ويبقى الأطفال الوجه الحقيقي للإنسانية

مشاهد وصور أطفال غزة اللاجئين الذين ينهشهم الجوع والمرض والجراح والفقد هي تكثيف شديد الدلالة لحجم وعمق الألم والمعاناة التي يعيشونها كل يوم ولحظة. إنها مشاهد صادمة تزعزع وجودنا وأعماقنا وتؤكد يوماً بعد يوم، كيف تُذبح الإنسانية في غزة وتُسحق الكرامة والحق بلا رحمة، كما تُستباح العدالة التي فقدت اليقين وأسئلة الأخلاق، التي تتحدى كل المبادئ والقيم الإنسانية دون استثناء.

هنا، علينا أن نلاحظ كيف أن وسائل الإعلام وهي تنشر تلك الصور فإنها غالبا ما تُغفل أو تتغافل عن أية صلة مباشرة لما يجري بثلاث حقائق رئيسية حاسمة:

  • حقيقة الواقع المؤلم والمروِّع على الأرض، والمعاناة القاسية لأولئك اللاجئين: تجريدهم من إنسانيتهم، التطهير العرقي، الإبادة الجماعية والتجويع المنهجي الذي يعيشونه في كل لحظة.

  • فصل المعاناة الراهنة عن جذور الصراع ومسبباته التاريخية والسياسية، وكل ما ترتب على ذلك من ظلم وقع على اللاجئين الفلسطينيين بشكل عام وعلى الغزيين منهم بشكل خاص منذ نكبة عام 1948 حتى اليوم.

  • بالرغم من أن صور الأطفال اللاجئين في غزة تساعد في: إيقاظ الوعي تجاه ما يحدث، وجسر المسافة نسبيا بين غزة والمنظمات المانحة، إلا أن مشاهد الأطفال الجياع تبعث على الأسى وخيبة الأمل العميقة بسبب ما تتركه من تأثير عكسي، خاصة على الطفل الضحية، الأمر الذي يؤدي إلى تهميش وتغييب كل ما هو إنساني: أي السياق، الكرامة، والاستقلال الذاتي. فالطفل اللاجىء الجائع، الذي بالكاد يحصل على بعض حقوقه الإنسانية البسيطة، يتم إختزاله/ وتحويله إلى شخص مكشوف وعاجز تماما، وحياته عارية مجردة من أي أبعاد وأهمية سياسية، وبلا أي تصنيف قانوني حسب تحليل الفيلسوف الايطالي أغامبن.

بناء على ذلك علينا أن نقّر ونعترف أولا وقبل أي شئ آخر بأن أطفال غزة الذين تم اغتيال طفولتهم بأبشع الصور على مدى سنوات وعقود:

  • لم يختاروا أن يُهجروا في نكبة 1948 ليصبحوا لاجئين،

  • لم يختاروا أن يتم تجويعهمّ،

  • لم يختاروا أن يصبحوا ضحايا الاحتلال الإسرائيلي، وسياسات الفصل العنصري والابادة الجماعية!

  • لم يختاروا أن يفقدوا طفولتهم.

جميعنا نواجه ونشاهد الآن هذا الواقع الكارثي الذي يتمثل بسياسة التجويع المفروضة قسراً على أطفال غزة وسكانها عامة، والتي طالت أكثر من 120 ألف أسرة بكل ما ترتب على ذلك من سوء تغذية ووفيات للأطفال بمن فيهم الأطفال الخدج، وإنعدام وصول حتى القليل جداً من الاحتياجات الحياتية اليومية إليهم، مما يضعهم أمام مصير محتوم على مرأى ومسمع المجتمع الدولي الذي لا يفعل شيئا جديا لوقف هذه الكارثة.

في تصريح لمنظمة اليونسيف تقول: "إن غزة أصبحت مقبرة للأطفال!"، وهذا خطير وخطير جداً!! من شأنه أن يؤدي إلى كارثة محققة بحق الأطفال في قطاع غزة، وبالتالي فإنهم بحاجة ملحة، عاجلة وفورية، إلى من ينقذهم من مجازر وسياسات الاحتلال الصهيوني التي تتسع وتزداد توحشا ولا تتوقف!

أكثر من ذلك، إن نتائج حرب التجويع هذه، لا تقف عند حد تعطيل دخول المساعدات الإنسانية والمراوغة والخداع في موضوع فتح المعابر، وحرمان شعب غزة من حقهم في الحياة والآمان، بل تتعداه إلى عملية تسويق مكثف ومفجع لصور ومشاهد الأسر المعوزة/المحتاجة، وخاصة الأطفال الجوعى وهم يحملون "الأواني الفارغة" بحثا عن لقمة خبز أو صحن حساء يفتقر للحد الأدنى من أساسيات العناصر الغذائية الأولية، دون أي اعتبار لكرامتهم وحقوقهم الأساسية المشروعة بتأمين الغذاء والمأوى والرعاية الصحية لهم.

وفقا لرأي هومي بهابها وروبرت يونغ فإن صور الأطفال الجوعى من اللاجئين في غزة ترتكز على الأيدولوجيا، وبالتالي فأن السردية الإنسانية التي تعتمد على مشاهد المعاناة دائما ما تكون متناقضة، كما أنها تعكس دوما رغبة المُسْتَعمِر وأهدافه.

يذكرني هذا بما قالته امرأة من غزة وهي تصرخ في وجه مصور صحفي:

"إحنا مش فرجة للعالم، ما بدناش حد يصورنا، نحنا أشرف شعب بالعالم، الكل مع الصهيوني، بس النصر إلنا، الله معنا، بدناش حد يعطف علينا ".

الذي يستمع لكلمات هذه المرأة الغزية الباسلة، رغم ألمها وشعورها العميق بالخذلان، ربما يقول إنها مجرد لحظة غضب: لكنها في الحقيقة تعبر عن روح ومواقف الكل الغزي الذي أثبت أنه عصي على الانكسار بالرغم من كل ما تعرض له من قتل وتدمير شامل ولا يزال، فثنائية غزة وقدرها الذي يتحرك ما بين الحرب والمقاومة، جعل منها شعبا استثنائيا، ووطنا استثنائيًا، أكثر ثورية وصبرا وعنادا وتحملا، لقد حولت تجربة الرعب والجرأة الغزيين إلى بطل استثنائي، بطل بقدر ما يغيظ عدوهم فإنه في ذات الوقت يبدع نموذجا يثير إعجاب ودهشة معظم شعوب العالم.

المهم أن ندرك أن ثمة طريقة ناجعة وفاعلة في مواجهة سياسة تسويق تلك المشاهد القاسية للضحايا المدنيين في غزة، سواء كانوا شهداء القصف أو شهداء الجوع أو المرض، وذلك عبر تفعيل الاعتبارات والقيم الإنسانية والأخلاقية ونقلها من مستوى النظرية والمناشدة إلى مستوى الفعل والمبادرة، لأن أهل غزة لهم الحق في "مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهية (لكل أسرة)، وخاصة على صعيد المأكل والملبس والمسكن والعناية الطبية.." وذلك بموجب المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

هنا من المهم الإشارة والتنبيه، إلى أن تسييس المساعدات الإنسانية سيقود حتما إلى تعميق الكارثة والمأساة القائمة، وذلك من خلال استخدام تلك المساعدات الإنسانية كورقة توت لتغطية تواطؤ وعجز الدول، وفي ذات الوقت كورقة ضغط لإذلال المحتاجين، وكسياسة عقابية لأغراض وأهداف سياسية من قبل جميع الأطراف. هذا الانحياز اللاأخلاقي يتعارض بالأساس وبصورة مباشرة مع انتداب المنظمات المانحة وضميرها الجمعي وواجبها بضرورة تقديم المساعدة والحماية لضحايا العدوان على قطاع غزة.

في سياق هذا الواقع القاسي تتجلى إزدواجية المعايير من قبل الشرعية الدولية من خلال إغفالها وتجاهلها للأبعاد التاريخية السياسية للقضية الفلسطينية، كقضية شعب وأرض وحقوق سياسية، ويجري التعامل معها كمشكلة إنسانية لمجموعة من اللاجئين كل ما يحتاجونه مجرد مساعدات اقتصادية ومعيشية / إغاثية لا أكثر. إن اختزال القضية الفلسطينية برمتها في هذا الإطار، هو تشويه وطمس وتزييف وتمرير لمقاربة الكيان الصهيوني والدول الغربية المساندة له، هذا من جانب، ومن جانب آخر إن استمرار هذا المنظور يحمل تنكراً صارخاً ومباشراً لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والتحرر من الاحتلال الصهيوني، وممارسة كافة حقوقه المشروعة في دولته المستقلة القادمة لا محالة.

يكفي.. يكفي

 لكل هذا وأكثر، يكفي إمعاناً في الأذى والتجاهل والتشويه، يكفي إمعاناً في إضافة الإهانة إلى الجرح. يكفي استخفافا بحقائق التاريخ، إن مشاهد أهل وأطفال غزة المحرومين من الطعام والحماية ومن كل مقومات الحياة الإنسانية الطبيعية، وكل ما يتعرضون له من قتل وتدمير وحصار يدفع إلى التساؤل عن أخلاقية هذه الممارسات البعيدة تماما عن أي احترام لإنسانية الإنسان في غزة! ان حقائق المعاناة الجماعية التي تحدث الآن تجسد قمة القهر والظلم الذي يطحن الانسان والإنسانية، بما يكشف بقوة التغييب المنظم والمقصود للإرادة السياسة اللازمة لمواجهة هذه المأساة غير المسبوقة.

الأوضاع الراهنة في قطاع غزة تستهدف إعادة إحياء "نظرية الرجل المجنون"، التي تعزى للرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون؛ وهي تنطبق أكثر ما تنطبق على الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل الخارجة عن القانون. إنه زمن إعلان التحدي في وجه الجميع من قبل الكيان الصهيوني حكومة واحتلالا! لقد حذر موشيه شاريت (رئيس وزراء حمائمي سابق لإسرائيل) في مذكراته من "أننا سنجن" إذا اعترضنا. إن هذا السلاح يعتبر سلوكاً اسرائيليا ًموجهاً ضد الجميع، حيث يعاد إنتاج هذا النهج الأيدولوجي بوسائل وأدوات جديدة لا سقف لها، مع تحدٍّ مستمر للقوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة، فهذه الدولة هي في الواقع دولة مارقة بإمتياز!

وسؤالنا هنا: هل تصر إسرائيل، على غطرستها دون الأخذ بعين الإعتبار ما دعته الفيلسوفة اليهودية حنه أرندت بمفعول "الكيد المردود"، الذي من شأنه أن ينتهي بالحاق الضرر بهذا الكيان ذاته؟

إن اقصى ما يطمح اليه كل فلسطيني، أن ينتهي هذا العدوان الوحشي، وأن تتوقف الإبادة الجماعية في قطاع غزة، ومحاسبة الكيان الصهيوني المسؤول عن هذا - "الرعب المرعب" (Horror of Horrors) وفق تعبير المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، وإلزامه بتطبيق القانون والأعراف الإنسانية الدولية في قطاع غزة على وجه الخصوص والمناطق المحتلة بشكل عام. 

ما زال الحاضر والصراع مفتوحاً على احتمالات عديدة. لقد شهدت إلـ 75 سنة الماضية ملاحم فلسطينية شعبية من الصمود والصبر والمقاومة وتهيئة الطاقات لتصفية آثار النكبة. بطولات الشعب الفلسطيني هذه بشكل عام، وبطولة قطاع غزة بشكل خاص، حوّلت اليومي والعادي إلى أسطوري من خلال الصمود الباسل والشجاع في مواجهة سياسات القتل والإرهاب والمحو ومحاولات احتلال الذاكرة، إلى جانب مشاريع التصفية السياسية.  وتوقه إلى حياة لا تعرف ماهيتها إلا بالحرية، دفاعاً عن شرعية وجودنا في الماضي، وحفاظاً على هويتنا الوطنية حتى نكون ما نريد أن نكون، وليس ما يريد غيرنا لنا أن نكون.


الصورة: للمصوّرة الصحفية دعاء الباز.

د. نورما مصرية حزبون

أكاديمية وباحثة فلسطينية، مختصة بالشان السياسي- الاجتماعي الفلسطيني. تحمل درجة الدكتوراه في العلوم السياسية وعلم الاجتماع السياسي من جامعة ليدز في بريطانيا؛ وأستاذة مشاركة في جامعة بيرزيت وجامعة بيت لحم

رأيك يهمنا