سياسات الأَرض والمَسكَن في إسرائيل: إقصاء مَنهَجي "عَميق" للمُواطنين العَرب الفِلسطينيين

مُلخّص
يتناول المَقال السياسات الإسرائيلية التمييزية في قضايا الأرض والمَسكَن التي تواجِه المواطنين العرب الفلسطينيين منذ نكبة عام 1948، مسلطًا الضوء على العَقبات التي تحول دون تلبية احتياجاتهم الأساسية في البناء والتنظيم. يُبرز المَقال غياب التخطيط الحكومي العادل، وتضييق مساحات النفوذ، وفَرض قيود تحت ذرائع بيئية، إضافة إلى المصادرات المباشِرة للملكية، وتجاهل احتياجات السكان في النقب. كما يُشير إلى أن هذه السياسات تدفع المواطنين للبناء غير المرخّص، وتُفاقم معاناتهم عَبر هدم البيوت، في ظل غياب حلول جذرية تَضمن حقّهم في السكن الكريم.
مقدّمة
في قَلب الهمّ المعيشي والوجودي الذي يعيشه المواطن العربي الفلسطيني في الداخل، تتصدّر قضايا الأرض والتنظيم والبناء الأولويات، ليس فقط كحقوق إنسانية أساسية، بل كعوامل وجودية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمفهوم الانتماء والكرامة. فامتلاك قطعة أرض تقع ضمن خارطة هيكلية مُعترف بها، تُتيح له إصدار رخصة بناء قانونية، يُعدّ من أبسط الحقوق التي يَسعى إليها الفَرد العربي منذ نكبة عام 1948، والتي مثّلت نقطة الانفصال بين الماضي الآمن والمستقبل المُعلّق.
يضاف إلى ذلك، الهمّ الاقتصادي الثقيل المُتمثل في تجنيد الأموال والميزانيات المَطلوبة لبناء شقة سكنية تُوفّر المأوى الكريم للعائلة.
أما على المستوى الجَماعي، فإن السلطات المحلية العربية تُعاني مِن صعوبات بالغة في توفير أراضٍ مُخصصة لإقامة مؤسسات تعليمية وصحية، ومرافق عامة، ومناطق صناعية تُعزز التنمية وتُوفر فرص عمل ترفع من دَخلها البلدي، وبالتالي تُسهم في تحسين الخدمات والبنى التحتية.
لكن هذه الأهداف الأساسية، التي تُعتبر بديهية في أي دولة تدّعي المساواة، تُواجه سلسلة طويلة من العوائق البنيويّة والسياسية، التي لا يمكن فَصلها عن السّياق التاريخي لنكبة عام 1948، وما تلاها من سياسات ممنهَجَة تهدف إلى سَلب الأرض، وتقييد قدرة المواطنين العرب على البناء والتطوّر.
العَوائق والمُعيقات
ويُمكن إيجاز هذه المُعيقات والعَقَبات على النّحو التالي:
أولًا: العوائق السياسية والتنظيمية
من أبرز العَقبات التي تَحول دون تحقيق هذه الأهداف هي السياسات الرسمية التي لا تُدرج احتياجات المواطنين العرب في صلب التخطيط الحكومي، ولا تسعى لتطوير مجتمعاتهم وفق المعايير المتّبعة في البلدات اليهودية. فمؤسَّسات مثل "دائرة أراضي إسرائيل" واللجان التنظيمية على المستويات المحلية، واللوائية، والقطرية، تَفتقر في معظم الأحيان إلى التّمثيل العربي العادل، ولا تُعير أهمية كافية لتوسيع الخرائط الهيكليّة للبلدات العربية، أو المصادقة على مخططات تتيح البناء القانوني.
ثانيًا: نَقص الميزانيّات والتمييز في توزيع المَوارد
تُعاني السلطات المحلية العربية من نَقص حادّ في الميزانيات التي تُتيح لها المبادرة بإعداد مخططات هيكلية أو تنفيذ مشاريع إسكانية وتنمويّة. في ظلّ هذه الأزمة، تُترك هذه السلطات رهينة للبيروقراطية المركزية، وتُمنع من تطوير حلول محلية ذات جدوى، مما يُعمّق الفجوة التنموية بينها وبين السلطات المحلية اليهودية.
ثالثًا: السياسات المَنهجية المستمرّة للتمييز
لا تتوقَّف المشكلة عند غياب الدعم فقط، بل تتعداها إلى سياسات منظَّمة تنتهجها الوزارات المختلفة، وتقوم على تهميش المواطن العربي وإقصائه من عملية التخطيط القُطري. لم تُؤسس الدولة حتى اليوم سياسة إسكان شاملة تستجيب للزيادة السكانية الطبيعية في المجتمع العربي، بل تستمر في تطبيق نماذج تنظيميّة لا تُناسب طبيعة البلدات العربية ولا حجمها، مما يؤدي إلى نشوء أزمة إسكان خانقة.
رابعًا: عَدم توسيع مناطق النّفوذ واستغلال الأراضي المُحيطة
يُفاقِم رفض الجهات الرسمية توسيع مناطق نفوذ البلدات العربية الأزمة، ويُضيّق على السّكان في سُبل الحصول على أراضٍ للبناء. بالتّوازي، يتم استغلال الأراضي المحيطة بالبلدات العربية لإقامة مستوطنات يهودية جديدة، أو مشاريع تَهويدية تُساهم في تغيير الطابع الديمغرافي والجغرافي للمنطقة، دون أخذ احتياجات المواطنين الأصليين في الاعتبار.
خامسًا: القُيود تَحت غطاء "المُحافَظَة على الطبيعة"
تُستخدم مسمّيات مثل "المحافظة على الطبيعة والمناظر الطبيعية" كغطاء قانوني لِمَنع توسّع البناء في القرى العربية، وهي في الواقع تُعدّ شكلًا من أشكال المصادرة الجزئية للأرض، حيث يُمنع المواطن من استخدامها أو استغلالها بحجة الحِفاظ على البيئة، بينما يُسمح في المناطق نفسها ببناء مشاريع استيطانية وتهويدية بدون أي تقييدات.
سادسًا: المُصادَرَة المباشِرة للأراضي
تُواصل الدولة سياسات مصادرة الأراضي، خصوصًا في منطقة النقب، حيث تُنكر ملكيّة السكان العرب (البدو) لأراضٍ توارثوها عبر أجيال، وتعمل على تهجيرهم قسريًا. كما تُصادر الأراضي لتنفيذ مشاريع بنى تحتيّة مثل الشوارع، وخطوط الكهرباء، والمعسكرات، والمناطق العسكرية، في تجاهل صارخ لحقوق الملكيّة والتاريخ.
سابعًا: أنظمة البناء المكثفة والنتائج غير المرغوبة
تُفرض أنظمة بناء لا تُراعي الواقع الديمغرافي والاجتماعي للبلدات العربية، ما يؤدي إلى إقصاء المواطنين عن عملية البناء المنظم، ويدفعهم في كثير من الحالات إلى البناء غير المرخص كخيار اضطراري. هذا النوع من البناء، رغم كونه غير مرغوب فيه من قِبل المواطن، يُصبح الوسيلة الوحيدة لتأمين مأوى في ظلّ انسداد الأفق الرسمي.
ثامنًا: سياسة هدم البيوت واستمرار العقاب الجماعي
رغم غياب مخطَّطات حكومية لحلّ الضائقة السكنية، تستمر الدولة في تنفيذ حملات هدم للبيوت العربية غير المرخَّصة، متجاهلة أن هذه البيوت لم تُبنَ إلا نتيجة انسداد قنوات التنظيم القانوني. وتُشكّل هذه السياسة نوعًا من العقاب الجماعي الذي يزرع الخوف وعدم الاستقرار في المجتمع، ويُكرّس الشعور بالتهميش والتمييز.
ختامًا
إن سِياسات الأرض والبِناء والتّنظيم في إسرائيل تجاه المواطنين العرب ليست مجرد سياسات إداريّة، بل هي امتداد مباشر لسياسات الإقصاء والتمييز التي بَدَأت مع النكبة، واستمرت بأشكال متعددة حتى اليوم.إن تَحقيق العدالة الحقيقيّة يتطلّب الاعتراف بحق المواطنين العرب في التخطيط والتطوُّر، وتخصيص الموارد العادلة لهم، وإشراكهم في صناعة السياسات العامة بما يضمن مستقبلهم، ويحفظ كرامتهم، ويُعزز انتماءهم لأرضهم ووطنهم.

د. حنا سويد
رئيس مجلس عيلبون المحلي سابقًا، ونائب سابق في الكنيست عن "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة".