الفن التّشكيلي والإنساني في غزة تطوّر
يبلغ عدّد السّكان في محافظات غزة ما يقرب على مليوني، يتوزعون على مخيمات ومدن عدة على مساحة من الأرض لا تزيد عن 363 كيلومترًا مربعًا، إذ يبلغ طوله 46 كيلومترًا وعرضه من 6-10 كيلومترات. سكان محافظات غزة أغلبهم من اللاجئين الذين رحلوا مرغمين عن أرضهم وقراهم، وتشتتوا ليحطوا في مخيمات بائسة تفتقر إلى الحد الأدنى من الخدمات والظّروف الإنسانيّة غير العاديّة.
من المعروف أنّ الفلسطيني هو أكثر النّاس معاناة، فالمعاناة بكلّ أبعادها مرسومة وبشكل واضح على سماته التي ظلت ذات صبغة أساسيّة يدفعها المرض والجوع والفقر، ورغم كل ذلك إلّا أنه يتمتع بالإرادة والأمل، ويسعى جاهدًا من أجل الحصول على حقوقه المشروعة في حياة تغمرها الحرية والكرامة والإنسانيّة. يعتز بالعلم والثّقافة والفنون ويرتقي بنفسه ومجتمعه، ويستفيد من التّطورات والتّغيرات التي تحدث من حوله.
فالحركة الفنيّة التّشكيليّة الفلسطينيّة في غزة خاصة، وفي عموم فلسطين اتخذت مسارها بعد نكبة عام 1948 وبدأت بعض المواهب الفلسطينيّة التي كان على رأسها الفنان إسماعيل شموط وآخرون تشق طريقها متحديّة كل الظّروف الصّعبة في سبيل الوصول إلى القدرة على التّعبير، وإيصال ذلك إلى الجماهير في كل مكان. فالستينات تعتبر سنين الخصب للحركة الفنيّة التّشكيليّة الفلسطينيّة من حيث تدفق عددًا من المواهب الفلسطينيّة لدراسة الفن في المعاهد والأكاديميات العربيّة والعالميّة، وكان من أبرز فناني هذه المرحلة: شفيق رضوان – بشير السنوار – اسماعيل عاشور – نعيم ابو الجبين – بشير النزلي – كامل المغني وغيرهم.
وتتميز الحركة التّشكيليّة الفلسطينيّة بالتصاقها الشّديد بقضيّة شعبها الفلسطيني إذ إنّ مضمون أعمال غالبيّة الفنانين الفلسطينيين يحمل بين طياته القضيّة الفلسطينيّة بكل أبعادها، فهي حركة نمت في صميم مأساة فلسطين وترعرعت على الثورة، إنها حركة ملتزمة حكمًا وبشكل طبيعي تجاه قضيّة شعبها وثورتها، وبناء دولتها الفلسطينيّة وعاصمتها القدس الشّريف.
ومن بدايات الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربيّة وقطاع غزة، وجد النّاس أنّ المعركة ضد الاحتلال تتطلب حشد كلّ الطّاقات والوسائل، ووجد العديد من الشّباب أنّ سلاح الفن في المعركة هو أحد الأسلحة المهمة. لذلك ظهرت حركات فنيّة لم تكن موجودة من قبل وكان من بينها حركة الفن التّشكيلي التي رافقها تخرج عدد من الفنانين التّشكيليين من الجامعات والمعاهد المتخصّصة.
ولدت الحركة التّشكيليّة الفلسطينيّة قويّة واعيّة، ارتبطت بالجماهير ارتباطًا عضويًا وحملت همًا كفاحيًا ضد الاحتلال الإسرائيلي، فنًا مقاومًا بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى المقاومة، وذلك رغمًا عن ظروف القهر التي يعيشها الفنانون من منع المعارض ومصادرة اللّوحات والملاحقة لا تعطي الفنان إمكانية التّعبير الكاملة عن ذاته وطموحاته، وما يريد أن ينقله إلى جمهوره وليس من المستغرب أن تكون بعض أفضل أعمال الفنانين التّشكيليين لم تلتقي بالجماهير تحسبًا من المصادرة أو الملاحقة.
إن عداء الاحتلال الإسرائيلي للثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة لا يقتصر على العداء والكره وحدهما، بل يتجاوزهما إلى أبعد من ذلك فالعسكر هنا يحملون بالإضافة إلى روحهم العسكرية نزوعًا شوفينيًا ضد الوجود الفلسطيني والطّموحات الفلسطينيّة وما تجسده الثّقافة الوطنيّة الفلسطينيّة من تعزيز لهذه الطّموحات فنحن، مثلاً لم نسمع في كل تاريخ العداء للثقافة أن السّلطات شنت عداءً على الألوان ذاتها إلّا هنا، وفي ظل الاحتلال الإسرائيلي للضفة وقطاع غزة، وقد أصبحت قصة الألوان الأربعة المحرمة معروفة لدى الجميع .
في مثل هذا الواقع شّديد القتامة تعمد الفنان الفلسطيني وانصهرت ألوانه في لجة نار الاحتلال الإسرائيلي لتكون أكثر صفاء وأكثر معاناة، فالفنان الفلسطيني مثله مثل سائر المثقفين الفلسطينيين، تقدمي النزعة، وطني العطاء، وهذه الصّفة المشتركة دفعت بالفنانين إلى إنجاز أعمال متقاربة الأفكار بل وتكاد أن تكون متقاربة الأسلوب والتّكنيك، وكان يعبر عن كلّ ما يمر به شعبه من ويلات الحروب المتكرّرة وما عاناه ويعانيه وخاصة بعد الحرب الأخيرة في مايو 2021 من مأساة إنسانية، ومن رعب وخوف أثر على الجميع من أطفال ونساء وشيوخ.
إن الدّرب الصّعب الذي سار عليه الفنان الفلسطيني وارتضاه وآمن به، هو الدّرب الذي سيجعل من هذا الفنان صّادق التّعبير والرّؤية، قادراً على الفعل والمشاركة الثّوريّة من أجل تحقيق الطّموحات الوطنيّة الفلسطينيّة رغم كلّ المعوقات والصّعاب.
ورغم الإجراءات التّعسفية التي اتخذتها السّلطات الإسرائيليّة ضد الفن والفنانين، وما صاحبه من معوقات تبعث ضرورة وجود مقر فني دائم للحركة التّشكيليّة في محافظات غزة، ليتيح للفنان عرض أعماله أمام الجمهور، وممارسة نشاطه الفني.
الصورة المرفقة: معرض الربيع الاول ١٩٨٥، بمشاركة المرحوم الفنان عصام بدر ، الفنان نبيل عناني ، الفنان محمد ابو سته ، الفتان تيسير بركات ، الفنان ابراهيم سابا ، الفنان صقر القتيل ، الفنان طالب دويك ، الفنان سليمان منصور ، الفنان احمد ابو الكاس ، الفنان عوض ابو عرمانه ، الفنان جلال ضبيط."
د. أحمد أبو الكاس
فنان تشكيلي، يحمل شهادة الماجستير في الفنون الجميلة من أكاديمية الفنون بنسلفانيا أمريكا وشهادة دكتوراه في الفنون جميلة من جامعة أذربيجان باكو. في سجله أحد عشر معرضاً شخصياً في كل من مصر وغزة والخليل وأبوظبي والشارقة ودبي وامريكا واوكرانيا واذربيجان وأكثر من 240 مشاركة في الأرض المحتلة وخارجها في كل من غزة والقاهرة والخليل والقدس وأم الفحم وأريحا وبيت لحم ودولة الإمارات ولندن وأمريكا واوكرانيا وأذربيجان والعديد من المقالات والتي لها علاقة بالفن التشكيلي الفلسطيني خاصة والفن التشكيلي بصفة عامة