شَباب غَزّة: نَموذَج مُلْهِم

في مَشهد لا يُشبه إلا الحروب الإباديّة في التاريخ، يعيش قطاع غزة كارثة إنسانية غير مسبوقة، حيث يستخدم الاحتلال الإسرائيلي التّجويع كسلاح ممنهَج ضد أكثر من مليوني مدنيّ، غالبيتهم من الأطفال والنساء، إذ تُمنع المساعدات، ويُحاصر الغذاء والدواء، وتُستهدف الأسواق والمَخابز والمخازن، في جريمة موثَّقة ومعلنة. ورغم بشاعة المشهد، تَلوذ المؤسسات الدولية بالصمت، ويتواطأ العالم بِصَمته، بينما يغيب الصّوت العربي والإسلامي الرسميّ والشعبيّ عن واجب النصرة والمساندة، إنها مَجاعة مَصنوعة، يُراد بها إذلال شعب وتَجريعه الموت البطيء، على مرأى ومسمع من عالم يدّعي الحضارة والإنسانية.
في خضم هذه الوحشية التي تبتلع غزة منذ أكتوبر 2023 مستهدفة وجود الشعب الفلسطيني ذاته، يبرُز الشباب الغزّي كقوة حيوية متجدّدة، تتحدى المنطق الظاهِري للأحداث وتُعيد تعريف معنى الصمود، يقدمون للعالم نموذجًا استثنائيًا في القدرة على التحوّل من ضحايا للظروف إلى فاعِلين ومنخرطين في مواجهة حالة التّجريف التي يمارسها الاحتلال في قطاع غزة في محاولة منه لقتل كلّ فرص الحياة.
إن المَشهد الذي يرسمه الشباب الفلسطيني اليوم في غزة ليس مجرّد قصة صمود عادية، بل هو فعل إنساني يستدعي طرح أسئلة جوهرية حول طبيعة الإرادة الإنسانية وقدرتها على التسامي فوق أَقسى المِحَن.
الوَعي بالمسؤولية الاجتماعية مَخرَجًا!
فعندما تتحوّل الخيام إلى قاعات دراسة، والأنقاض إلى مَنصّات للتعلّم، والمآسي إلى دوافع للعطاء، نكون أمام ظاهرة لا تَستدعي الأَسطرة وتَطويعها لخدمة التّحليل السياسي الذي يخلق انطباعًا لدى العالم أن المواطن الفلسطيني الذي يعيش في غزة مَصنوع من فولاذ، لكن يجب أن توظّف في سياقها الطبيعي بأن هذا الانسان يسعى لحياة كريمة بما يتوفّر لديه من إمكانيات.
لقد تجلّت إرادة الشباب الفلسطيني في قدرته على تحويل المُعاناة الجماعيّة إلى طاقة إيجابية مُستَجيبة لحاجات مجتمعه. فرغم أن الشباب هم الفئة الأكثر تضررًا من الحرب، باعتبارهم يمثّلون المستقبل المستهدَف، فإنهم تصدّروا مشهد العمل التطوعي والإنساني بشكل لافِت، مِن توزيع المساعدات في ظروف قهريّة، إلى تنظيم حملات جماعية وفردية، إلى حشد الدعم والمناصَرة الدولية عبر المنصات الرقميّة، وأعمال أخرى يَعرفها المتابِع للشأن الفلسطيني جيدًا.
لم يأتِ هذا الانخراط الكثيف في الأعمال المدنيّة من فراغ، بل يعكس وعيًا عميقًا بأن المسؤولية الاجتماعية لا تتوقّف عند حدود الظروف، وأن العطاء يصبح أكثر ضرورة وقيمة في أوقات الأزمات، إنهم بذلك يُعيدون تعريف مفهوم المواطَنَة الفاعلة، مؤكدين أن الانتماء الحقيقي للوطن يقاس بما يقدّمه المَرء لمجتمعه في الّلحظات الحرجة، على الرغم من حالة الاستهداف المُباشر لهم من قبل الاحتلال، والخذلان والإحباط من التردّي السياسيّ على المستوى الداخلي، والنكران الذي يشعر به كلّ مواطن فلسطيني يعيش في قطاع غزة.
على الرغم مِن ذلك، تَتَجاوز مشاركة الشباب الفلسطيني الأعمالَ الإغاثيّة لتشمل أوجُه الحياة المجتمعيّة كافة، من التّعليم غير الرسمي للأطفال النازحين، إلى تنظيم الأنشطة الثقافيّة والترفيهية التي تخفّف من وطأة الحرب النفسية، ومِن إدارة الموارد المحدودة في المخيمات إلى تطوير حلول إبداعيّة للتحديات اليومية. تَعكِس هذه المشاركة المتنوّعة فهمًا ناضجًا لطبيعة العمل المجتمعي الشامل الذي لا يَقتصر على جانب واحد، بل يشمل احتياجات المجتمع كافة.
ما يميّز هذه المشاركة أيضًا هو طابعها التلقائيّ والعضوي، فهي لم تأتِ بِناء على توجيهات من أَعلى أو تكليفات رسميّة، بل نَبَعت من إحساس عميق بالمسؤولية وإدراك لضرورة التحرّك الجماعي لمواجهة التحدّيات، يشير هذا الوعي المجتمعي المتقدّم إلى نضج فكري ونفسي استثنائي لدى الشباب الغزيّ، الذي تعلّم كيف يحوّل الأزمة إلى فرصة رغم كلّ التعقيدات.
تَحوّلت الملاجئ لمراكز تعليميّة بفَضل الشباب
إن أكثر ما يُثير الإعجاب في مشهد الشباب الغزيّ هو إصرارهم الاستثنائي على مواصلة التعلّم والتطوير الذاتي حتى تحت وقع نيران الحرب، فقد حوّل العديد منهم الملاجئ إلى مراكز تعليمية مصغَّرة، واستغلوا انقطاع الإنترنت لتنظيم حلقات نقاش جماعيّة، وطوّروا أساليب تعليميّة بديلة تعتمد على الموارد المتاحة والخبرات المشتركة.
يَحمل هذا التمسّك بالتعلّم في أحلك الظروف رسالةً عميقة مفادها أن المعرفة هي السلاح الحقيقي في مواجهة محاولات الطّمس والإلغاء، فالشباب الذي يَحرص على تطوير مهاراته تحت القصف يُرسِل إشارة واضحة للعالم بأن روح الشعب الفلسطيني لا يمكن قَتلُها، وأن الاستثمار في العقول والمواهب سيستمر مهما كانت التحدّيات.
تَأتي تجربة «مدرسة النزاهة» التي نفّذها الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة-أمان بالشراكة مع المنتدى الاجتماعي خلال عامي 2024 و2025 كمثال حيّ على قدرة الشباب الفلسطيني على الإبداع والمبادرة حتى في أَقسى الظروف. تُمثّل هذه المبادَرة الملهِمة التي ركزت على صقل معارف الشباب ومهاراتهم وتعزيز قدرتهم على المساءلة في قضايا الشأن العام، نقلةً نوعية في مفهوم التعلّم بالمشاركة، والانتقال لحيّز الفعل.
لقد نَجَحَت مدرسة النزاهة في الجمع بين التعلّم والتدريب النظري والتّطبيق العملي في بيئة تفاعليّة استثنائية، فرغم الظروف الأمنية والمعيشية القاسية، استطاعت المدرسة أن تخرّج مجموعة من الشباب من كلا الجنسين، مُمَكَّنين بالمعرفة والمهارات اللازمة للمساهمة الفعالة في قضايا الشأن العام، خاصة في زمن الحرب، حيث تزداد الحاجة إلى الشفافية والمساءلة.
إن تركيز مدرسة النّزاهة على تعزيز قُدرات الشباب في مجال المساءلة يأتي من إدراك عميق لأهميّة هذا المفهوم في الظروف الاستثنائية، ففي زمن الإبادة الجماعية، حيث تتعرّض كل جوانب الحياة للاستهداف والتدمير، تصبح المساءَلة أداة حيويّة لضمان العدالة والشفافية في إدارة الموارد المحدودة والأولويّات المتضارِبة.
لقد تعلَّم الشباب المُشاركون في مدرسة النزاهة كيف يطرحون الأسئلة الصعبة ويطالبون بالإجابات الواضحة، وكيف يراقِبون أداء المؤسسات والمسؤولين حتى في ظلّ الظروف الطارئة، وكيف يدافعون عن حقوق المجتمع في الشفافية والعدالة. لا تقتصر أهمية هذه المهارات على زمن الحرب فحسب، بل ستكون أساسيّة في مراحل لاحقة ايضًا.
نظرة نحو المستقبَل رغم الإبادة
لطالما أَثبت الشباب الفلسطيني في غزة قدرته الاستثنائية على المساهَمة والمشارَكة في التّخفيف من معاناة مجتمعه، سواء في أوقات الأزمات أو في الظروف العاديّة، هذه المساهمات المتواصلة والمتنوعة تؤهلهم بشكل طبيعي للانتقال من دور المشارِك إلى دور القائد، ومن موقع المساعِد إلى موقع المسؤول عن اتّخاذ القرارات المصيرية.
إن الخِبرة العمليّة التي اكتسبها هؤلاء الشباب من خلال تعاملهم المباشِر مع أزمات حقيقيّة ومعضلات معقَّدة، تجعلهم أكثر استعدادًا وأهليّة للقيادة من كثيرين ممن يفتقرون لهذه التجربة الميدانية الثريّة، فالشاب الذي تعلّم كيف يدير أزمة إنسانية تحت القصف، ويوزّع الموارد المحدودة بعدالة، وينظم العمل التطوعي في ظروف استثنائية، هو شاب قادر على تقديم نموذج قياديّ وملهِم في محطات أقل قسوة.
وعليه، فإن اعتراف المجتمع بقدرات الشباب وإنجازاتهم يجب أن يترجَم عمليًّا إلى إتاحة الفرصة الحقيقية أمامهم للمشاركة في القيادة واتخاذ القرارات، فالشباب الذي أَثبَتَ جدارَته في الميدان يستحق أن يُمنح الثقة والفرصة للمساهمة في رسم مستقبل مجتمعه على المستويات العليا.
ليست هذه الفرصة مجرّد حقّ يستحقه الشباب بناء على إنجازاتهم، بل هي ضرورة حتميّة للمجتمع نفسه الذي يحتاج إلى الطاقات الشابّة والأفكار الجديدة والحلول الإبداعية لمواجهة تحديات المستقبل، فالشباب الذي تدرب على القيادة في أصعب الظروف سيكون قادرًا على قيادة مرحلة إعادة البناء مرّة أخرى بكفاءة واقتدار.
رغم قتامة المشهد الحالي ووحشيّة الحرب الدائرة، يواصل الشباب الفلسطيني في غزة التطلّع نحو المستقبل بثقة وتفاؤل، فهم يعملون اليوم على إعداد أنفسهم لمرحلة ما بعد الحرب، عندما سيحتاج المجتمع إلى قادة شباب مؤهَّلين وقادرين على تحمّل المسؤولية، هذا الاستعداد المبكر للمستقبل يعكس نضجًا فكريًّا ووعيًا متقدّمًا لدى الجيل الشاب.
إن تجربة الشباب الفلسطيني في قطاع غزة، وتحديدًا مبادراتهم الخلّاقة في وقت شديد التعقيد، تقدم نموذجًا في كيفية تحويل المآسي إلى قوة دافعة. يُثبت هؤلاء الشباب الذين اختاروا المواجهة بالتعلّم والعمل والمبادرة، أن المستقبل الفلسطيني لا يزال يَحمل بعض الأَمل.

وائل إبراهيم بعلوشة
فلسطيني من قطاع غزة، مدير المكتب الإقليمي- الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة- أمان.