب والحصار والتجويع! وعلى الرغم من ذلك لا يزال يقدّم رسالته الإعلامية على تعبه وانهاكه فيكتب:
"مضى على وجودنا في هذه الحرب المدمرة 600 يوم، والأمر لم ينته بعد.. هذه شهادتي لأجل حقوق وحرية "الصحافة" في العالم: يحاول الجميع هنا البقاء على قيد الحياة، لكن العشرات منّا لم يتمكّنوا من النّجاة، في هذا الجزء من الجحيم، النّجاة من المَوت لا تَعني أنّنا نجونا تمامًا من آثارها المدمّرة.. فمع الوقت، بدأنا نفقد تدريجيًّا شيئًا من فطرتنا البشرية؛ فما عُدنا نتأثّر كما كنّا سابقًا بمشاهد الموت، والجُثث المحترقة أو الممزّقة، وما عُدنا نشمئِز من رائحة الدّم. أخبَرونا أنها حالة مرضيّة تعرف بـ "الاحتراق النّفسي"، وقد نحتاج إلى علاج يمتد أشهرًا أو سنوات، من يدري؟ حتى ذلك الحين، تنتاب الواحد منّا رغبة في العزلة، والانطواء، والصّمت أكثر من الحديث، ونتدارك أنفسنا حين نبتسم أو نضحك بشكل عابر.. لا أعرف مكانًا آخر عمل فيه الصحافيون على تغطية حرب مميتة كهذه، لـ 600 يوم متواصلة، دون وسائل كافية للسّلامة وفي بيئة عمل خطرة وقاسية.
بلا بيت، بلا طعام، بلا وقت للنوم، وحتى بلا ملابس تكفينا. مكاتبهم مدمَّرة وعملوا في الشوارع، وفي الخيام، وناموا في الساحات العامة، وتحت سلالم المشافي، وعلى جدرانها، كَما نزحوا مع أطفالهم من مدينة إلى أخرى محاولين حمايتهم.
تبقّت دروع ممزَّقة، وأدوات تصوير تعطّلت عشرات المرات.. استقلوا "الكارات"، وعربات المواشي والبضائع، ومَشَوا عشرات الكيلومترات لأجل العمل، حتى تمزّقت أحذيتُهم. جوعوا، وشربوا مياها ملوَّثة، وأكلوا طعامًا فاسدًا، ومرضوا مرّات عديدة، خسروا عشرات الكيلوغرامات من أوزانهم، وأصيبوا بجروح خطرة وفقدوا أطرافهم، العمل هنا شبه مستحيل، لكنّهم مع ذلك استمروا في مهنتهم لـ 600 يوم".
وبكلّ القهر والوجع تكتب الصحافية يافا أبو عكر على صفحتها واصفةً أَلَم التّجويع الذي تشعره كإنسانة تعيش الإبادة بكل تفاصيلها:
"لم نغمض عيوننا دقيقة واحدة. كلّ شيء ينهال فوق رؤوسنا؛ صواريخ حربية، قذائف مدفعية، أصوات مرعِبة تُمزّق السكون وتحرق ما تبقّى من أعصابنا.. يستهدفون جسدًا منهكًا، ضعيفًا، بالكاد يقوى على الوقوف.. يا وحدنا في هذا العالم الأعمى.. مَن لنا سوانا".
وكتبت بالعامية في بوست آخر:
"حرفيًا بدون خجل لا نجد ما نأكله في مدينة غزة! المَجاعة فاقت أعلى درجاتها بغزة.. الناس ماشية بالشوارع وبتحكي مع حالها وهيّ جائعة، مقهورة نظرات غائبة، الناس بطّلوا يستوعبوا شيء.. تعب وإرهاق وأطفال تبكي من الجوع والعطش ومشقّة طريق النزوح ما في حليب أطفال، ما في مقوّيات، وما في أيّ شيء نقدر نسند عليه أنفسنا ولا أولادنا، غزة بتموت والعالم بتفرّج، كونوا صوتنا، انقلوا وجعنا وقهرنا لا سامح الله من خَذَل غزة".
إِغماء على الهَواء وتَحت الهواء بسبب الجوع!
الصحافية سالي ثابت التي لم تتوقّف عن التّغطية طيلة الحرب سَقَطَت مغمى عليها أثناء تقديمها رسالَتَها الإعلامية مع قناة الكوفية، وبعد أيام كتبت الآتي لتشكر كلّ من ساندها وتشير أنها واحدة من كلّ غزة الجوعى:
"شكرًا لكلّ من سأل واطمأن.. ولكل الزملاء والزميلات. سقطت وأنا أؤدي رسالتي ومهمتى المقدسّة بالنسبة إليّ ع الهواء مباشرة.. انهارت قواي وبدأت دقات قلبي تخفق بسرعة وشَعرت بضغطي يهبط وبدأت أتصبّب عَرَقا ... عدا عن الغثيان والدوخة ... قلت لنفسي: اصمدي واصبري لكن هيهات التّعب والإرهاق أرغَماني على السقوط ... استأذنت زميلي جمعة أبو شومر مذيع النشرة في القاهرة بقناة الكوفية ... وقلت له: اعذرني جمعة، لا أستطيع الوقوف والاستمرار بالحديث عن مجزرة المجوّعين وأنا والله واحدة منهم ... أمْسكت بزميلتى هداء الدحدوح ووجدت نفسي داخل قسم الاستقبال ... هذا حالنا ومصيرنا في غزة، نغطي الأحداث وفجأة نكون الحَدَث... دعواتكم لنا بالنجاة والثبات لنكمل المشوار".
أما المصور الصحافي مجدي فتحي فقد كتب بألم الأب:
"في ظل المجاعة القاتلة سأحدثكم عن ابني يزن مصاب التوحّد، منذ أن اكتشفت إصابته بالتوحّد وأنا أُساعده على التعلّم وتعبئة يومه ما بين ذهابه لمؤسسة يتعلّم بها ويتأهل وبين الترفيه على البحر وفي ملعب اليرموك لركوب الدراجة الهوائية وتعلّم السباحة في مسبح خاص، كان لا يسأل عن الطعام من كثرة مُكوثه خارج البيت، وهذا كان ضمن علاجه وتفريغ الطاقة السلبيّة، منذ بداية الحرب اختفى كلّ هذا وبقي لا يخرج لم تبق أماكن يذهب لها، تغيّر حاله وسلوكه، فالحَرب دمرّت كلّ ما بنيته معه ولأجله خلال سنوات طويلة، بالأمس ولأول مرة جاء لي يخبط بيده على بطنه بشدة فهو لا يتكلّم، إنه جائع ولا يوجد شي اشتريه من السوق له ولإخوته، لا يعرف أننا في حرب أو مجاعة، فقط إنه يريد أن يأكل."
الكاميرا مُقابل كيس طَحين لأَطفاله...!
ليس مِن بلاغة للغة ولا تقديم توصيف لحال صحافيي قطاع غزة وشبابه وسكانه الآن، فما كتبه وقاله الصحافي بشير أبو الشعر إنما هو صرخة في وجه كل من أغلقوا على غزة وشاهدوا قتلها وحصارها والآن تجويعها دون أن يحرّكوا ساكنًا:
"أنا المواطن بشير فتحي كامل أبو الشعر صحافي فلسطيني حرّ من غزة عمري 42 عامًا متزوج ولدى 7 أطفال منهم طفلتي راما التي تعاني من مرض مزمن، أعمل صحافيًّا حرًّا (فريلانس) بنظام القِطعة مع مختلف القنوات والمؤسسات الصحافية.
أنا صاحب المنشور الذي لاقى تفاعلًا كبيرًا من رواد التواصل الاجتماعي حول قراري باستبدال كاميرتي بشوال دقيق لسدّ جوع أطفالي، أكتب لكم هذه الكلمات حول الدافع الرئيس لعرض كاميرتي للمقايضة.
كان هناك مثل شعبي يقول: "مَحَدّش بموت من الجوع"، لكن هذه الكلمات سقطت على حدود قطاع غزة وأصبح مثلًا في خَبَر كان، فكلّ شيء ينبض بالحياة مات في غزة من الجوع ومن تبقى منهم على قيد الحياة فهو يصارع الموت من أجل البقاء.
تتغوّل المجاعة في غزة المحاصَرة يومًا بعد يوم وتحصد أرواحًا أنهكها الوجع والجوع فهي لا تستثني أحدًا (الحصار، والتجويع، والتهجير، والقتل، والنّفي) كلّها أدوات يستخدمها الاحتلال الاسرائيلي بحقّ المدنيين داخل قطاع غزة. أضحت أجسادنا متهالكة وأصبحنا لا نقوى على الحركة، لم نتناول نحن وأطفالنا والجميع الخبز منذ أيام وفرغت الأسواق من أصناف المواد الغذائية، نرى أطفالنا يتضورون جوعًا ويصرخون من شدّة الحِرمان ونَحن نَبكي لِعَجزنا عَن سدّ جوعهم. لَم تعد فينا طاقة لتحمل هذه الآلام ونرى أطفالنا يموتون أمام أعيننا والعالم لم يحرّك ساكنًا، نخرج كلّ يوم نسير بخطوات متأرجحة من شدة الجوع لنوثّق معاناة المواطنين من قهر المجاعة، ولا يدري هؤلاء المواطنون أنّنا تركنا أطفالنا أيضًا جوعى مثلهم، على مدار نحو أكثر من عام وثمانية أشهر ونحن نوثّق الأحداث والمشاهد المؤلمة بسبب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، يصيبنا الخوف والجوع والنزوح وفقدان من نحبّ لكنّنا في كلّ مرّة نستمر في التّغطية رغم هذه المتاعب. نَعَم أنا صحافي أحمل كاميرتي، أُحاول قَدر المُستَطاع توصيل رسالة أبناء شعبي المجوَّعين لكنّني جزء من النسيج المجتمعي أَجوع كما يجوعون، وما يصيبهم يصيبني، لذلك لَم تَعُد لديّ طاقة لتحمّل ما نحن فيه وأحيانًا أسأل نَفسي: ما فائدة الكاميرا والصورة حينما لا تسدّ جوع أطفالي ويغيب ويجوع حاملهما؟
لذلك قرَّرت بكامل قواي العقليّة أن استبدل كاميرتي بشوال دقيق لإنقاذ أطفالي وأسرتي من الموت والمَجاعة التي تنهش في أرواحنا، وقمت بنشر رسالتي عبر حسابي على "الفيس بوك"، لكن الحقيقة المرّة التي لا يعلمها أحد أنني حينما اتّخذت قرار استبدال كاميرتي بشوال الدقيق أصابت قلبي غصّة، لأنه يعزّ عليّ فراقها فهي رفيقتي في كلّ دروب التّغطية والتوثيق وعيني الثالثة التي أرى العالم بها وأنقل فيها رسالة شعبي المجوَّع، نعم لقد كان قرارًا صعبًا لي لكن إذا كان الثمن إنقاذ أطفالي من الموت فإني راض عن قراري وعَهْد عليّ أن أبقي حريصًا على أداء رسالتي الصحافية حتى لو اضطررت لاستخدام القَلَم بدلًا عن كاميرتي. رسالتي للعالم: أنا صحافي فلسطيني تعرّضت للإصابة مرّتين ونجوت من الموت مرات وقصف منزلنا دون رحمة، ولست وحدي من يجوّع في غزة، فهناك أيضا زملائي الصحافيون جوعى ونحو 2 مليون مواطن في غزة يتضوّرون من الجوع لذلك أنقذونا قبل فوات الأوان".
قبل فوات الأوان...!
ما نَقَلته هُنا هو نقطة في بحر الآلام والتّجويع والقَهر الذي يأتي على لِسان أصحابه الذين افترشوا الأرض ونزحوا مُجبَرين منذ ما يقارب العامين، والتحفوا السّماء التي لا تمطر إلا قتلًا وموتًا، واحتموا في خيمة لا تقي حرّ الصيف ولا برد الشتاء، واتّخذوا العدس والبقوليات غذاء من أشهر عديدة، وشربوا الماء الملوث والآن يتساقَطون واحدًا تلو الآخر بينما كمائن الطّحين تنتظر مزيدًا منهم للقتل، لم يرحموا شيبًا ولا شبابًا، وطال التّجويع كلّ فئات المجتمع، قبل فوات الأوان اصغوا لكلماتهم، قبل فوات الأوان انقذوا أطفالهم، قبل فوات الأوان انقذوا ما تبقى من إنسانيّتكم ..!
