!هول الضياع في غزّة: لا مكان للبحث

"رجاء لمن يجد أخي ماهر كحيل، هو مريض من ذوي الاحتياجات الخاصة، يرتدي بنطلون رمادي وبلوزة تخطيط عريض، خرج من منطقة قيزان النجار في خان يونس ولم يعد...!

 نرجو الاتصال على هذه الأرقام لأي معلومات عنه:

0599862520

0567760907

0568741088

0567568763

0599797778

أختي كل يوم بتطلع تلف عليه، بتدور كل يوم كل ما يطلع النهار.. فقدناه في منطقة اسمها قيزان النجار بخان يونس...!!"

هكذا دون مقدمات تقفز اللوعة في وجهك كقارئ.!! من هو وماذا حدث؟ وأين هو الآن؟ عايش ميت؟! جوعان عطشان نايم قاعد مريض تعبان، تايه بين خيام النازحين.! تايه في شوارع المدينة المدمرة...! بيعرف حد معقول ما حد عرفه حتى الآن...!!

مشهد الارتباك في التفكير بأولويات النجاة؟! هذه المناشدة تصادفك في اليوم الأول وتتجاهلها كإنسان يحاول أن يرصد القتل المفجع وجرائم الإبادة الجماعية، البيوت المبقورة التي أكلت أصحابها رغما عنهم حين فكروا بتركها وحيدة في الحرب! ترصد سياسة التجويع والتعطيش، تفكر بمئات الآلاف فيمن أجبروا على النزوح لأماكن تبدو الصحراء أفضل منها فلا مقومات حياة ولا ماء نظيف ولا ماء غير نظيف حتى...!! فقط الحشرات تنتشر ليلا والبرد يقرص جلد الناس فجرا أما في النهار فلهيب وخيام تصبح كما الأفران...!! ليس لديك متسع من الوقت لتفحص ما يحدث في منطقة سكناك فالضربات المتتالية والقصف والانفجارات تجعل قلبك يقفز أمامك كل لحظة خائفا أن تفقد الأمل الأخير أن يبقى بيتك واقفا على قدميه مواجها آلة القتل الإسرائيلية بصواريخها وعتادها الأمريكي القذر...!! تطالعك المناشدة ذاتها ماهر فقدناه في منطقة قيزان النجار، تعود تتكرر المناشدة للمرة العاشرة وهذه المرة مع مكافأة لمن يجده...!! يا إلهي أين ماهر الآن...!! هل يسير على قدميه حقا كما أخبر شقيقته.. إنه يريد بيته في غزة فلم يعد يطيق حياة النزوح وهنالك ضوء يراه ويمضي كما الحلم...!!

تقول الزميلة الإعلامية ميسون كحيل أخته بعدما نشرت المناشدة عشرات المرات:

"في 13 أكتوبر 2023 نزحنا من بيتنا في قلب مدينة غزة نحو مدينة رفح حيث يوجد لأختي شقة هناك، نزحت مع شقيقتي الصيدلانية و3 أشقاء آخرين من بينهم أخي الكبير ماهر.. استمر وجودنا في رفح إلى ما قبل اجتياح المدينة في شهر مايو 2024، أخي الصغير رائد توجه بهم إلى منطقة قيزان النجار في خان يونس عقب إلقاء المنشورات. هناك بيت "عديله" حيث استقبلهم الرجل بترحاب، ونصب أخي رائد خيمة على باب البيت ينام فيها هو وأخي ماهر."

"في يوم 16 مايو استيقظ ماهر ليقضي حاجته، فأخذه رائد إلى الحمام وأعاده، وعندما شعر أن ماهر استغرق بالنوم، نام هو الآخر إلى جانبه، مضى وقت لم يقدره أحد إلى أن جاءت أختي الساعة السابعة صباحا لإعطائه الدواء فهو أيضا مريض سكري فلم تجده، بحثوا عنه في كل مكان ولم يجدوه.

توجّه رائد إلى رفح للبحث عنه ولم يجده، وتوجه نحو خان يونس ولم يجده. ذاب كالملح، توجهوا للمستشفيات للبحث عنه لم يجدوه، سألنا الصليب الأحمر، أبلغونا أنه لم يتم اعتقاله، ظل البحث مستمرا بين مدينتين إحداهما مدمرة والثانية تتأهب للالتحام مع موت قادم...! وماهر بينهما تائه ونحن بقلوب مفطورة لا نعرف مصيره...!

لغاية اليوم يذهبون للبحث عنه، لكن هناك معضلة عدم وجود وسائل نقل مما يجبرهم على السير لمسافات طويلة في ظل الحر الشديد للبحث عنه، هو كان يطلب كثيرا العودة إلى الحارة والبيت في غزة، حاول عدة مرات الهرب لكن كنا نتمكن من إعادته، في إحدى المرات في بداية الحرب وصل إلى الحدود المصرية تقريبا، لكن في ظل وجود سيارات ووقود في ذلك الوقت تمكنّا من إعادته".. تصمت ميسون ولوعتها تصل عنان السماء فما بين تيه الحياة وتيه الحرب ومعركة لم تنتهِ بعد لا ترى سوى صورة ماهر وحيدا...!!

ماهر ليس المفقود الوحيد في حرب الإبادة على غزة، ولم يكن ملف المفقودين يحظى بأولوية قصوى بفعل بشاعة الجرائم والمجازر التي ترتكب بحق أهلنا وشعبنا في قطاع غزة، فالناس ينزحون عدة مرات بفعل القصف والتهديدات المتواصلة بالإخلاءات الإجبارية من الجيش الإسرائيلي، بعضهم نزح 6 مرات متتالية ولم يسعفه أن يجد أمنا أو أمانا في أي مكان فيها وآخرها تهديدات مدينة رفح...! حجم المعاناة التي يعانيها الغزيون لم تسمح إلا بعد وقت طويل بأولوية السؤال عن مفقوديهم ومعرفة مصيرهم، ومن سيهتم أو يساعد بينما الموت يعصف بكل تفاصيل حياة الغزيين، ومن كان ناجيا بعد برهة يغدو قتيلا وشهيدا ومبتورا ونازحا...!!  

هنالك عشرات المناشدات التي تضجّ بها وسائل التواصل الاجتماعي والمجموعات الصحافية للبحث عن ذويهم، يزداد المشهد تعقيدا بفعل قطع الاتصالات وصعوبة الوصول لشبكة إنترنت في كافة الأماكن، كما أن مشهد النزوح المستمر لم يجعل من السهل توثيق صور المفقودين وأرقام للوصول لذويهم..

السيدة ذات الابتسامة الخجولة يسرى محمد مصطفى أبو العيش "أم السعيد" ذات الأربع وستين عاما صورتها وقد ملأ الرضا قسمات وجهها، بينما هي الآن مفقودة لا نعرف إن بقيت ابتسامتها أم بقي جسدها أم بقيت على قيد الحياة/الموت؟!! لا أحد يعرف عنها شيئا الآن بعد أن أكلها الشوق والقلق والقهر على أخيها وعائلته حيث يقطن في مخيم الشاطىء فذهبت للاطمئنان عليهم وهي كانت في جباليا وذهبت للشاطىء ولم تعد ...! ومنذ تلك اللحظة لم يعثروا عليها، يبحث عنها الأحفاد فهل من أحدٍ يجيبهم بين أصوات القذائف وانفجارات الصواريخ والأحزمة النارية المتواصلة في مخيم جباليا؟ هل من أحد يجيب نداء السيدة أم السعيد بين دفات النزوح المتكرر والقتل اللامتناهي؟ هل هنالك من يجيب الأسر ما هو مصير أحبتهم.؟! وأين يمكن أن يكونوا الآن.؟! 

الطفلة ريهام نحيلة الجسد، تتراقص ما بين الخيام في منطقة مواصي رفح، تتجاهل الطائرات الحربية الإسرائيلية في سماء المدينة بعد أن اكتشفت تلة الرمل لتعيد إحياء قدرتها على اللعب من جديد بعد أن فقدت كل ألعابها في حرب ليست إنسانية، لا تعرف ما يريده الطفل وما يتمناه أن تنام لعبته إلى جواره ليمنحها الحب والحنان والدلال ويشعر أنه مهم للآخرين.. هكذا هي لعبة ريهام التي سقطت كما مئات الآلاف من الأجساد التي سقطت في حرب إبادة لم تتوقف.. ريهام تتقافز كفراشة رغم أن قدميها حافيتان تكاد تكون راقصة باليه بسبب الرمل الناعم الذي يلسع أقدامها الصغيرة من شدة سخونته، تتقافز ليلًا أيضا بفعل الحشرات التي تملأ الخيمة، تتقافز أيضا كلما قصفت الطائرات بيتا أو قلبا جديدا بجوار مكان سكناهم، تتقافز وهي نائمة خوفا وهلكا من جنون الحرب التي لم ترحم طفولتها، ريهام ذات الأربع سنوات لم تنم ليلتها ما بين قفز حقيقي وقفز في الكوابيس التي نالت منها في ليالي الحرب القاسية، خرجت إلى التلة القريبة من خيمتهم وهي ترتدي شباحًا أبيضَ مخططًا بالأورانج وبنطالًا أسود تبدو كما دميتها التي رحلت وتركتها، تحاول أن تلعب رغم قسوة الليل وقسوة النهار، ريهام لم تعد أبدا إلى مكان الخيمة ولم يعثر عليها أحد، نادوا بمكبرات الصوت، وبحثوا بين الخيام والبيوت المدمرة، عفروا أقدامهم بالرمل الساخن تارة والرمل المثلج تارة أخرى، ساروا مسافات طويلة ليلا ونهارا، بحثوا في المشافي المتهالكة لكن أحدًا لم يسمع النداء فهول يوم القيامة الغزاوي لم يترك أحدًا في حياته البسيطة ولم يترك حجرا على حجر ولم يترك عائلة واحدة تنجو من هول الجحيم الغزي.. الطفلة ريهام أحمد سلمان الحلولي لم تعد بينما الحرب لم تتوقف بعد...!!

عشرات بل مئات المناشدات اليومية التي تصلنا ونعيد نشرها لأطفال وأبناء وبنات وأمهات وأخوة وأخوات لم يعرف أهاليهم مصيرهم حتى الآن، ولا زالوا يبحثون بين دفاتر الذكريات التي بدأت تتشكل بفعل الحرب المستمرة، أين يبحثون؟ على مواقع التواصل الاجتماعي التي لا يراها أغلب الغزيين؟، أيبحثون بينما لا يتوفر الانترنت ولا الاتصالات ولا المناشدات تصل لأحد؟، حتى أرقام الهواتف والجوالات ليست الطريقة الأنجع ليعرف أحد معلومات عن أحبائهم فهي غالبا خارج الخدمة! أي حال بائس هذا الذي يحيط بالأحبة كيف ينفطر قلبهم كل لحظة وكل ساعة وهم تائهون عن أحبابهم لا يعرفون لهم طريقا..


الصورة: للمصوّر معتز عزايزة.

هداية صالح شمعون

كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة

رأيك يهمنا