امرأة خالدة - تشهد إعدام أبنائها ثم تتبع خطاهم!

أذكر صوتها الهادئ الثابت وشبح الابتسامة الدائم المرسوم على شفتيها، كنت تشعر حينا أنها الأخت الكبيرة التي ترعاك، وأحيانا تشعر أنها الأم التي تحتضنك، وأحيانا أخرى تشعر أنها عشرات الأمهات في امرأة واحدة، تفيض حبا وحنانا لكل من يلتقيها، لا تملك إلا أن تحب رؤيتها بوجهها البشوش، تهون عليك مهما ثقلت أحمالك بكلمات بسيطة، وحركات تلوح بها بيديها بخفة مشيرة للسماء قائلة: 

"هنالك رب كريم يرعاك ولا يتركك...!"

 تستغرب كيف بحديث متبادل لا يتعدى الدقائق كيف تبتسم في أشد الأوقات العصيبة، هي امرأة ثابتة كأنما أتت من زمن أكثر صلابة وقوة، كأنما رأت الماضي والحاضر لذا تشعر معها بالثبات، وكأنك لا تخاف شيئا قادما فكل شيء مسير بإذن الله.. هكذا أذكرها جيدا كأنما أراها أمامي الآن.. لكنها لم تعد كذلك...!

 لم تكن شابة حين أعدمها جيش الاحتلال الإسرائيلي أمام أبنائها ومعهم...!! لم تكن شابة فقد أمضت سنوات عمرها في رعاية والديها "أبيها وأمها كانوا كبار في السن" يعيشون وحدهم في مخيم الشاطئ، بينما كانت أسرتها "زوجها وأبنائها وبناتها" في مخيم الشيخ رضوان، كانت تفيق على صلاة الفجر تصلي الفجر ثم تتجه إلى بيت والديها المسنين في مخيم الشاطئ تظل ساعات النهار ما بين ترتيب البيت، واستقبال الجيران، وإعداد الطعام، ورعاية والديها والاهتمام بصحتهما، لم تتذمر يوما استمرت على هذا المنوال لسنوات طويلة تظل من الفجر حتى قبل منتصف الليل لتعود لأسرتها في الشيخ رضوان، رحلة البر بالوالدين لم تتعب السيدة نوال "أم رائد الخالدي" أبدا ولم يتذمر زوجها أو أبنائها، فهي ابنة بارة قضت سنوات عمرها مع والديها حتى رحلا إلى السماء، حينها فقط بدأت تشعر بآلام الظهر والجسد تلك التي لم تكن لتهتم بصحتها لأن هنالك من هم أكثر أهمية بالنسبة لها..

اصطفاها الله لتكون امرأة مبتسمة حين كنت أزورهم إذ كنت أقطن في رفح، وأتجه يوميا إلى غزة بفعل الدراسة أو العمل، كانت أول من يستقبلني ضاحكة قائلة: 

-"وين يا هداية وين ما بنشوفك؟! ليش بغزة كل يوم وما بتميلي تتغذي عنا، وتزورينا، بنحب نشوفك دايما.؟!"

كانت مضيافة ومحبوبة تشعر أنها تحتضنك دون أن تقترب منك، تضحك ساخرة في محاولات متعددة لتشركك بالحديث، تمد يدها وتشد على ذراعي كلما فكرت بالنهوض للمغادرة لأجلس ساعة أخرى، ثم أخرى.! 

كانت امرأة ممتلئة بالحب والحنان والامتنان، تشعر بوجهها الناصع البياض بأنها تعرف كل شيء؟! ومهما قلت أو شرحت عما يدور حولك تقول: 

-"لا بيت كالوطن ...! مهما تغربوا وبعدوا عن الوطن إلا ما ييجي يوم وترجعوا هو في بعد البيت وبعد المخيم؟!"

 لم أكن أدرك كثيرا ما ترمي إليه ولا أعرف إن كانت تدرك ما تقوله كأنما تعرف المصير المرسوم لها ولعائلتها...! كانت نسيبتنا لكني لم أشعر إلا بها كأم حانية، وأخت كبيرة أحب حديثها، ونحن نجلس في صحن بيت مخيم الشاطئ تقوم بكل خفة لتجالسنا، وتصنع القهوة لديوان أبيها الحج أبو شوقي الخالدي، كان البيت ممتلئا بالحب والود صباحا ممتلئ بالزوار، وظهرا ومساءا قل ما تجد البيت فارغا، كان كالبيت الفلسطيني الوطن الذي يضم كل الأحباب والجيران وحتى المارة، كان بيتا عامرا بقلوب أصحابه الراحلين وآخرهم السيدة نوال التي تركت بصمتها في قلبي، وصوتها لازال يدق في روحي، كأنها ماثلة أمامي بابتسامتها وضحكتها العاتبة على قلة زياراتي..!

مع بداية حرب الإبادة الجماعية على غزة تقطعت أواصر كل العائلات، ورغم عشرات الآلاف من القتلى والدمار في غزة، واكراه الناس على النزوح من مدنهم ومخيماتهم وقد أتيحت لها الفرصة للمغادرة والنزوح للجنوب إلا أنها قالت قولا واحدا:

-" لن أترك بيتي! لن أترك بيتي! ما سنراه هنا سنراه في كل مكان بغزة، لن أغادر بيتي!!" وكانت محقة فكل قطاع غزة تحت النار...!

وكان لها ما أرادت ورغم أن البيت قد تعرض للقصف من قذائف الدبابات الإسرائيلية إلا أنها عادت وسكنته بعد أن نجاهم الله من الموت المحقق، وأصلحوا جزءا من البيت في الدور الأول وظلت فيه مع عائلتها...! لم يكن البيت صالحا وباتت الأوضاع قاسية ومنهكة لم يتوقف القصف من الطائرات ومن الدبابات لحي الشيخ رضوان ما اضطرها وعائلتها للجوء لبيت أبناء عموم في الجوار...!

ثلاثة أيام مصاب وحيدا بين عائلة الشهداء...!!

وفي اليوم السادس والسبعون من حرب الإبادة الجماعية أحاطت الدبابات الإسرائيلية بمنطقة الشيخ رضوان وأحكمت الخناق على الأهالي في بيوتهم أحاطت بالمنطقة من كل الاتجاهات وظلت تضرب القذائف الإسرائيلية المتفجرة، في تمام الساعة الثانية فجرا تم قصف البيت المجاور للبيت الذي تقطنه السيدة نوال مع عائلتها وعائلات أخرى، هرع الرجال لإنقاذ من أمكنهم إنقاذه واجلاء الشهداء ودفنهم، لم يمضي اليوم ومع آذان المغرب والجميع في بيوتهم بينما لم يتوقف صوت القذائف الإسرائيلية والانفجارات بكل مكان، حتى وصل إلى مسامع الجميع صوت تحركات لقوات الجنود الإسرائيليين وهم يجولون بالجوار، ويتكلمون باللغة العبرية ويمشطون المكان، ومع تدمير بعض أجزاء من البيت الذي يأوون إليه فقد رأوا الرجال الفلسطينيين "أصحاب البيوت: من خلال الكشافات التي يضعونها على رؤوسهم، فباغتوا الجميع فورا بإطلاق الرصاص عليهم جميعا ليصيبوا كل من كان بالمكان، ومع اطلاق صوت الرصاصات في أجساد الرجال العزل، صرخت النساء والفتيات والأطفال في الغرفة المقابلة لمكان اعدام الرجال، ورغم رؤيتهم أنهن نساء وأطفال عاجلوهن بإطلاق الرصاص الحي بشكل متعمد وبإعدام بدم بارد لتصاب السيدة نوال وتسقط أرضا هي وامرأة أخرى، ويتواصل اطلاق الرصاصات الغادرة في الأجساد الحية لا تفرق بين رجل وامرأة كبير أو صغير..!

تسقط في هذه الدقائق بإعدام متعمد السيدة نوال وزوجها وأولادها رائد وأمجد وآخرون من الأقارب والجيران، رأتهم بعينيها بينما الدماء تسيل من جسدها، تحاول أن تزحف لأبنائها ولزوجها إلا أن الإصابات قد نالت منها، رآها مؤمن حفيدها ورأى جده وأعمامه يقتلون بدم بارد أمامه، ولولا وصية أحد أعمامه قبل استشهاده بدقائق لما ظل على قيد الحياة/النجاة، إذ وضع مؤمن رأسه وجسده بحماية ظهر عمه المصاب واستند للحائط خلفه، ولم ترحمه الرصاصات التي انطلقت بكل مكان ليصاب في ساقه بينما حمى جسد عمه الشهيد باقي أجزاء جسده من باقي الرصاصات..!! ظل مؤمن ذي التسعة عشر عاما محمي بأجساد عائلته التي قتلوها أمام ناظريه ظل على قيد الحياة لمدة ثلاثة أيام لا يتمكن من الحركة بسبب القذائف والقصف المتواصل، وتواجد الجنود الإسرائيليين، وحاول أن يجمع أجساد جده وجدته وأبيه وأعمامه ليضعهم بجوار بعضهم ويجلس بينهم ليل نهار حتى انسحبت القوات الإسرائيلية، ثلاثة أيام مصاب وحيدا بين عائلة الشهداء...!! يشم رائحة الدماء وقد امتزج الألم بالحزن والفاجعة والمشهد يتكرر أمامه حيث بقي حيا بين جثامين الشهداء...! وبعد مرور الأيام الثلاثة القاسية، وانسحاب القوات الإسرائيلية وتراجعها عن المنطقة، جاء الإسعاف للمكان لينقذوا حياته ويحملوا جثامين شهداء عائلة الخالدي التي تم اعدامها وقتلها دون أي مبرر سوى الاجرام الإسرائيلي الذي لا يعبأ بحياة النساء والأطفال والرجال العزل...!!

قتلت "الأم والجدة نوال" بدم بارد رغم أن جنود الاحتلال الإسرائيلي رأوها امرأة تتجاوز الستين عاما، تقف بعيدا عنهم في البيت الذي يأويهم، رأتهم بأم عينيها يقتلون ابنها الكبير رائد الذي كان الهدية الأولى من الرحمن رأته يسقط مجدلا بدمائه أمامها بعد أن ربته لسنوات طويلة، ربته حتى كبر وتعلم ودرس وعمل في وزارة الصحة، رأت أولاده وربتهم، سقطت الهدية الربانية الأخرى التي رزقها الله أمام أعينها وأصابت الرصاصات الغادرة جسد ابنها امجد ليستشهد وتشم رائحة دمه الطازج قبل أن تفارق الحياة، شهقت "الأم" شهقت "السيدة نوال" ولم تنطق حين سقط الابن الثاني أمام ناظريها، صرخت النساء خلفها هلعا جزعا رعبا ليلتفت جنود الاحتلال إلى الغرفة التي بها النساء حيث تقف السيدة نوال شامخة ودموعها قد تحجرت في عينها.. أبنائها سنوات عمرها.. وريعان شبابها يقتلون أمامها في ثواني معدودة، لتعاجلها رصاصات الإعدام وتسقطها أرضا في ذات اللحظة التي أسقطت رصاصات الغدر زوجها "أبو رائد"، كانت عيناها مفتوحتان كأنما تريد أن تقول شيئا كأنما عيناها قد تحجر فيهما الدمع فأبى أن ينهمر قهرا ووجعا، فأي قلب لأم أن يحتمل موتا باردا في ثوان معدودة تعدم أسرتها أمام عينيها، ثم تسقط أرضا مضرجة بدمائها بينما عينيها تتطلعان إلى أجساد أبنائها وعائلتها وسط بركة تتسع من الدماء...!! 

أما الحفيد مؤمن "ابن ابنها البكر رائد" فقد أصيب وظل ثلاثة أيام بين أجساد جده وجدته نوال وأعمامه وأبيه "مؤمن" ظل على قيد الحياة ليكون شاهدا على جرائم الاحتلال الإسرائيلي...! مجزرة عائلة الخالدي في الشيخ رضوان يوم الجمعة بتاريخ 22 ديسمبر للعام الأسود 2023 في الأيام الأخيرة من العام أخذت معها أرواح كل من السيدة الجميلة وزوجها وعائلتها ...!! 

هي صرخة شقت عنان السماء من أين أتي بقلب لأحتمل اعدام عائلتي أمام عيني.. لسان حال السيدة المبتسمة الثابتة ...!! لكنها صرخة ظلت مكتومة في قلبها الذي رحل بعد أن سرق الاحتلال ابتسامتها وعائلتها ...!

السيدة نوال، الأم، والجدة، نوال الجميلة، بيضاء اللون ذات الصوت الهادئ الثابت كانت مع آخر أنفاسها الصارخة تهتف بالشهادتين بعد أن شاهدت اللحظات الأخيرة لأبنائها أمام عينيها.. في حي الشيخ رضوان الذي لم يغادراه رغم جرائم الحرب التي حصلت فيه، لتكون وعائلتها احدى جرائم الحرب التي تسجلها عائلة الخالدي في حي الشيخ رضوان...! 

الشهداء الأقمار الذين تم اعدامهم في ذات الجريمة هم:

الجدة والام: نوال توفيق محمد الخالدي 

الجد والأب: عبد ربه عبيد الخالدي

الابن الأكبر: رائد عبد ربه عبيد الخالدي 

الابن الأصغر: أمجد عبد ربه عبيد الخالدي 

ابن العم: حامد محمد عبيد الخالدي


ملاحظة: مرفق فيديو لشاهد العيان الذي نجا من الجريمة الإسرائيلية هو مؤمن رائد الخالدي (الحفيد).

هداية صالح شمعون

كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة

شاركونا رأيكن.م