مظاهر الفاشية في سوق العمل الإسرائيلي
منذ اليوم الأول للعدوان على غزة كان واضحًا أن المجتمع الاسرائيلي يتجه نحو الجهر بطبيعته الفاشية التي لطالما حاول إخفائها. ظهر ذلك جليًا من خلال الاصطفاف الجارف للغالبية الساحقة من شرائح هذا المجتمع وأطيافه السياسية، والاجتماعية والأكاديمية والثقافية والإعلامية وراء الموقف الرسمي والشعبي المطالب، سواء قولًا أو فعلًا أو صمتًا، بالانتقام من الشعب الفلسطيني في غزة وبكل أماكن تواجده شرّ انتقام. وفي سبيل تحقيق ذلك تعالت أصوات في المجتمع الإسرائيلي تطالب بعدم الاكتراث لمبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان، وأخرى اجتهدت في تفسير هذه المبادئ على أنها تسمح بذلك.
ويتمثل هذا الموقف في غزة بالخسائر المهولة وغير المسبوقة بأرواح المدنيين من أطفال ونساء وبحجم الدمار الصادم في المباني السكنية والبنية التحتية. وفي الضفة الغربية نرى ذلك في مضاعفة عمليات الاغتيال والاعتقال وإطلاق العنان للمستوطنين لتصعيد جرائمهم.
أما في الداخل الفلسطيني فقد جاء الأمر على صورة حملة ملاحقات ترهيبية طالت نشطاء وأفراد من أوساط سياسية ومجتمعية وفنية وطلابية، أفضت حتى الآن إلى اعتقال المئات بشبهات واهنة، وتقديم لوائح اتهام ضد العشرات بتهم خطيرة وعلى رأسها "دعم الإرهاب". وهذا تزامنا مع مصادرة مطلقة للحق في التظاهر وحرية التعبير، ومنح الشرطة حرية استعمال القوة دون حدود ضدّ من يخرج عن ذلك.
كما وطالت الحملة على نحو واسع أماكن العمل في القطاعين الخاص والعام، وعلى هذا الجانب سوف نسلّط الضوء في هذا المقال. فقد دخل سوق العمل الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر في سباق جنوني وهوس بين المشغلين لرصد "داعمي الإرهاب" من بين عمالهم وعاملاتهم. حيث إن مئات العمال والعاملات العرب تعرضوا في هذه الفترة الى مضايقات وانتهاكات جسيمة، وصلت إلى حد الفصل عن العمل وحرمان من حقوق مالية وعمالية أساسية. ومع الإشارة إلى أن للعاملات كانت الحصة الأكبر من هذه الانتهاكات.
عمليات الرصد تمت من خلال وضع العمال العرب في الكثير من أماكن العمل تحت مراقبة مشددة ليس من قبل مشغليهم فحسب، وإنما أيضا من قبل زملاء العمل، واللذين هم أيضا تنافسوا فيما بينهم للإيقاع بزملائهم العرب. وفي حالات عديدة فإن عمليات الرصد تمت من قبل الزبائن والعملاء، والذين بدورهم قاموا بالشكوى ملوحين بمقاطعة مكان العمل والتشهير به في حال عدم الاستجابة لمطالبهم. وهذا بالإضافة إلى الشكاوى التي تصل من قبل مجموعات عنصرية منظمة والتي منذ بدء الأحداث أخذت تمتهن مهمة اقتفاء أثر "داعمي الإرهاب" العرب و"فضح أمرهم" على الملأ وأمام الشرطة وفي أماكن عملهم ودراستهم.
ويتضح بأن الشكاوى والادعاءات ضد العمال العرب تستند إلى منشورات لهم على مواقع التواصل الاجتماعي أو إلى كتابات ضمن دردشات بين زملاء العمل، سواء أثناء تواجدهم في مكان العمل أو عبر التطبيقات الالكترونية (من واتساب وما شابه). حيث تم "اكتشاف" وتوثيق هذه المنشورات والكتابات من قبل المشغلين أو الجهات المشتكية لتوجيه تهمة دعم الإرهاب للعمال والمطالبة باتخاذ إجراءات بحقهم.
ويتعين أن نذكر هنا أن المشغلين أو الجهات المشتكية أخذوا في بعض الأحيان زمام المبادرة بإجراء عمليات تفتيش دقيقة في حسابات العمال في مواقع التواصل والتطبيقات المختلفة، وصولا إلى بحث في سنوات سابقة، على أمل العثور على منشورات توفر "دليل إدانة" للعمال. وليست بقليلة هي الحالات التي خضع فيها عمال عرب إلى إجراءات فصل بسبب منشورات لا تمت لأحداث السابع من أكتوبر بصلة، بل أنها نشرت قبل ذلك بسنوات وفي سياقات بعيدة كل البعد.
وبعد الفحص والمتابعة الحثيثة يتبين بما لا يقبل الجدل أن السواد الأعظم من المنشورات التي ترتكز عليها إجراءات المساءلة والفصل عن العمل هي في الواقع آراء وكتابات عادية ومشروعة، لا تقترب حتى من أن تكون مشجعة للعنف أو للإرهاب.
من ضمن ما تبين أن الكثير من المنشورات تحتوي على رسائل ومشاعر الحزن جراء قتل الأبرياء، ومنها مشاركات لصور جثث ضحايا القصف أو لمقاطع إخبارية تنقل حقيقة وهول المعاناة الإنسانية في غزة، وبعضها عبارة عن آيات قرآنية وأدعية دينية لحماية الأطفال والنساء أو للترحم على من قضوا شهداء. بالإضافة فان قسم من المنشورات ليس إلا خلفية سوداء تعبيرًا عن الحداد، وبعضها هو بمثابة دعوات لوقف العدوان، وطروحات لبدائل وحلول سياسية. ولإكمال الصورة، نشير إلى أن بعض المنشورات صدرت بالفعل في السابع من أكتوبر، ولكن هذه في غالبيتها نشرت في صبيحة ذاك اليوم وقبل أن تتضح تفاصيله المروعة، وتم محوها مباشرة بعد أن بدأت تتكشف التفاصيل، وبحيث لا يمكن وضعها في خانة دعم الإرهاب.
ونؤكد على أن التعبير عن الألم والمطلب بوقف العدوان، وإن كانا بحكم المفهوم ضمنًا الذي لا يحتاج الى حماية قانونية، يحظيان في جميع الأحوال بالحماية التي يوفرها الحق في حرية الرأي والتعبير.
يستدل من كل هذا أن ملاحقة العمال العرب تهدف في الحقيقة إلى احتكار الألم وقمع أي صوت معارض أو مختلف، وذلك من خلال نشر الخوف وبث الرعب في صفوف العمال. وهذه هي العنصرية والفاشية بعينها، حيث يسمح للعامل اليهودي بالتعبير عن ألمه وبالتماهي مع قومه وشعبه، بينما تمنع العاملة العربية من ذلك، وإن فعلت فهي داعمة للإرهاب.
بقي أن نذكر أن قوانين وأحكام العمل لا تحدد صراحة الأسباب التي يمكن اعتمادها لاتخاذ إجراءات في حق العامل/ة إلا أنها بالتأكيد تمنع العنصرية والفصل على خلفية سياسية أو قومية كما وتمنع الفصل التعسفي. ومن هنا فإن أغلب حالات الفصل على خلفية المنشورات المذكورة قد تكون بحكم الإجراءات التعسفية وغير القانونية، ومن هنا أيضا ضرورة مقاضاة المشغلين، في الحالات المناسبة، ليدفعوا ثمن الفاشية.