فِلِسطيني في الأَكاديميا الإسرائيليّة: في حَضرَة الصّمت الإِجباريّ

أن تكون فلسطينيًّا في الأكاديميا الإسرائيليّة ليس مجرد هويّة شخصيّة، بل هو موقع هشّ ومعقَّد، يتطلب توازنًا دائمًا بين الحفاظ على الكرامة الشخصية والنجاح المهني، ومواجهة واقع سياسي واجتماعي شديد التحيّز. 

هذه قراءة واقعيّة لوضع يعيشه مئات الطلاب والباحثين الفلسطينيين يوميًّا داخل المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية، حيث بات التّعبير عن الرأي السياسي، حتى بأَبسَط أشكاله، مخاطرةً لا يجرؤ عليها إلا قلّة. لم يَعُد الصمت خيارًا شخصيًا، بل ضرورة وجودية، مفروضة بقوة الخوف من العَزل، أو التّشويه، أو فقدان المكانة الأكاديمية. ما أتحدّث عنه ليس مواقف سياسيّة حادة أو شعارات راديكالية، بل مجرّد التعبير عن موقف إنساني أو وطني يخالف الرواية الإسرائيلية السائدة، سواء في ما يخصّ الحرب على غزة، أو في مجرّد التمسك بالهوية الفلسطينية كحقّ طبيعيّ وغير قابل للمساومة.

في الجامعات الإسرائيلية، حيث يُفترَض أن تكون حرية الفكر والرأي من المبادئ الأساسية، يكتشف الطالب الفلسطيني سريعًا أن هذه الحرّيات ليست متاحة له بالقدر ذاته. مجرد لحظة صَمت أثناء النشيد الوطني “هتكڤاه” قد تتحول إلى تُهمة بعدم الولاء، وصورة أو منشور على وسائل التواصل قد يجرّ إلى تحريض، واستدعاء، وربما فَصْل. وكلّما كان الشخص في مرتبة أكاديمية أَدنى، مثل طالب جامعي في بداية مسيرته، كان استهدافُه أسهل، وهجوم الجمعيات الطلابية اليمينية عليه أسرَع وأَعنف.

لكنّ المفارقة أن الخوف لا يتلاشى مع التقدّم في السلَّم الأكاديمي، بل على العكس، يزداد تعقيدًا. فكلما ترقّى الأكاديمي الفلسطيني في المنصب، كباحث أو محاضر أو حتى بروفسور، يصبح أكثر وعيًا بحجم المخاطر. رغم أنه يمتلك من المكانة ما يُفترض أن يمنحه مساحة للتعبير، فإن سقطة واحدة، أو رأيًا معلنًا واحدًا، قد ينسف سنوات من العمل والجهد. في بيئة لا تغفر “الانحرافات السياسية” حين تَصدر من فلسطيني، تَبقى حرية الرأي مشروطة ومهددة. للمفارقة، في الأكاديميا الإسرائيلية توجد أيضًا أصوات يهودية، وإن كانت قلّة قليلة، تُعارِض بشكل صريح السرديّة الإسرائيلية، سواء في ما يتعلق بالحرب على غزة أو بالسياسات تجاه الفلسطينيين. مع ذلك، نادرًا ما تُواجَه هذه الأصوات بالعقاب أو التّهديد، بعكس ما قد يواجهه أكاديمي فلسطيني لمجرّد تعبيره عن موقف أقل وضوحًا أو حدّة.

في ظلّ حكومة يمينية متطرّفة، وسياسات تتجه نحو تكميم الأفواه، يتحول الأكاديمي الفلسطيني إلى هَدَف صامت. هو يُنجز، يدرّس، يَكتب، لكنه يعيش في حذر دائم. تغريدة قد تُفسّر كتحريض، ومعارضة الحرب قد تتحوّل إلى مادة تحقيق. يَدفع هذا الضغط النفسي المستمر كثيرين للتفكير في المغادرة. الحُلُم الأكاديمي، بَدَل أن يكون سعيًا نحو المعرفة، يتحوّل إلى محاولة هروب من واقع خانق. جامعات عديدة في بلدان مختلفة تُطرح كبدائل، على أمل وجود مساحة أوسَع للعيش بحرّية وكرامة، بعيدًا عن هذا الشعور الدائم بالتّقييد. لكن، يا حسرة! حتى هذا الخيار لم يَعد مضمونًا. الولايات المتحدة، التي كانت يومًا ملاذًا للأكاديميين المضَّطَهدين، لم تعد بعيدة عن أجواء الرّقابة والتضييق، خاصة لمن ينتمون إلى هويات سياسية “غير مريحة”. فإلى أين نهرب؟

 في هذا المناخ، تُصبح القدرة على التّعبير العلَني عن الهوية والموقف السياسي حالة نادرة. فأن ينجح أكاديمي فلسطيني علميًّا، ويحتفظ في الوقت ذاته بصوته وهويته، دون أن يعتذر أو يبرّر، هو حالة نادرة لا تعكس القاعدة السائدة. بالنسبة لكثيرين، هؤلاء يمثّلون نافذة أمل، أو ربما مرآة مؤلمة تعكس ما لا يستطيعون قوله.

أن تكون فلسطينيًّا في الأكاديميا الإسرائيلية يعني أن تَحمِلَ في حقيبتك ليسَ فقط كتب العلم، بل استراتيجية للبقاء، ومهارات في التخفّي، وفهمًا عميقًا لفنّ الصّمت.

د. فادي شيبان

باحث في مجال المناعة والسرطان، يعمل حاليًا كباحث ما بعد الدكتوراه في سويسرا.

رأيك يهمنا