في تَجيير نتنياهو الحربَ لِمَنع قِيام دَولَة فِلسطينيّة

تشير آخر المستجدات المتعلقة بالحرب الإسرائيلية على غزة، المستمرة منذ يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وبما يمكنأن تؤول إليه في قادم الأيام، إلى ما يلي:

1.    يزداد الاتفاق في أوساط المحلّلين الإسرائيليين على أن سلوك رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ناجم قَبل أيّ شيء عن مَصلحته الشخصية والسياسية من جهة، وعلى أن هذه المصلحةَ مُنفصلة تمامًا عن حاجات إسرائيل في الواقع، من جهة أخرى. وأكثر ما يدفع في اتجاه هذا الاتفاق هو موضوعُ صفقة التبادل التي من شأنها أن تؤدي إلى وَقف الحرب، لكنّها ما زالت متعثّرة وفُرَصها آخذة بالتضاؤل، فقط بسبب الشروط التي يضعها نتنياهو، وكان آخرها ضرورة استمرارِ سيطرة إسرائيل على كلّ مِن معبر رفح ومحور فيلادلفيا في منطقة الحدود بين قطاع غزة ومصر.

2.    تؤكد قراءات إسرائيلية متعددة أن التوصل إلى صفقة تبادُل أسرى الآن هو "أعظم إنجاز يمكن لإسرائيل أن تحقّقه في هذه الحرب"، وسيتمثّل هذا الإنجاز في استعادة جميع المخطوفين. وبرأي أحد القادة العسكريين السابقين، ما مِن أمرٍ "أكثر أخلاقيةً، وأكثر قيمةً، وأكثر وطنيةً، مِن إعادة جميع الذين فشلت إسرائيل وجيشها في حمايتهم، وهم النساء والأطفال والمسنون الذين قُتلوا واختُطفوا من منازلهم، وكان اعتمادهم الكليّ على الحماية التي يوفرها الجيش الإسرائيلي. والآن يعتمد هؤلاء على الدولة، التي يَنبغي أن تعتبر إنقاذ مواطنيها إحدى أَهم قيَمها التاريخية". كما أن التوصل إلى صفقة تبادل أسرى الآن، يمكن أن يشكّل أيضًا فرصةً لوقف إطلاق النار في منطقة الحدود الشمالية مع لبنان، ولتجنّب الانزلاق نحو حرب إقليمية شاملة، ويمكن أن يتيح إعادة سكان البلدات الشمالية إلى منازلهم التي تم إخلاؤهم منها.

3.    عند كتابة هذه السطور، بدأ يتراءى أكثر فأكثر أن نتنياهو غَير معنيّ بإنهاء الحرب لدوافعه الخاصة فقط، وقرّر توسِعَتها إلى المنطقة الشمالية مع لبنان مع احتمال تصعيدها في إثر آخر العمليات ضد حزب الله التي بلغت الذروة في اغتيال الأمين العام للحزب حسن نصر الله، وشعار "الانتصار المطلق" الذي يرفعه ليس سوى خديعةٍ وهو فارغٍ مِن أي مضمون، ويتمثّل هدَفُه في خدمة مصالح هذا الرجل، عبر إطالة أَمد الحرب لضمان بقائه في سدّة الحكم. كما أن إطالة أمد الحرب تَضمن لنتنياهو استمرار دعم كلٍّ من الوزيرين إيتمار بن غفير (رئيس "عوتسما يهوديت") وبتسلئيل سموتريتش (رئيس "الصهيونية الدينيّة")، اللذين يريان في احتلال قطاع غزة تحقيقًا لحلمِهما، ويسعيان لتحويل هذه الحرب التي تهدف إلى تفكيك حركة حماس وتبديل حُكمها واستعادة المخطوفين الإسرائيليين، إلى حربٍ هَدفها احتلال قطاع غزة وضمّه إلى إسرائيل، وإعادة الاستيطان إلى المنطقة. وفي بعض القراءات: هذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها رئيس حكومة خلال الحرب بتغيير أهدافها المُحدّدة مسبقًا من طرف الحكومة.

4.    لدى استعراض القرارات المهمة التي يتعين على الحكومة الإسرائيلية اتّخاذها في الوقت الحالي بمبادرة مباشرة من نتنياهو لكّنه يتهرّب منها، يُشار إلى القرارات التالية على وجه التحديد: أولًا، القرار المطلوب بشأن استعادة المخطوفين والسعي لعقد صفقة، وثانيًا، القرار السياسيّ المتعلّق بـ "اليوم التالي للحرب" والذي يحدّد أهداف إسرائيل بَعد انتهاء الحرب ومصير قطاع غزة، وثالثًا، القرار المتعلّق بقانون التجنيد، إذ يحتاج الجيش الإسرائيلي الآن إلى عشرة آلاف جندي، وبات من الواجب على الشبان اليهود الحريديم (المتشددون دينيًا) أن يتجنّدوا. ويضيف محللون إلى هذا ضرورة اتّخاذ قرارات أخرى تتعلق بآخر الأوضاع في أراضي الضفة الغربية التي تَشهد تصعيدًا، وبتدهور مكانة إسرائيل في العالم، وبالأوضاع الاقتصادية الآخذة بالتفاقم، وبقضية الإسرائيليين الذين تم إخلاؤهم مِن منازلهم في منطقتي الحدود الجنوبية مع قطاع غزة والشمالية مع لبنان. 

5.    يسود اعتقاد بأن نتنياهو سوف يظلّ يماطل ويحاول إفشال التوصل إلى صفقة تبادل إلى حين الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني/نوفمبر المُقبل. وفي هذا الشأن نُصادف مجاهرةً علنيّة بِرِهاننتنياهو على عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وعندها سيعود الاثنان إلى ما يوصف بأنه "العصر الذهبي من علاقاتهما"، الذي ساد خلال ولاية ترامب الرئاسية الأولى. وبموجب ما كَتب أحد المحللين في صحيفة "يسرائيل هيوم"، هناك من بدأ بِفَرك الأيدي فرحًا في إسرائيل، ويتوقعون انتخاب ترامب رئيسًا، وهؤلاء يؤمنون بأنه إذا أصبح رئيسًا للولايات المتحدة، ستختفي كلّ مشاكل شِحنات السلاح و"الضوابط" الإنسانية التي تفرضها إدارة بايدن على إسرائيل. ومِن جهةٍ مُكمّلة من الواضح أن جاريد كوشنير سيكون إلى جانب ترامب في البيت الأبيض، وهو صهره ومستشاره، وصديق إسرائيلَ الكبير، ومهندسُ تطبيع العلاقات مع الإمارات والبحرين، وأكبرُ داعية إلى إظهار القوة الأميركية في منطقة الخليج وفي منطقة الشرق الأوسط.

6.    كُتب الكثير حول الاستراتيجيا التي يتبناها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو حيال القضية الفلسطينية والأراضي المحتلة منذ عام 1967، حتى قبل طوفان الأقصى. ولعلّ أَفضل مَن أَجمَل ذلك الرئيس السابق لجهاز الموساد الإسرائيلي، شبتاي شفيط، الذي توفي في أيلول/ سبتمبر 2023 وكان شَغَل هذا المنصب بين الأعوام 1989-1996، إذ كتب في أواخر أيار/مايو 2023 مقالًا في صحيفة معاريف يُمكن اعتباره منطلقًا لاستحصال هذه الاستراتيجيا، وقد أشار فيه مِن بين أمور أخرى، إلى أن غاية استراتيجيا نتنياهو هي مَنع إقامة دولة فلسطينية، ووسيلته إلى تحقيقها كانت ولا تزال تأبيد الفصل بين قطاع غزة والضفة الغربية والانقسام بين فتح وحماس، من أجل رعاية حكم السلطة الفلسطينية والتعاون الأمني معها، ومعاقبة حماس على مواقفها. والتَفَت شفيط إلى الخطاب الذي ألقاه نتنياهو مع بدء ولايته الثانية في رئاسة الحكومة عام 2009 وأعلن فيه تأييده لـ "حلّ الدولتين"، والمعروف باسم "خطاب بار إيلان 1"، فأشار إلى ما أصبح متداولًا وهو أن هذا الخطاب كان مُجرّد تعبيرٍ عن تساوق مع الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، الذي دخل إلى البيت الأبيض عام 2009، وكان ديمقراطيًا أسود ذا آراء ليبرالية. وفي زيارته الأولى إلى الشرق الأوسط، تجاوز إسرائيل وذهب إلى مصر، حيث ألقى خطابًا في جامعة القاهرة، في 4 حزيران/يونيو 2009، قال فيه إنه يؤيد حل الدولتين للشعبين لإنهاء الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، وشدّد على أن الوضعَ الذي لا يكون فيه للشعب الفلسطيني دولة لا يُطاق، وأن تطلّعات الفلسطينيين إلى الدولة والكرامة شرعيّة. وبرأي شفيط، فَهِم نتنياهو أنه سيحتاج لأن يتعايش مع أوباما ولايةً واحدة على الأقل، ولا يجوز أن يتحدّاه منذ بداية ولايته، وأنه لا بُدّ من أن يجد الوسيلة المثلى لوأد الموضوع، وهو ما حدث فعلًا. تجدر الإشارة كذلك إلى أن نتنياهو نفسه اعترف بما وَرَد في خلاصات قراءة شفيط هذه، في أول خطاب ألقاه كرئيس للمعارضة في الكنيست، لدى تصويت هذا الأخير على منح الثقة إلى الحكومة الإسرائيلية السابقة، يوم 13/6/2021، واعتبر فيه أن ثمة تحديًّا ثانيًا تقف هذه الحكومة أمامه ولَن تُفلح في اجتيازه بحسب زعمه، هو الحؤول دون إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، وذلك بعد التحدّي الأول المتمثل في إيران وملفها النووي. وأكّد أنّ أكثرَ ما ينبغي أن يعني سياسة إسرائيل حيال مسألة فلسطين هو منع قيام دولة فلسطينية تهدّد دولة الاحتلال بأفدح الأخطار. وما ينبغي قوله هو أن نتنياهو بنى سياسته الرامية إلى منع قيام دولة فلسطينية على ركيزتين: عدم الدخول في مفاوضات جوهرية مع الجانب الفلسطيني، وتعزيز السيطرة الإسرائيلية على الأراضي المحتلة منذ 1967 من خلال توسعة الاستيطان.

أنطوان شلحت

كاتب صحافي ومحلل سياسي فلسطيني.

رأيك يهمنا