النكبة ... سَرديّة لم تُطوَ بَعد

لم تَعُد النكبة الفلسطينية مجرّد مناسبة تُستذكر في أيار من كلّ عام، بل غَدَت زمنًا مفتوحًا يتجدّد باستمرار، ويُعاد تشكيله بأدوات استعمارية أكثر فتكًا كلّما تَغيّر السياق أو تجدّد الموقف. فليست النكبة لحظة صَدمة آنية، بل هي تجلٍّ لبنية استعمارية استيطانية مستدامة، تقوم على منطق الإلغاء والمحو والإبادة. وإذا كان عام 1948 يؤسّس كنقطة انطلاق لهذه البنية، فإن ما تَلاه من تهجير ممنهج، وحصار مستمر، وتشريعات عنصرية، وخطابات نَفي وإقصاء، لا يعدو كونه حلقات متواصلة مِن نكبة لم تُغلَق بَعد.
لقد كتب المفكّر باتريك وولف، أحد أبرز منظّري دراسات الاستعمار الاستيطاني، بأن هذا النّوع من الاستعمار لا يسعى إلى استغلال السكان الأصليّين، بل إلى إزاحتهم وإبادتهم. من هذا المنظور، فإن النكبة ليست حدثًا طارئًا وانتهى، بل بُنْية متواصلة تنطوي على منظومة سيطرة، ومخطَّط تهجير، وتاريخ ممتد من تَحويل الشعب الأصلانيّ إلى "فائض سكّاني" لا مكان له في الخارطة السياسية أو الجغرافية للمستعمِر، وبالتالي يُنظر إليه باعتباره عبئًا وجوديًا لا بد من التخلّص منه.
غزة.. من الحصار إلى مَشروع الإزالة الوُجودية
هذه الرُقعة الساحلية المحاصَرة منذ ما يزيد عن عَقد ونصف، لم تَكُن يومًا مجرّد منطقة جغرافية تَخضع للحصار إسرائيلي فقط؛ بل شكّلت على الدوام مختبرًا مفتوحًا لتجريب أدوات الضّبط والسيطرة والإخضاع، وأحيانًا القتل البطيء. غير أن ما جرى عقب السابع من أكتوبر 2023 مثّل نقطة تحوّل؛ إذ انتقلت إسرائيل إبعلاقتها مع الفلسطينيين، إلى مرحلة جديدة يمكن تصنيفها في إطار "الإزالة الوجودية الشاملة".
في هذه الحرب، لم تسعَ إسرائيل إلى الردّ فقط على السابع من أكتوبر، بل شَرَعت في تفكيك مقوّمات الحياة ذاتها، بدءًا من تدمير البنى التحتية الحيويّة كشبكات المياه والكهرباء، مرورًا بالمنظومات التعليمية والصحية، وصولًا إلى استهداف الذاكرة الجمعية ذاتها. ما نَشْهَده اليوم في غزة لا يُختزل في كثافة النيران أو عدد الغارات، بل في محاولة ممنهجة لمَحو الحياة باعتبارها كيانًا سياسيًا يحمل إرادة وجود وممانعة.
تكمن خطورة هذا التحوّل في تحلّل الخطاب الإسرائيلي العام من أقنعته السابقة؛ إذ لم تَعد اللغة السياسية تُخفي النوايا تحت ذرائع "استهداف البنى التحتية للفصائل" أو "تحقيق الرّدع"، بل أصبح الحديث يجري صراحة عن "إفراغ القطاع من سكانه"، و"إبادة"، و"إعادة غزة إلى العصور الوسطى". بالتالي، أصبح الخطاب العام، لا الفعل فقط، جزءًا من الجريمة ذاتها؛ حيث تتحوّل اللغة والإعلام إلى أداة تحريض مرحب بها تُهيّئ المجال السياسي–الأخلاقي لشرعنة الإبادة.
الضّفة الغربية.. التَّهجير الناعِم والضمّ الصامت
في الضفة الغربية، تعمل إسرائيل على الجغرافيا أكثر من الإنسان. هنا، لا تأتي النكبة من خلال المَجازر بل من خلال الروتين الاستعماري اليومي: الحواجز، التّصاريح، مصادرة الأراضي، وتوسيع المستوطنات. فالنكبة هنا ليست حدثًا لحظيًّا، بل ممارسة ممتدة تُعيد تشكيل الزمان والمكان الفلسطيني على نحو يجعل الطّرد غير مرئي، لكنّه فعّال ومُمَنهج.
تُشير معطيات هيئة مقاومة الجدار والاستيطان إلى وجود نحو898 حاجزًا وبوابة عسكرية موزعة في أرجاء الضفة الغربية، لا تؤدي فقط إلى عرقلة حرية الحركة والتنقّل، بل تسهم في إعادة هندسة الحيّز الفلسطيني وتحويله إلى جُزُر مقطّعة. لا تعمل هذه البنية الاستيطانية–الأمنية فقط على فَرض السيطرة، بل تُمارس نوعًا من التّفريغ الصّامت، الذي يَدفع الفلسطيني إلى الهجرة الذاتيّة القسرية دون أن تُطلق رصاصة واحدة.
تَسير الخطّة الإسرائيلية على مستويين متوازيين:
أولًا، إحكام السيطرة على الأرض، لا سيما في المناطق المصنفة (ب، ج) وفق اتفاق أوسلو، عبر توسيع المستوطنات، ومصادرة الأراضي، وشقّ طرق التفافية تُقسّم الحيز الفلسطيني وتمنع أي إمكانية للتواصل الجغرافي أو السّيادي.
ثانيًا، تَجفيف الحَياة الفلسطينية من الداخل، من خلال خلق واقع نفسي واجتماعي واقتصادي لا يُطاق، يدفع الأفراد إلى مغادرة الأرض تحت وطأة الإحباط وانسداد الأفق، في ما يمكن وصفه بـ"التّهجير الناعِم".
وتبرز أخطر مظاهر هذه الاستراتيجية في شمال الضفة الغربية، حيث تسعى إسرائيل إلى تفكيك المخيمات الفلسطينية هناك، عبر دمجها قسرًا في المحيط المديني، وإلغاء خصوصيّتها السياسية والاجتماعية، بما يعني فعليًا إلغاء فكرة "المخيم" و"اللاجئ" من المعجم الفلسطيني. هذه العملية ليست مجرد خطوة إدارية، بل تتولد كنكبة جديدة من رَحِم النكبة الأصلية لعام 1948.
النّجاة بِوَصفها شكلًا آخر مِن النكبة
مَن بَقيَ من الفلسطينيين داخل حدود 1948 لم يُمنح "الحقّ في الحياة" بقدر ما فُرضت عليه حياة مَشروطة، في هذا السياق فإن نَجاتهم من التّهجير الجسدي لم تعنِ نجاتهم من النكبة، بل أسَّست لنكبة من نوع خاص، وهي نكبة البقاء ضمن نظام يرفض الاعتراف بوجودهم كأصلانيين.
تهدف السياسات الاستعمارية الرسمية – من الأسرلة، إلى مَحو الرّموز، إلى تقييد التعليم واللغة – إلى إِعادة تشكيل الفلسطيني في الداخل كـ "إنسان مُستَباح"، مسلوب من انتمائه القومي، مطوّق بسرديّة دولة تُقصيه، وتطالبه بولاء مُفرَغ من المعنى. النكبة هنا تُمارس عَبر التعليم، والخرائط، والرموز، والمناهج. ليس القتل هو الأداة بل النّفي الرمزي المتواصل الذي يسعى إلى إقناع الفلسطيني بأنه دَخيل في وطنه، غَريب في لغته، وعابر في تاريخه.
الشّتات.. النّكبة في انقطاع الجَغرافيا واستمرار الذّاكرة
فلسطينيو الشّتات هم الوجه الخفيّ للنفي. ليسوا فقط محرومين من الأرض، بل من حقّ الحُضور، ومن الرواية. النكبة بالنسبة لهم ليست حدثًا تاريخيًا بل شعور مستدام بـ"الفَقد الذي مِن الصّعب تجاوُزه". يصبح البيت هنا لا يُقاس بالمتر المربّع، بل بالصورة، والمفتاح، والأغنية، والذكريات.
من بيروت إلى صيدا، إلى الوحدات واليرموك، يحمل اللاجئ الفلسطيني حلمًا مكثّفًا، يتجاوز منطِق المكان، ليبني وطنه في اللغة، في الأغاني، في الأسماء، في رائحة الخبز، في حجر المنزل الذي لم يره. نكبة الشّتات هي نكبة في البوصلة. حين يصبح الوطن ذكرى متَّهَمَة، والعودة "وهمًا سياسيًّا"، والحنين "تطرفًا"، تصبح الذاكرة نفسها ميدانًا للمقاومة. ولهذا، فإن الفلسطيني في الشتات لا يكتب حكاية اللجوء فقط، بل يكتب حكاية مقاومة اللاجئ لزمن النسيان.
النكبة في تَمثيل الحَدَث
النكبة لا تَكتمل فقط بالقتل أو النفي، بل أيضًا بالصمت المتواطئ، حين يُختزل المشروع الصهيوني بلغة "النزاع"، وتُعرض المجازر كـ"أحداث متبادلة". هنا تُنتج شكلًا آخر من أشكال النكبة، وهي "النكبة السرديّة".
وسائل الإعلام العالمية لا ترى في غزة سوى "كارثة إنسانية"، بينما تتجنّب الحديث عن النيّة الإبادية، أو عن الجذر الاستعماري للصراع. أما منظمات حقوق الإنسان، فتغوص في تحليل نَوع القنابل، وتتجاهل البنية السياسية التي سمحت باستخدامها. هذه نكبة بلا دم، لكنها أكثر فتكًا، إنها نكبة في التّمثيل، في القدرة على فرض السرديّة، على انتزاع التّعاطف، على تحويل الألم إلى حقّ سياسي لا إلى مشهد بكائيّ عابر.
النكبة ... بُنْيَة ومُقاومة
في ضَوء ذلك كلّه، تَكمن الخُطورة الأَعمق في النكبة الفلسطينية في كونها ليست لحظة تاريخية مُغلَقَة، بل بنية استعمارية مستمرة تُعيد إنتاج ذاتها بأشكال متعددة وعبر أدوات متحوّلة تطال الفلسطيني في كلّ مكان وحيّز، داخل الأرض المحتلة وخارجها، في غزة والضفة والقدس، في اللجوء والشتات.
فالنكبة ليست قصفًا فقط، بل خطابًا يُقصي، وخريطة تُمحى، ومنهجًا دراسيًّا يُشوّه، وإعلامًا يُجرّم الفلسطيني. إنها نظام متكامل من الإبادة البطيئة، يتحقق بـ"الإرهاق الوجودي"، حيث يُدفع الفلسطيني إلى حافة الإنهاك الجسدي والرمزي والهوياتي. هنا، تُصبح النكبة - من منطلق الخَشية من تكرارها- دافعًا للمقاومة ورفض الفلسطيني لأن يُعامل كفائِض عن العالم.
الصورة: للمصوّر - الصحفي بلال خالد.

ياسر منّاع
باحث متخصص في الشأن الإسرائيلي، ومرشح لنيل درجة الماجستير في الدراسات الإسرائيلية من جامعة بيرزيت