رحيل بطلة رواية وفارسة ذاكرة

 "بالـ 48 رحنا على الزيتون على خلة القصب، احنا ودار عمي ناصر حنا، وبنات عمي كامل حنا، قعدنا في الأرض أسبوع، كانوا أبوك وعمك إلياس يروحوا يحرسوا بالبلد ويطلوا على البيوت، ويرجعوا عنا يطمنونا، بعدين رجعنا على البيوت.

لما سقطت البلد جمعوا الناس في ساحة جميل نخلة، وطلبوا من الكل يجيبوا كل الأسلحة اللي موجودة عندهم والأواعي العسكرية. سلم سيدك فريد السلاح اللي عنده، يا بيي شو زعل على جفت الصيد! وأبوك طلع على الكرم الفوقاني خبّا الخنجر والكاميرا. ورجعوا تجمعوا بالساحة وطلع القرار بتهجير المسيحية للبنان، سيدك فريد حاول يقنع عمي ناصر يظل وما يطلع، بس عمي ناصر ترك أبوه سيدي راجي بعهدة أبوي وشوية أغراض، وطلع. وأبوك دار على بيوت جيراننا المسيحية حط العلامة اللي طلب اليهود تنحط على بيوت الدروز، حتى يحميهم. وبعد أسبوع طلع قرار انه مسيحية الرامة يرجعوا للرامة".

هكذا كانت عمتي عبلة فريد القاسم حسين (1935-2024) تُلخص لي حكاية النكبة منذ طفولتي أحيانًا تضيف المزيد من المعلومات، حتى آن الأوان قبل سنوات أن أدوّن هذه الذاكرة وأبحث عن مناهل أخرى لها لتصدر مع معلومات أخرى، في "الرامة.. رواية لم ترو بعد" (2020).

إدراك أبعاد الأحداث وربطها وقت التدوين والبحث، يختلف عن سماع القصة المتكررة من الطفولة، إذ تكتشف الكثير من التفاصيل المؤلمة، وأبعادًا زمنية تختلف عن تصورك، حاولتُ كشفه عبر سلسلة من المقابلات مع من عاشوا تفاصيل يوم 31 أكتوبر 1948، باعتماد أولي على ذاكرة عمتي، وتوجهيها لمن يمكن أن يكونوا حافظين للذاكرة ويفيدونني بالمعلومات. هكذا كان لها دورها كجزء من فريق البحث الذي شكلته، ليعينني في إعداد بحثي الموسوعي الكبير والمشترك مع والدي المرحوم د.أديب القاسم حسين (1929-1993)، في محاولة لوضع رواية جمعية للرامة، ولتكون كذلك أحد أبطال الرواية. فهذا المشروع التأريخي الذي شرع به والدي في نهاية سبعينيات القرن المنصرم ورحل دون إتمامه ونشره، شكّل تجربة مختلفة وخاصة في حياتنا الأُسريّة، قبل أن يكون كذلك في تجربتي البحثية والأدبية. وشكّل أملا مرتقبًا لدى عمتي عبلة تنتظر بلهفة أن يُنجز، خاصّة أنّ العمل طال لعدّة سنوات. 

وكم من مرّة أطّلت من على شرفتها لتجدنا أنا وشقيقتي جالستين في مدخل المتحف، نتناقش حول بعض المعلومات، وإلى النقطة التي وصلت إليها شقيقتي في طباعة الأنساب التي أرّخها والدي، فأعدت لنا القهوة ونزلت لتنضم للجلسة والنقاش. المتحف بيتُ أهلها القديم، والذي رددت أنّ بناءه يعود في الحدّ الأدنى لقرون ثلاثة، حاولت مرارًا أن تُصوّر لنا شكل الحياة فيه، بجمالياتها ومشاقها، وفي أبنية الحيّ التي اختلف معظمها، وطابع الحياة في القرية حتى منتصف القرن الماضي. كم مرّت على الصور التي التقطها وجمعها والدي ولوحات أحياء القرية، وحدثتنا عن أصحابها! حتّى عرفنا أصحاب معظم الصور لتشكّل جزءًا من العرض في المتحف التراثي "البيت القديم متحف د. أديب القاسم حسين" الذي افتتحته عام 2006.

تكلّل نجاح المتحف بإنجاز كتاب الرامة، وحين صدر في أيلول 2020، كان الاحتفاء به بمثابة عرس بالنسبة لعمتي، احتفلت به وتابعت أخباره بفرح وفخر شديد، كإنجاز كبير، مطمئنة على ما حملت من الذاكرة.

 الذاكرة سيف ذو حدين، فهي جزء من هويتنا وتُكسبنا معنى للوجود، لكنّها في الوقت عينه تعتصر وتوقد الجراح حين لا نعرف النسيان، وهكذا كان حال عمتي عبلة معها. آخر تبعاتها تجلى بتصرفها مساء 12 أكتوبر المنصرم، إذ بعد دوي صافرات الإنذار في القرية على أثر الحرب الأخيرة، ارتدت عمتي ملابس الخروج ورفضت استبدالها لأنها تتذكر: "في نسوان في الـ48 طلعت بأواعي النوم وقت الاحتلال، ما لحقوا يغيروا أواعيهم ولا يوخذوا ذهبهم، كانت درب الهجرة من هون من الرامة، نشوف الناس طالعة على طريق بيت جن لتكمل على لبنان، وأنا شفتهن".

نامت عمتي و75 عامًا لم تكفِ للنسيان، بل تتوقع حربًا أكبر. جاءت الحرب ولكن هذه المرّة لم تمرّ لترقبها من بعيد، وتستخلص العبر وتلخّص الأحداث كعادتها، وإنّما رحلت هي بعد شهور من صراع مع المرض وتبعات الشيخوخة، لتمضي شاهدة وبطلة ذاكرة، بعد سيرة حياتية صعبة.

كان قدر عائلة والدي أن تتوفى جدتي وهي في ريعان شبابها، ولديها طفلة رضيعة، بعد عام واحد من الاحتلال، فاضطر جدي لإيقاف عمتي عبلة في جيل الرابعة عشرة عن الدراسة، من أجل الاعتناء بإخوتها الصغار وشؤون البيت، لتكون الوحيدة بين بنات العائلة المولودات بعد عام 1925 من لم تستكمل دراستها لتعمل في سلك التدريس مثلهن. لكنّ عمتي لم تستسلم ولم تسمح لهذا أن يعيقها ويمنعها من طلب العلم والمعرفة، فقرأت كلّ ما وقع بين يديها من كُتب، وامتلكت المعرفة بالكثير من المجالات. كم كانت تُحدثني عن ليالٍ قضتها بطولها تقرأ على ضوء القنديل! كي تتمكن من إنجاز قراءة كتاب أحضره أبي وحاجة تسليمه وتمريره إلى قارئ آخر في اليوم التالي، في زمن كانت فيه الكتب عملة نادرة أو سريّة، خلال السنوات الأولى من فترة الحكم العسكري (1949 -1966م).

بقيت عمتي تُثقف نفسها وتقرأ كلّ ما يأتيها من كتب، فعرفت الكثير في التاريخ والدين، ودوّنت كلّ ما أثار اهتمامها من معلومات، وتُحدثني وأولاد عمومتي عن أهمية المعرفة والفرق بين المثقف والمتعلم، وإن حدث وطُرح تشكيك حول عروبة الدروز في حضورها، جاء ردّها قاطعًا: "عرب قُح".

تتوجت عمّتي عبلة كبطلة الذاكرة في عائلتنا، تحفظ أنساب الكثير من عائلات الرامة، وقصصًا من تاريخ العائلة والقرية يصعب على الكثيرين الإلمام بتفاصيلها الدقيقة، وكلّ من خطر له سؤال حول قصة سمعها، كانت مرجعه. كما وارتبطت بحب وثيق للأرض والزيتون، لطالما تغنت بأراضينا، وأكّدت أهمية اعتنائنا بأشجارنا، واستذكرت عيون ماء شحّ ماؤها أو غاب، وكرومًا وحقولا غابت لقلة الاعتناء وتحوّل الحياة الاقتصادي. وأذكر أنّي يوم حصلت على نسخة من كتاب نصوح الطاهر من الأستاذ فياض فياض رئيس مجلس الزيت والزيتون الفلسطيني، وقرأت عليها بعض ما جاء عن زيتون الرامة عام 1947 التي وصفها "ملكة زيتون فلسطين" وقصيدته التي تتغنى بزيتونها، فاغرورقت عيناها بالدمع من كثرة التأثر.

زهدت عمتي في أن أترك أيّ أثر لها بعد شهاداتها لكتاب الرامة، رفضت طلبي وإلحاحي تصويرها، لأجل فيلم قد يكون له أن يرى النور ذات يوم عن الرامة، ولأجل أيّ صورة كنت أحتاج حربا ضروسا، معلنة عدم رغبتها بظهور صورتها أو صوتها إعلاميًا. بقيت على ذات الإصرار حتّى حين حضرت الصحفيّة الراموية المقدسية ريم فيليب قسيس، لإجراء مقابلة معها خلال كتابة مقال عن زيتون الرامة لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، فقدمت المعلومات ورفضت أن تظهر صورتها في الصحيفة.

دخلت عمتي في جولة جادة مع الموت قبل عامين، خرجت منها، وعادت نوعًا ما كما عرفناها، حتى تراجع وضعها الصحي في تشرين الثاني، راحلة فجر 31 اذار 2024، لينعيها وليجتمع شمل جميع أطياف سكان القرية في أيام العزاء. جاء رحيلها مثل حياتها جامعًا، وفيما كان يشرد ذهني وأنا أتأمل اللفيف التعددي من الحاضرات أبتسم وأقول لنفسي لعلّ روحها راضية، فها هي العلاقات لم تتفسخ وما تزال مثلما كانت تتمنى أن تبقى، مثل أيام زمان.  ويلوح الحديث الأخير اذ حاولتُ أن أثير اهتمامها بموضوع ما أشغلها فيه عن انتظار الموت، محدثة إياها عن أرضنا خلة القصب فسألتني: طلعت العين؟

ابتسمت، عادة ما أقدم لها كلّ عام تقريرا عن مستوى تدفق العيون في أراضي القرية الشرقية، والعين التي تقصدها "عين خلة القصب" تقع في أراضي عائلتنا شمال شرق جبل حيدر، وقلة من سكان القرية يعرفونها، وكان أحد الأعمام حاول الحفر قبل عقود حولها ليوسّع مجراها، فغارت. أبلغتها أنّ الماء ظاهر ومستقر عند المنبع، لكن لا يوجد تدفق، مثل غزارة العيون الأخرى.

قالت: يعني في أمل تعود تطلع بيوم من الأيام.

قلت: نعم في أمل...

رحلت ويبقى الأمل، أن يتمكن حُراس الذاكرة من توثيق الرواية الشفوية، ومنح أصحابها ما يستحقون من تقدير، ليكون صوتهم أحد المكونات الرئيسة لروايتنا الجمعية.


الصورة: لعبلة فريد القاسم حسين تتوسط والدها فريد ، وأخيها أديب وأمامه أخيها أمين. حيفا ، 1938م. أرشيف البيت القديم متحف د. أديب القاسم حسين.

نسب أديب حسين

كاتبة وباحثة لديها 8 إصدارات أدبية وبحثية، تختص بهوية القدس الثقافية، والرواية الجمعية، وتدير متحفًا تراثيا

شاركونا رأيكن.م