قالت: "حبيبتي نور عيني واختفت في النور"

في رثاء أختي الحبيبة التي استشهدت بتاريخ 3/3/2024 ولذكراها الباقية في وجداني ووجدان العائلة.

ناداك الرب أيا خديجة.. فركضت دون أن تلتفتي لقلبي المفطور...! 

ناداها الرب قائلا: 

تعالي يا خديجة...!

ركضت دون أن تلتفت..

هبت دون أن ترى قلبي المفطور بالحنين...!

قالت لبيك.! وغادرت دون حقيبة سفر، غادرت دون جسدها.! تركته مسجيا على سرير المشفى المهترئ...!

ذهبت بلهفة إلى النور في الأعالي.! 

كانت أول من التقى بروح أمي وأبي واحتضنتهما بعد شوق كبير...!

وأنا الملفعة في غربتي أركض مكاني لأحظى بقبلة على جبينها الأبيض، أو لألمح عينيها قبل أن تسبلهما، أو لأخطف شبح ابتسامة تمتعت بها عمر بأكمله...!

غادرت دون أن تصغي للمرة الأولى في حياتها لدقات قلبي المتساقطة في بئر الحرب اللعينة، هرولت هاربة من موت متكرر استمر مئة وخمسين يوما عجافا، قاومت لأجل عائلتها أطفالها وزوجها، ضمتهم لمرة أخيرة.!

الجميع في دجى ليل مشتعل بانهمار القذائف وشظايا الصواريخ المعجونة بلحم الجيران واللهب، غادرت مسرعة فقد رأت نور الله واليقين...!

ساعة الحياة الأخيرة

لم أفهم -بين صراخ روحي وأنين قلبي وصمت عيني- لماذا استجبت ركضا، سويعات قليلة تعلقت روحك في الدنيا، كنت وحدك بعد مئة وخمسين يوما من الحرب والإبادة الجماعية على غزة، كنت تتمددين بين اللفائف البيضاء المغرقة بالدم، بينما جسدك المسجى كأنما تريدين أن تنامي طويلا فقد أنهكت الحرب جفونك، وقلبك لم يكف عن الدعاء لنا ولعائلتك كأنما دعوت الله أن يحميهم جميعا، ونسيت بين إيمانك النقي الدعاء لنفسك فاختارك الله بعناية فائقة...!

اختارك الله فقد كنت قبل ساعة واحدة من منتصف ليلة خلد الجميع إلى فراشهم، الكبار يحتضون الصغار إنهم ما بين النوم والفزع فصوت الانفجارات الإسرائيلية لم تتوقف منذ بداية الحرب في كل غزة، كان الجميع يهرب إلى النوم على صوت الطائرات يخفت قليلا في عقله، كنت تقيمين الصلاة وحدك دعوت في منتصف الليل، لم أكن قريبة كفاية لأسمع دعاءك الأخير، كانت هنالك آلاف الكيلومترات بيننا لكني أشعر بك الآن بلوعة وكأنما يقبض أحدهم على قلبي ولم يتركه...! 

دعوت الله واحتضنت المصحف وقرأت منه -كما كان ملجأك في الحرب وفي السلم- لذا كان قلبك أبيضا ناصعا لا يحمل غلا ولا كرها لأحد...! كأني أسمعك كما أفعل كلما فتحت فويساتك الصوتية الأخيرة.. اللهم ارحمنا برحمتك والطف بنا من بطشهم...! نهضت على ركبتيك ووضعت سجادة الصلاة، ثم غطيت ابنك الصغير، وتنقلت من غرفة إلى غرفة حيث بناتك وحفيداتك، كنت تسيرين بصمت وهدوء لا يعكس جنون الحرب من حولكم، تشيرين بيدك بالتحية لتراك ابنتك الكبرى اسراء فتبتسمين وتبتسم دون كلمات، ومشيت وكأنك تودعين كل أحفادك، وأنت تقرئين آيات الكرسي وتطوفين بها في البيت، وضعت كتاب الله بجوارك ووضعت جسدك في السرير وأنت لا تكفين عن الاستغفار والدعاء لرب العباد...! 

لم تمر ربع ساعة فقط على غفوتك التي لم تأت بعد ثم جاءتك إلى الأبد وما قبلها بثواني، تهبي واقفة من السرير من هول ما سمعت من قصف قريب أفزع القلب والروح، ما أقسى ما في الحرب حين تهب واقفا لا تعرف إن كنت حيا أم مقتولا، إن كنت أنت أو من هم بجوارك، من يمكنه أن يجيب دهشتنا اللامتناهية من بشاعة أصوات الانفجارات وانشطارات القلب والقهر لأننا لسنا بخير، وإن كنا نحتمل مالا يحتمله البشر، وقفت شامخة كأشجار أحاطت بمنزلك، لكنها الثواني التي شعرت باهتزاز البيت إثر انفجار صاروخ آخر على ذات البيت البعيد بالأمتار القريب بالنيل منك، لتتساقط الشظايا الملعونة كالمطر المنهمر من كل صوب..! نظرت إلى زوجك المفزوع أيضا وعقلكما يفكر بسؤال واحد.. كيف لنا أن نحمي أطفالنا وأحفادنا من بشاعة المحتل الذي لا يتوقف، حدق كلاكما بالآخر في ثواني لتسقطي مرة أخرى على السرير وقد نالت الشظايا من جسدك النابض بالحياة...!! 

 لحظات قاسية على كليكما فصوت الانفجار القريب كان مريعا، كان هنالك شيء واحد يجعلكما تدركان أنه ليس كابوسا آخر من كوابيس الحرب المستعرة.. الدماء تنزف بغزارة من رأسك وشعرك استبدل لونه الأسود إلى اللون الأحمر القاني.. دم يحيط بك في جبهتك، ورأسك، ورقبتك، وذراعيك، دم يغطي وجه الحياة في عينيك، ذراعيك تنزف منها الدماء بغزارة ونظرة خاطفة على القرآن بجوارك وقد اصطبغ بلون الدم فبات مخضبا بكلمات الله، الدماء على سريركم في كل مكان في لحظة خاطفة، وأصوات ارتطام الشظايا حولكم في كل أرجاء البيت الدافئ بالمحبة.. لكنه الله اختارك أنت يا حبيبتي دون غيرك...!

لم يمت صوتك بعد ورتلت آيات من القرآن وخفق قلبك خفقانا متعددا أشعر به الآن، كأنني أحتضنه بين كفتي يدي، كيف يمكنني ألا أفعل وأنت الأحن والأطيب كيف لا أشعر بهذه اللحظات، لقد كان طيفي معك يهدهد على روحك الفزعة، لكنه الله الأكثر حبا لك اختارك أنت..

 دقائق أخرى ليهب كل من في البيت صغارا وكبارا، حاولت النهوض لكن جسدك بات ضعيفا، في عتمة الليل الذي أضاء فجأة كأن شمسا خرجت بعد منتصف الليل من هول الانفجار في بيت جيرانكم الذي يبعد أكثر من عشرة أمتار، وضربات جنونية أخرى متتالية، في وهج شمس الانفجارات تتسع الأعين من هول قوة الانفجار وصوت الشظايا تتطاير في كل مكان تضرب الجدران، وتكسر النوافذ وتخترق الستائر وتطير مستعرة غاضبة، كيف يمكن لشظايا ملتهبة مسعورة تنم عن حقد الاحتلال أن تقتحم جسدك النابض بالحياة، فتنثر الدماء وتنزع منك حياة مليئة بالحب والامتنان، تقتل أجمل من فينا، يا كل من فينا..!

 من سيدعو لي الآن...! 

نصف كلماتنا دعاءك المحبب ونيتك الصادقة، وجمال روحك المتسامحة، لا مثيل لك فأنت كمريم العذراء في قلبي، أنت من ربيتني نصف عمري، ومن أرشدتني لقيم التسامح والعطاء والرضا فقد كنت أراها فيك وفهمتها منك...! أنت من هذبت نفسي بالقناعة رغم أني الصغرى والمدللة للعائلة آنذاك...! كنت من غرست الحب والصدق والبساطة في نفسي المتمردة على كل شيء ...! كان منهجك بسيطا للغاية المحبة والعطاء يغلب على كل شيء...!

خديجة أيا حبيبة الروح.!

خديجة "خوخة" كما كانت تحب أن أناديها، "خوخة" الجميلة غادرت وقد قررت أن تستجيب لنداء الله، ولا تستجيب لعلاج الأطباء الذين لم يدخروا جهدا رغم إمكانات مشفى شهداء الأقصى المتهالكة بعد خمسة أشهر من الحرب القذرة، ظلت في الاستقبال عدة ساعات، خشية تحريكها فقد استقرت الشظايا الملعونة قرب المخ، وقد فقدت الوعي ودخلت في غيبوبة، في اليوم التالي ركضت إلى الله وسط لوعتنا، رأتها ابنتها الصغرى جنان في الحلم في اليوم السابق، وهي في مكان يشع بالنور وتشير لها بيدها..

باي جنجن.. باي..

حاولت الصغيرة أن تلحق بكف أمها في الحلم إلا أنها غابت سريعا ضاحكة مبتسمة مودعة ...!!

أذكر في طفولتي كيف كانت خديجة كما أمي، تساعدني في كل شيء وترفع كل أعباء البيت وحدها دون أن تتذمر أو ترفض فقد كانت الوسطى لم تتجاوز الـ 55 عاما حين استشهدت، درست اللغة العربية في معهد المعلمين والمعلمات بغزة، وتزامن تخرجها مع خطوبتها، سافرا معا إلى الإمارات حيث عملت مدرسة لغة عربية سنوات عمرها، وأنجبت اسراء وولاء ومحمد ورهف ورغد وربا، ثم جاء الوقت الذي أنشات وزوجها بيتهم الخاص في دير البلح، البيت الجميل المليء بالحب وتنشرح النفس كلما دخلناه ليس لأنه واسع ويحيطه حديقتهم الجميلة لكن لأن الروح التي تلقاك روح مرحبة كأنك دخلت جنة الرضا والقناعة تملأك حبا، تستقبلك بابتسامتها وضحكتها الناعمة، تأخذك بالأحضان ويتملكك شعور بالراحة والانبساط، لا تتحفظ لقول شيء ولا تمتنع عن قول شيء في حضرتها فهي انسانة جميلة متفهمة تصغي لكل من يكلمها، لا هم لها إلا كيف ترعى الآخرين، وتضمهم لقلبها الملائكي، تتدبر أمورها بأقل القليل، وتعطي ولا تقف عندها الأشياء فهي لا قيمة لها في نظرها إلا إذا شاركها بها الآخرين.. 

عاشت في بيتها أم جميلة وأنجبت في دير البلح تسنيم ونسرين وعبود وجنان آخر العنقود، أصبحت جدة لطيفة ومحبوبة تجمع العائلة، كم تحب أن تكون في الجوار فالطاقة الإيجابية تجدها في حضرتها، ومهما كنت متكدرا ورأيتها فإن دعواتها وحدها كفيلة أن تنسيك تعبك، تقول الحمدلله دائما..

في الحرب القذرة كان قلبي ممزقا لسماع أخبارها وعائلتها طيلة الوقت، وانقطعت السبل مرارا وتكرارا حتى أكلتنا الغربة، فمن كنت أقلق بشأنه بأي حدث في دير البلح هي وعائلتها، نعم نجت عائلتها بحمد من الله تطايرت الشظايا فوق رؤوس الجميع، واختارتها هي.. ماذا بينك وبين الله يا خديجة فقد اصطفاك وحمى عائلتك اللهم قبولا ورضا بحكمك وكما ألهمتنا وستبقى تلهمنا في الغياب.. 

ناداك الله ليلة السبت ولبيت النداء بعد سويعات قضيتها في المشفى، غادرت في التاسعة والنصف صباحا من يوم الأحد في الثالث من مارس شهر النساء الحزين، توقف قلبك بعد أن جعلتنا نتنفس الحياة لتقولي وداعا بطريقتك، ابتسمت لبناتك وأولادك وأحفادك وحفيداتك فبعد أن كنت أم وجدة وأخت وصديقة أصبحت شهيدة في حرب إبادة جماعية على الأمهات والطفلات والنساء والرجال والشباب..

 لست رقما يا حبيبة القلب فأنتي كل الوطن في قلبي، وأنت لا مثيل لك، لكن الله قد اصطفاك وكتب النجاة لعائلتك بقدر ما أحببتها..

 لم ترحلي روحا وستبقين من ألهمنا المحبة والتسامح والعطاء، وسيبقى قلبي عامرا بك وروحك النقية...!

هداية صالح شمعون

كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة

شاركونا رأيكن.م