مكتبتي يا قطعة من قلبي!
كم عام مضى حتى تحقق الحلم وأصبحت مكتبة جميلة مبهرة تجذبني إليها وتناديني، أنهي مهام يومي الطويل، وما أن يأتي يوم اللقاء (جمعة أو أحد) تجدني أحلق نحوها.. هي ركن آخر في زوايا قلبي تلك المكتبة المنزلية في غرفة خاصة تتألق بالكتب والروايات والموسوعات بعضها هو حصيلة سنوات عمرنا، وبعضها جئت به من لحظات وساعات سرقتها من الزمن القاسي والحصار المتواصل على قطاع غزة...!
يمتلئ الركن الأيمن من المكتبة بالكتب الخاصة باللاجئين والهجرة وكتب إيليا زريق أذكرها جيدا، مجموعة كبيرة منها اشتريتها من الامارات، بل اشتراها أخي الكبير "محمود" حيث كنت أنوي -وقتها- العمل على رسالة الماجستير بقضايا اللاجئين والاعلام، حملتها كتابا كتاب من بلد لبلد، ومن طائرة لسيارة، ومن سيارة إلى باص ثم سيارة ومعابر وصولا إلى البيت، وطفت المكتبة حينها لساعات وساعات، حفظت العناوين وغرقت في تفاصيل هجرة الأجداد، بعضها مجموعات روائية كمجموعة "مدن الملح" رغم أن لدي نسخة من بعضها إلا أنني توقفت طويلا أمام احدى المكتبات في الأردن ذات يوم صيفي، وحدقت بها طويلاـ ولم أملك المغادرة إلا بها إلى غزة لأضعها بين رفوف قلبي في مكتبتي الشخصية في بيتي بحي الجنينة برفح.!
وتلك المجموعة من قصص الروايات العالمية المترجمة أحضرتها بعد وقوف ساعات طويلة وعدة مرات لمكتبة دبي، بعضها يدفعني لشرائه، وبعضها يقفز إلى يدي قفزا فلا أجد إلا أنني قد حملتها معي رغم بعد الأسفار وثقلها وزنا بينما تحملني هي روحا وفكرا في وقت آخر.
منذ نعومة أظافري أحب القراءة والاطلاع أفضلها عن أي شيء آخر، كنت أشارك في مسابقات للكتابة في المرحلة الإعدادية وكانت الجائزة مجموعة جميلة متنوعة من الكتب التي بدأت أدرك قيمتها وأحتفظ بها، حصلت على الموسوعة الفلسطينية الجميلة من أربع مجلدات من وزارة الشباب والرياضة في احدى مسابقات القصة القصيرة، ووسط احتفال بهيج حصلت عليها كجائزة لأفضل قصة قصيرة، وكم كانت ثقيلة على فتاة يافعة لكني كنت أكاد أطير فرحا بمن اختار نوعية الجائزة لقد كنت سعيدة جدا بها، وبدأت أركض بين أوراقها، موسوعة متنوعة زخمة بتفاصيل دقيقة لحياتنا وقرانا ومدننا الفلسطينية، يا إلهي أذكر (كتاب غزة، خمسة آلاف عام حضور وحضارة) ذلك الكتاب الذي يفوق في عدد صفحات أي كتاب آخر إنه يتكئ على إحدى الأرفف في مكتبتي، لا أعرف كيف يواجه الحرب منذ عام وشهرين، لا أعرف إن نبت له جناحان ليطير بروح غزة بعيدا عن نسف بيوت رفح الآن وتحطيمها، أم أنه قفز هاربا من أي محاولات لإحراقه طلبا للدفء أو لوجبة ساخنة تقي قليلا من الجوع والبرد لكائن إنسان لازال باق على قيد الحياة هناك..! لم أعرف مصيره ومصير آلاف الكتب في مكتبتي الجميلة.!
كنت كلما ادخرت قليلا من المال أو جمعتها في الأعياد أو المصروف اليومي أركض للمكتبة القريبة من بيت أهلي في حي الشابورة برفح، فأشتري مجموعة متسلسلة لروايات جيلنا في وقته روايات رجل المستحيل أدهم صبري وقصص أرسين لوبين وروايات أجاثا كريستي، كنت أترك المناسبات العائلية في الأفراح والتجمعات الجميلة لأنزوي وأسرع تلبية لشغف القراءة والمغامرة التي أرغب في معرفتها أكثر فأكثر..
كنت أشتري الكتب والروايات والقصص القصيرة من القاهرة حين كنت أدرس الماجستير في القاهرة وكلما سافرت وعدت ما بين فصول الدراسة كنت أواجه عقبات معبر رفح وكان السائقون ومن يحملون الحقائب يشيرون لحقائبي صارخين: يا أستاذة انتي حاطة زلط في الشنط؟ شنطك ثقيلة قوي!؟
فكنت أبتسم على استحياء وأشير لهم أنني طالبة ماجستير دراسات اعلامية، لكني في حقيقة الأمر كنت أحمل كتبا متنوعة ما بين الصحافة والاعلام والأدب والمجتمع والمرأة، وأجد نفسي بين رائحة المكتبات فما بالكم كيف سأكون بين كتب مكتبتي ورائحتها؟!! تلك الرائحة التي تعيد لي الحياة من جديد أفتقدها الآن لا أعرف شيئا عنها...! لا أتخيل حالتها وحيدة باردة حزينة دون أيدي تطبطب على أغلفتها، دون عيون تقرأ محتواها، دون أنفاس تشعرها بالحياة؟؟! هل تموت الكتب حال غياب صاحبها؟! هل تعاني وحيدة الآن بينما لا أعرف كيف أهاتفها كيف أحييها كيف ألقى تحية الصباح وتحية المساء لها...!!
الكتب أزهار تنب وتزهو بوجود صاحبها الكتب والمكتبات تنبض كما نبض قلوبنا فهي تعشق رائحتنا تماما كما نعشق رائحتها...!
هداية وجزء من أرفف المكتبة خلفها
ما يقارب الألف كتاب هي رحلة تجميع زوجي محمد ما بين فصول الدراسة في جامعة بيرزيت وصولا لمسيرته العملية والمهنية، كلها أحضرها في صناديق كرتونية لبيتنا الذي بنيناه معا بعرق الجبين...!! وفور أن أصبحت لدينا غرفة خاصة بالبيت أطلقنا عليها اسم المكتبة، "مكتبتنا" كانت لهذه الكتب نصيب كبير في إحدى الزوايا، فالأرفف تمتد كاملة للحائط من اليمين إلى الوسط ثم اليسار تلتف وتتماهي مع أرفف مصففة في الأسفل لحفظ وأرشفة الأوراق والمخطوطات الأخرى، كان لدي قسم كامل يحتوي على قصص الأطفال والقصص العالمية المترجمة وقصص المكتبة الخضراء، وقصص نص نصيص وأمنا الغولة التي أعيد طباعتها بغزة، وكلما مررت بأي مكتبة بغزة اشتريت السلسلة بأكملها، كنت أحبها كثيرا فهي تعيدني لتلك الفترة الجميلة حين كنت في مدرستي مدرسة 1 الابتدائية وكانت حينها ناظرتي جميلة الروح والقلب "فاطمة أبو عمارة" كانت مكافأتنا بأي عمل تطوعي في المدرسة أن نحظى بوقت أطول في مكتبة المدرسة ونحظى بفرص استعارة مزيد من الكتب والقصص وقرأت تلك القصص في حينها، ولم أتردد لإعادة قراءتها مرة تانية وثالثة حتى تمكنت حين كبرت من اقتنائها، وشراؤها دوما لأطفال العائلة، فحين كانوا يأتون لزيارتنا كانوا يعرفون مكان ركنهم في المكتبة ليشعروا أنهم في نزهة بين القصص والألوان والرسم الذي حرصت أن يكون متواجدا بجوار القصص..!
نعم كان ركن قصص الأطفال.. كنت اسمع صوت ضحكاتهم وهم يقرأون القصص واحداهن تقرأ بصوت عالي لتشير أخرى وآخر إلى الألوان والرسومات في القصة ...! كيف يمكنني أن أتجاهل ذاكرتي بهذه اللحظات الخالدة ما أجمل أن يكون لديك مكتبة في بيتك إنك محظوظ فهنا تهدأ النفس وهنا تشعر أنك في مكانك المفضل...!
فأين هي مكتبتي الآن وماذا حل بها؟ لا أرغب حقا بل لا أجرؤ أن أعرف لأني أريد وقتا أطول للحظات جميلة خالدة، أريد أن احتفظ بذاكرتي بالكتب جميلة متماسكة تقف بشموخ في المكتبة بيتها وحضنها الدافئ، أريد أن تكون كل الكتب على قيد الحياة أريدها أن تبقى على قيد الحياة، وأن يقف انسان قد يكون طفلا لكي يمنحها تلك الروح التي تحييها بينما أنا بعيدة الأسفار عنها...!! لم اخذلها ولم أعرف أني قد لا أراها مرة أخرى لا أملك إلا الأمل والأمنيات أن تكون على قيد الحياة وأن تبقى لأجل من يقدرها ويحييها بعد غيابي...! لكني عرفت وأعرف أنها تحتضر الآن كما يحتضر بيتي وبيوت جيراني وبيوت مدينتي.. رفح...!