دور المرأة ما بعد الصراعات
لقد أصبحت منظومة العدالة الانتقالية عنصرًا حاسمًا في الجهود الرامية لتعزيز سيادة القانون في مرحلة ما بعد الصراعات، فضلاً عن كونها عنصرًا أساسيًا في عملية بناء السلام في البلدان التي تتعافى من صراعات استمرت لسنين طويلة. وتعتبر مشاركة المرأة في منظومة العدالة الانتقالية مطلبًا ملحًا على الساحة الدولية في كل ما يتعلق بتحقيق السلام والأمن منذ أكثر من عشرين عامًا. وينعكس مبدأ المشاركة الهادفة والفعالة للمرأة في جميع جوانب العدالة الانتقالية في قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحددة رقم 1325 حول المرأة والسلام والأمن (2000) الذي يؤكد على مشاركة المرأة في جميع الجهود الرامية إلى صون وتعزيز السلام والأمن، والحاجة إلى زيادة دورها في عمليات صنع القرار. وتؤكد المذكرة الإرشادية التي أعدها الأمين العام بشأن نهج الأمم المتحدة إزاء العدالة الانتقالية (2010) على السعي لضمان حقوق المرأة من خلال عمليات وآليات العدالة الانتقالية، باعتبار المشاركة المتساوية للمرأة حقًا معيارًا أساسيًا. إذ تعتبر مشاركة المرأة في عمليات صنع القرار تحديًا لهياكل السلطة التمييزية.
يجب الإشارة هنا إلى أن التمثيل "الكمي" للنساء في مراحل تحقيق العدالة الانتقالية هو جزء ضروري من المشاركة الفعالة للنساء. وفي حين أن التكافؤ والمساواة بين الجنسين أمر ضروري، فإن نظام "الكوتا" لا يفي بالضرورة بالغرض المطلوب. إذ لا يتعلق الأمر فقط بعدد النساء، بل بنوعية وفعالية دورهن في التأثير على عمليات العدالة الانتقالية ونتائجها. مع الأخذ بعين الاعتبار أن المشاركة في حد ذاتها هي نتيجة مهمة لأنها فعل اعتراف وتمنح معنى اجتماعيًا لقدرة المرأة على الحكم.
في هذا السياق، من الضروري أن تنخرط النساء في العمليات التي تشكل آليات العدالة المستقبلية، بما في ذلك المفاوضات السياسية واتفاقات السلام وإقرار التشريعات القانونية وصياغة الدستور، وجميعها تشكل فرصة "لخلق مستقبل جديد". لا ينبغي أن تكون مشاركة المرأة "إضافة" فقط، بل جزءًا من الحمض النووي وأساس عمليات العدالة الانتقالية. خاصة في ظل غياب واستبعاد النساء عن عمليات صنع القرار السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يهيمن تقليديًا عليها الذكور. وبالتالي، يجب أن تشمل تدابير لمعالجة أوجه عدم المساواة الأساسية وتصحيح العلاقات الاجتماعية وعلاقات القوة غير المتكافئة بين الجنسين في المجتمع.
المناقشات حول التغيير الدستوري تفتح الفرص أمام النساء لتحدي عدم المساواة القائمة بين الجنسين وللتأثير على أي ترتيب دستوري تتم صياغته من جديد. خاصة أنه في كثير من الأحيان، يتم تهميش أصوات النساء وتطلعاتهن وقضايا المساواة بين الجنسين في المناقشات الدستورية. من هنا، فإن إشراك المرأة في التغيير الدستوري هو حق ديمقراطي ويعكس المبدأ الديمقراطي المتمثل في التمثيل السياسي المتساوي والمنصوص عليه في القانون الدولي، والذي يرتبط أيضًا بتحقيق العدل والسلام.
بسبب علاقات القوة السائدة بين الرجل والمرأة، كانت الدساتير على مدار التاريخ إلى حد كبير "من صنع الرجال". المعايير الأساسية حول النوع الاجتماعي والدساتير تفضل الحياة العامة المرتبطة تاريخيًا بالرجال، على الحياة الخاصة المرتبطة تاريخيًا بالمرأة. وبالتالي، فإن تطور الفكر والركائز الدستورية وتحديد المبادئ الأساسية للحكم، له آثار عديدة على عدم المساواة بين الجنسين في المجتمعات المختلفة. ليس هناك شك في أن الدساتير مهمة بالنسبة للنساء لأن بناءَها يمكن أن يسهل أو يعيق التقدم في مجال المساواة بين الجنسين. تاريخيًا، تم استبعاد النساء من عملية وضع الدستور. غياب النساء عنها يظهر ذلك من خلال لغة الدساتير التي تنعكس في استخدام الضمائر الذكورية. في جميع أنحاء العالم، نرى أمثلة على دساتير "من صنع الرجال" أعادت إنتاج عدم المساواة بين الجنسين من خلال غياب الحماية الدستورية. بالمقابل٬ حددت لغة الدساتير وأحكامها، في بعض السياقات، أدوارًا خاصة للنساء داخل الدولة مما أدى إلى توفير حماية محددة للنساء في الدساتير الوطنية. ومع استمرار الأبحاث النسوية في تسليط الضوء على الطبيعة الجندرية للدساتير، أصبح هناك اتجاه أكثر حداثة نحو استخدام لغة محايدة جنسانيًا في الدساتير الجديدة. ومع ذلك، فإن إدراج لغة غير متحيزة جنسيًا لا يعالج بالضرورة أوجه عدم المساواة حول النوع الاجتماعي والتي يمكن للدساتير أن توفر الحماية لها أو على الأقل تضمن بعض القيم التوجيهية.
في السياق العربي، أدت التغييرات السياسية في العقد الأخير إلى خلق فرصة حاسمة، وإن كانت ضيقة، لإصلاح النظام القانوني والدستوري باعتباره الخطوة الأولى نحو الانتقال إلى دول أكثر ديمقراطية. ضمن هذا الخطاب، أصبحت حركات الإصلاح الدستوري منصات لمعالجة عدم المساواة بين الجنسين. وتشكل الحالة التونسية مثالاً على ذلك، إذ اعتبرت النساء في تونس عملية صياغة دستور بلادهن وسيلة لتحقيق المساواة بين الجنسين والتأثير على مفهوم العلاقة بين الدين والدولة، والحق في المشاركة السياسية وغيرها. لقد تأثرت عملية صياغة الدستور في تونس بتاريخ طويل من التجارب الدستورية في بلدان أخرى للتحول من نموذج وضع الدستور من "أعلى إلى أسفل"، إلى نموذج قائم على المشاركة الشعبية. لقد أتاحت العملية الدستورية في تونس المجال أمام اندماج النساء وشكلت مساحة مؤثرة تجمعت من خلالها النساء عبر الانقسامات السياسية لبناء قضية مشتركة. خاصة أن عملية صياغة الدستور أتاحت الفرصة للنساء لنقل قضاياهن من الهامش إلى مركز المناقشات الدستورية. وشكلت مساهماتهن ضمانًا لسماع صوت فئات المجتمع المختلفة وعدم طغيان رواية واحدة على الأخرى بشكل كامل.
تجلت مشاركة المرأة في صياغة الدستور في مشاركة المرأة في الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور. مع ذلك يجب الإشارة إلى أنه، على الرغم من أن مشاركة النساء في الجمعية التأسيسية كانت رمزًا لالتزام الدولة بالمساواة بين الجنسين، إلا أنها لم تكن دائمًا كافية. وثانيًا، تحالف نشط ومنظم للمجموعات النسائية. بالمقابل، فإن الجانب الأكثر حيوية في هذا المشروع هو التحالف الفعال للمجموعات النسائية التي سمحت بالنقاش حول القضايا التي تعتبر خارج المجال العام. وباعتبارها "أمهات" مؤسسات لدستور تاريخي، فقد أدت مشاركة المرأة إلى تنشيط وتمكين المرأة بشكل لم يسبق له مثيل وكان لها تأثير كبير على الجوانب التأسيسية والانتقالية لصياغة الدستور. ما يظهره مشروع صياغة الدستور التونسي هو أن المرأة تعاملت مع المشاركة في صياغة الدستور على أنه أمرٌ بالغ الأهمية لضمان إدراج حقوقها وأولوياتها في العمل الوطني. الدستور الرسمي أرسى الأساس للعمل المستقبلي، ولكن لا يزال هناك الكثير مما يجب القيام به لضمان أن تطبق حقوق المرأة على أرض الواقع وألا تقتصر فقط على الناحية النظرية.
ختامًا، إن شرعية الدستور في حد ذاتها تتوقف على ما إذا كانت المرأة تشارك في صياغة واعتماد وتنفيذ دساتيرها. ويجب على جميع أصحاب القرار الاعتراف بحق المرأة في المشاركة في المناقشات العامة أو السياسات المتعلقة بالتغيير الدستوري. وينبغي الاعتراف بالعوائق الهيكلية والثقافية التي تحول دون مشاركة المرأة في المناقشات الدستورية ومعالجتها. ومع ذلك، إذا أريد للعملية أن تكون انتقالية حقًا، يجب أن تستمر المرأة في المشاركة الفعالة بعد صياغة الدستور في كافة عمليات صنع القرار. يجب ضمان الحضور النسوي في الآليات ومواقع السلطة حتى تتمكن بشكل مباشر من اغتنام الفرص والتأثير واتخاذ القرارات وممارسة التأثير الذي يغيّر نتائج صنع القرار، لتعكس بشكل أفضل مصالح المرأة وقيمها وخبراتها المتنوعة، وبالتالي أيضًا مصالح المجتمع الأوسع.
د. منار محمود
حاصلة على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية ومختصة في النظرية الدستورية والعدالة الانتقالية وسياسات المصالحة وباحثة في مجال العلاقات بين المجموعات في المجتمعات المتنازعة والتحولات في نظم الحكم والعلاقة بين السياسة والقانون