بصوت حالم لازال يغفو على صدر الموت/الحياة قالت الطفلة "منة"[1] خرجنا من تحت الأرض لنرى ونعيش الخراب نراه في سقوط بيوت جيراننا، الحي بأكمله قد تم تدميره، وجوه الناس تتألم، كل واحد عنده قصة حياة/موت متى سنسرد الحكاية ومتى سننجو فعلا من الموت/الحياة...!!

إنها رواية الناجون من الموت، ذلك الموت القاهر يذيقهم بعضا منه ثم يرحل؟! "هذه طفلة فلسطينية تعيش في مدينة رفح جنوب قطاع غزة واسمها "منة الله" عاشت تجربة الحياة أثناء الموت وهي لم تتجاوز الـ 14 عاما نجت من القتل بفعل الطائرات الإسرائيلية وهي الآن تتألق بالحياة وهي تقرأ قصائد الشعر وتتقافز أمام الكاميرا التليفزيونية على أنقاض بيتها والبيوت المجاورة...! ترتدي الثوب الفلسطيني بينما شعرها الأسود الداكن يمزق ليل غزة الموجع، وتجبر الصباح أن يعلن عن نفسه كي تتألق بكل أناقتها على أرض لازالت ترتجف من هول القصف في المحيط...!!

منه الله هي غزة بكل هرموناتها المتناقضة، تفاجئك بحياتها كما تفاجئك بموتها.!! غزة لم تكن أبدا أسطورة خالدة في كتب الإغريق، ولم تكن سهم كيوبيد الذي يخترق قلوب العشاق، بل لم تكن آلهة الجمال يوما ما...! يحبها المستمع والمتابع وقت العدوان الإسرائيلي وتتعلق عينه بها وبأخبارها لأنه يريدها أن تبقى شامخة وعلى قيد الحياة، وما أن تضع الحرب أوزارها حتى يهرب منها الجميع...!! من يحتمل ما تحتمله غزة بكل جمالها/بشاعتها...!! من يمكنه أن يضحك ويرقص ويقفز على قلبه الملطخ بدماء أطفال المدينة المجنونة/الهادئة...!! من يمكنه أن يفعل ما فعلته غزة إلا من لا زال يحيا داخل حصارها الملعون...!!

غزة لم تكن يوما أسطورة ولكنها كما يقول أهلها "غزة غزاها البين"...!! مدينة تتكئ على جراحها، تمشي كامرأة عجوز تتكئ على عكازها، تلمح الطائرات الإسرائيلية المعادية في سمائها الصافية ولا تكترث تتجه صوب فرن الطين أمام بيتها، النيران تشتعل في قلبها فتضع الخبز العجين، تصم آذانها أصوات الانفجارات وصوت الإسعافات وصراخ الثكلى لكنها تكمل خبيزها، تمد يدها إلى الرغيف الساخن تتصاعد منه الأبخرة لكنها تمسكه بيدها العارية، تلمح بيتها الذي جاءت منه وهو ينهار، تصلها حجارة البيت الذي بنته بيدها وأبنائها تقع الأتربة على باقي الأرغفة غير المخبوزة يمتلئ وجهها بالغبار، ورغيفها الطازج تغطيه الأتربة، تقسمه وتمضغ -دون أن تبتسم- لقمة ساخنة، تغمض عينيها بسلام وقلبها يرتجف، لم يشعر أحد برجفة قلبها لكن الجميع شاهدها وهي تمضغ اللقمة الساخنة وتكمل خبيزها..!! هذه هي غزة التي لا يعرفها الكثيرون ولن يعرفوها بمقال متواضع من إحدى قاطنات الهم اليومي، وقارئة وجوه الناس وقلوبهم، فصاحبته لم يعد بإمكانها أن تقرأ قلبها من كثرة الأوجاع التي التهمت سنواتها...!!

غزة التي في خاطري هي غجرية جميلة، تهذب شعرها الطويل كل صباح، غزة التي أعرفها هي حورية البحر المتوسط التي تتمايل بزرقة عينيها رغم الطائرات المعادية التي تلقي الصواريخ في قلبها بين حين وآخر...!! غزة كما أراها هي جميلة بمقاومتها ونضالها وهي بشعة بصمودها الدائم وشراستها في الدفاع عن نفسها وبناتها، غزة هي تلك الدبة التي احتضنت بناتها وأبنائها ومن خوفها عليهم خنقتهم ولازالت فهمها أكبر من أن يوصف؟!! ووجعها أكبر من أن يقال في طرقات المدينة المتذبذبة الهرمونات فتارة تجدها في نوبة تصيب جسدها بالحرارة الشديدة فتبدو مريضة مستكينة ترتجف...! الناظر من خارجها يظنها تقاوم بطريقتها، تعيش بطريقتها، والقاطن فيها تلفحه حرارة الألم وضيق الصدر فيجاهد مع كل رجفة كي يبقى على قيد الحياة...!!

وتارة أخرى تجدها تشعر بالبرد دون أن ترتجف...! والناظر خارجها يظنها باردة القلب والروح، يفكر أنها لا تقهر أبدا ولا مشاعر ظلت لها بعد كل هذه العدوانات الإسرائيلية المتكررة عدوان 2008، عدوان 2009، عدوان 2012 عدوان 2014، عدوان 2021، عدوان 2022...!!

عن الحصار والسفر

غزة التي لفظت إحدى أرواحها بسبب الحصار الإسرائيلي المستمر منذ 2006 لقد أصبح الحصار بعمر يزيد عن 15 عاما، وقد زاد من فقرها وبطالة شبابها وشاباتها ...!

غزة مدينة محاصرة برا وجوبا وبحرا لا يمكنها أن تخرج من بيتها فحدودها معبرين أحدهما معبر رفح البري وكي يفكر من يعيش بغزة أن يسافر عليه أن يتمنى أن يكون كبيرا في العمر كي لا يضطر إلى العشرات من الأسئلة عن سبب السفر، وعليه أن يذهب ليسجل اسمه ومعه ملف كامل لأسباب السفر، وأدلة على هذا السفر، وحسب وجهته تزداد صعوبة سفره، وعليه أن ينتظر أيام وأشهر طويلة قد تمتد في بعض الأحيان إلى ستة أشهر كي يتلقى ردا، وهنالك أوقات كثيرة لا يسمح بالتسجيل من الأصل، وتتوقف حياة الغزي على الأحوال السياسية والاقتصادية من حوله طيلة الوقت.
وفي أحيان قد يضطر للمبيت في الشارع أو السيارة أو صالة الانتظار...!! لذلك كثيرا ما يقولها الغزيون بلغتهم الخاصة.. "والخارج منها مولود".!! والمعبر الآخر هو معبر بيت حانون (حاجز ايرز) الذي تسيطر عليه قوات الاحتلال الإسرائيلي وهو حاجز لا يصله أي شخص فهي منطقة عسكرية تحتاج أيضا قبل الوصول لها أن يكون لديك تصريح مرور ستكون بحاجة إلى ملف متكامل للتسجيل وتوضيح الغرض وإن كان شابا أو شابة فإن الأمر يصبح أكثر صعوبة لذا يتشارك الغزيون الصغار مقولة "ليتنا أكبر عمرا" في مقصد أن إجراءات السفر لمن هم فوق الأربعين قد يبدو أكثر يسرا.! وغالبا ما يمنع الكثيرون ويحرمون من التصريح رغم محاولاتهم، معبر ايرز هو مدينة معدنية "مدينة الأشباح" إذ كل ما حولك ليس إلا كاميرات مراقبة وممرات حديدية وجنود إسرائيليون مدججين بالسلاح والرشاشات، بينما الأبواب كلها الكترونية، والتفتيش اجباريا بالأشعة فوق البنفسجية...! وتفتيش يدوي أيضا من المجندات، وحدث ولا حرج عن سلسلة من الممنوعات التي يجب أن يعرفها من يكون محظوظا بالخروج من عنق غزة.. وفي أتعس الأحوال قد يجد المسافر نفسه معتقلا وفي السجون الإسرائيلية بدون أسباب كما حدث مع أحد الرياضيين أو الصحافيين أو مدراء المؤسسات الذي كانوا في طريقهم إما لحضور مؤتمر، أو لدراسة، أو لحضور مباراة...!! عليك أن تبتسم فحياتك قد تقلب رأسا على عقب في لحظة واحدة حتى أثناء فرارك من الحياة في غزة...!! فهي تتشبت بك كأم تلد أطفالها وتدفنهم بجوارها خوفا عليهم مما هو آت...!!

لا منفذ آخر لبنات وأبناء غزة غيرهما، وهذا هو الحصار البري الذي يتحدث عنه الغزيون ورافقهم لسنوات طويلة ممنوعات كثيرة للاحتياجات الإنسانية من مواد بناء أو مأكل أو ملابس.. الآن قد تجد كل شيء تريده لكنك كغزي لازلت تعيش الحصار، فكيف يمكنني أن أحدثكم عن الحصار ومفهومه بالنسبة لنا كفلسطينيين ...!! الحصار هو أن أتعرف على زميلتي في العمل في بلد مثل السويد...!! لأكون الغزية الوحيدة التي تمكنت من الوصول لإحدى مؤتمرات العمل ذات عام...!! قد ألتقي بصديقات ومدربات زميلاتي في بلاد غريبة بينما لا نلتقي كفلسطينيات بجوار بحر غزة فلا أنا قادرة على لقائهن في أي مدينة فلسطينية ولا هن قادرات على الوصول لغزة المنفية.!! الحصار هو أن أتوقف عن التفكير في أن السماء هي مكانا للطائرات الإسرائيلية ومرتبطة في ذهني بأنها سماء مخيفة بينما لا تحلق الطيور بدون سماء زرقاء فوقها...!! الحصار هو ألا أشعر بالأمان على ارض تهتز فجأة بفعل الانفجارات والغارات الإسرائيلية الحقيقية بينما ذاهبة بكل سلام إلى عملي في يوم ما...!! الحصار هو أشعر بحزن شديد حين أرى شباب وبنات غزة وقد تجاوز عمرهم العشرين عاما بينما لم يجربوا السفر مرة واحدة ولم يعرفوا بلدهم وأقصى أحلامهم أن يصلوا في الأقصى ويزوروا نابلس وجنين والخليل ورام الله والناصرة ويحلموا بحيفا ويافا بينما البحر الأبيض المتوسط يتمختر في مدينتهم، فكثيرا ما هربوا من أمام البحر بينما أشلاء أطفال أبو بكر قد اختلطت برمال البحر وشاطئه.! بحرا وبرا وجوا عشنا قهرا وموتا ووجعا، الأحياء منا يعلمون أكثر من الشهداء أن الجمال الخارجي لا يكفي لحياة أشبه بالحياة...!

مدينة مكلومة/متأنقة

غزة طائر بألوان زاهية لكنه مكبل بالجنازير يعيش في قفص صغير، في قلب قفص كبير، وأقفاص كبيرة متشابكة وكثيرة لا تنتهي...! فمن أنا حتى أعاتب مدينتي المكلومة؟ ومن أكون حتى أشتهي حرية مسلوبة بفعل احتلال بغيض وسلاطين الحكم فيها؟؟ ومن أكون لأتغنى بجمالها وأناقتها كل حين؟؟! أنا ابنتها الضالة التي تكرهها وهي تعشق كل شيء فيها...!! أعشق وجه أمي التي رحلت فيها وولدتني فيها، أعشق صوت أبي الذي تحتضنه الآن في ترابها، لي فيها مقبرة ولي فيها ميلاد توأمي سامر وساهر.. لي فيها وردة زرعتها وماتت ولي فيها كل ذكرياتي وحاضري.. كل الماضي والحاضر ولا أعرف مستقبلا في مدينة ترحب بالموت كل صباح...!! حين تسنح لنا فرصة السفر المستعصية نضحك كثيرا في المطارات الغريبة...! وفي البلاد الساحرة نضحك ونبكي معا لأننا كأصحاب الكهف لا نعرف غير وجعنا ولا ندرك إلا جنوننا.. "محور الكون" كلمة طالما سخرنا من أنفسنا بأنفسنا عليها، فغزة في عقول أهلها هي محور الكون فعليا لأننا لم نرى غيرها، ولم نعيش إلا بين أسوارها وحصارها ولعنتها...!! هنالك معاناة كثيرة مختلفة ومتنوعة لكل فلسطيني في الضفة الغربية وفي نابلس وفي جنين وفي الـ48 وفي المهجر والشتات.. نحن نفهم ذلك فقط حين نخرج من عنق الزجاجة غزة، وما أن نعود حتى ندرك أننا لم نفهم شيء لأننا نعيش هذا الهم من سنوات ولادتنا، لم يعطنا أحد فترى للراحة أو لأخذ نفس لهموم جديدة. همومنا متراكمة وقاسية وسريعة وقاتلة وآثارها التي لا يعرفها أحد ولن يعرفها فقد أوجعتنا غزة لدرجة لم يعد بالإمكان أن نعيد اجترار وجعنا وعجزنا وقهرنا لم يعد بالإمكان أن نقدم توصيفا مثاليا لما نعيشه...!! إنها حكمة العلاج بالصمت بعد الألم، تجد أنك تتألم وتفتح الجرح كلما تكلمت فتحاول ألا تستذكر تفاصيل الموت والحياة التي تحيط بك من كل صوب؟؟!! من منا لم يعايش فكرة أنه كان قاب قوسين أو أدنى من الحياة/الموت..

لقد اكتفيت في مقالي الأول كي لا تحترقوا أكثر لا قربا ولا بعدا عن روحنا المكلومة، والتي نبهرها بالكثير من المساحيق لأجل أن نواصل طريقنا المحفوف بالأشواك الساخنة كهبة حرارة جسدي وغزة الآن التي بدأت تهدأ بعد أن كان بوحي صادقا ...!

الاحالات:

  1. نجت "منة الله" وعائلتها بينما لم ينجو في ذات الفاجعة 7 شهداء منهم طفل وسيدتين من جيرانهم، وبلغ عدد الجرحى في هذه المجزرة 39 إصابة منهم 18 طفلا و13 سيدة من منطقة حي الشعوت في محافظة رفح جنوبي قطاع غزة.


حقوق الصورة: معتز عزايزة.

هداية صالح شمعون

كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة

شاركونا رأيكن.م