لا أَعرفُ لماذا لا أزورها كثيرًا…

ربّما لأَنّها تَسكنني أصلاً.

أَعني قريتنا، اللُّجون.

هِي لَيست مجرّد قرية، بل شظيّة مِن ذاكرة جدّتي زهرية، تلك الّتي هُجّرت في صيفٍ بَعيد، ولم تَعُد، لكنّها ظلّت تَحفظها في كلّ جملة، في كلّ قَلَق، في كلّ حركة غير محسوبة.

عندما كنتُ صغيرًا، لم أَكن أَفهم لماذا كانت جدّتي تَرتبك من صوت المروحيّات، أو تسحبُنا مِن أَمام النوافذ إن مرّت سيارة شرطة، أو تُطفئ التلفاز إن شاهدَت مظاهرة.

كُنت أراها قويّة، راسخة، لكنّها كانت تَخاف من "التجمُهر". أيًّا كان شكله.

كانت تقول لنا بصوتٍ خافتٍ كمن يَهمس لنفسه:

"مرّة أخذونا مِن بيتنا ونحن نَطبخ… من قلب نهار صيفيّ، بلا إنذار، بلا حقيبة… بلا وداع".

ما كنتُ أَفهمه آنذاك، صارَ اليوم يفسّر لي نِصف ذاكرتها… ونِصف وجعي.

كبرتُ، وصرتُ أبحثُ عن اللّجون. لا عن أطلالها في الكتب، بل عن نَبضِها في رائحة جدّتي، في تفاصيلها الصغيرة…

كانت تَغضب إن سمّت أمي المكان بـ "اللّجون المهجّرة"، كانت تصرّ:

"ما هجّروها… خبّوها تحت الأرض!".

في أم الفحم، حيث بَنَت لها سقفًا جديدًا، كان الخوف يَلبِس أشكالًا متعدّدة.

كانت تَهرع إلى باب البيت إن سَمِعت صراخًا في الشارع، وتُحذّرنا من "المظاهرات"، حتى إن كانت لأجل الحقّ.

وحين كبرتُ، فَهِمت.

كان ذلك المَشهد – زَحف المستوطنين حتى بوابة أم الفحم تحت حماية الشرطة – يُعيد فتح النُدبة ذاتها.

كانوا يأتون لاستفزازنا، لكنّها كانت تَراهم قادمين مِن اللّجون، لا مِن الطريق.

ومع ذلك، لم تَتَراجع.

كانت تَفتَح الحوش، وتَقول للشباب:

"تخبّوا هون. ارتاحوا. وهاي بصل ضد الغاز".

كانت تقطّعه بسرعة، تلفّه بقماش، وتوزعه عليهم، لا للطهي، بل للصمود.

كان بيتها يتحوّل إلى محطة دعم خلفيّة.

وكانت تردد في كلّ مرّة:

"مش رح يكرروها… مش بوجودي".

جئتُ يومًا إلى اللّجون.

لم أجد لافتة، ولا حجارة تُرشد.

وجدتُ شارعًا سريعًا، وسكّة قطار، وأشجارًا مزروعة عمدًا، كأنهم يريدون طَمس الذاكرة بالخضرة.

رأيتُ شيخًا يجلس على حافة الظلال، عيناه معلّقتان بأفقٍ غامض.

اقتربتُ… قلت له "السلام عليكم"، لم يرد. فقط أشار نحو تلة صغيرة، وقال:

"كان المسجد هناك… وكانت البيوت هناك، وهناك.. في هذا المكان… قالت زهرية لأمها: ‘يما خبيّنا البصلة، واهربي’".

جملة حفرت في التاريخ، ثم طُمرت تحت الشارع.

لم أَستوعِب كيف عَرَف اسم جدّتي. أردت أن أسأله، لكنّه سكت، وسكنت معه الدّنيا.

صرتُ أتردّد على المكان كثيرًا، أعود في كلّ ذكرى نكبة، كأني أُقيم صلاة صامتة على أبواب قريتي الغائبة.

في إحدى المرات، جلستُ في البقعة نفسها، محاطًا بالأشجار المدجّنة، والريح تحاول أن تزيحني كأني غريب…

سمعتُ صوتًا – لا أدري أكان حقيقة أم خيالًا – يقول:

"هُنا رموا الفزّاعة على شَجرة الرمان… هُنا خافت زهرية من اليهود… وهُنا كبرتَ أَنت على خوفها".

فهمتُ حينها لماذا كانت تجهّز البَصَل ضدّ الغاز، وتَفتح باب بيتها لأيّ مُتَظاهر هارب، حتى إن لم تَعرفه.

فهمت لماذا كانت تقول لنا دائمًا:

"مِش رح يكرروا اللي صار… مِش بوجودي".

اليوم، لم يَعُد أحد يذكُر شجرة الرمّان،

ولا البصل الذي قطّعته جدتي لشبيبة الحيّ.

لكنني جئت، وسأعود،

لا لأبحث عن قريةٍ مهدّمة،

بل عن امرأةٍ قالت يومًا: ِمش رح يكرروا اللي صار… مِش بوجودي.


الصورة: لمسجد قرية اللجون المهجرة (قضاء جنين) من ثمانينات القرن الماضي. المسجد ما زال قائما في حدود كيبوتس مجيدو الذي استعمله مرة منجرة ومرة مفقسة للدواجن، من موقع "فلسطين في الذاكرة".

إيهاب جبارين

باحث مختص بالشأن الإسرائيلي

رأيك يهمنا