"مُنتكبون" من جيش الإنقاذ مرورًا بالقمّة العربيّة!

يوميا أشاهد التلفزيون وأرى بأم عيني العمليات الإجرامية التي يرتكبها حكام إسرائيل ضد شعبنا الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة من قتل وتهجير وإبادة جماعية لهذا الشعب الجبّار، ولكنه مصرّ على حقه في التحرر والاستقلال ودحر الاحتلال.

أعود إلى ذكريات الطفولة عندما كان عمري لا يتجاوز أحد عَشرَ عاما، إلى نكبة شعبنا سنة 1948 وأرى وكأن التاريخ يعيد نفسه ولكن بشكل أبشع من الماضي حيث لم نر تلك المذابح بل سمعنا عنها في دير ياسين والرملة والطنطورة وعيلبون جارتنا وغيرها من المدن والقرى العربية الفلسطينية، وفي ذات الوقت رأيت بأم عيني سمات الحزن والأسى والغضب على وجوه هؤلاء المهجرين الذين مروا على عرابة، من صفورية ولوبية وحطين والسجرة وميعار وشعب وهم راحلون من قراهم حيث خيموا تحت أشجار الزيتون لعدة أيام ومن ثم أكمل أكثرهم المسير الى لبنان وهناك قسم آخر استقر في قريتنا وما زالوا يعيشون فيها وهم ما زالوا ينتظرون حق عودتهم إلى قراهم المهجرة.

في ذلك الوقت قررت جامعة الدول العربية إقامة قوات مشتركة بقيادة الملك عبد الله وكان في ذلك الوقت قائد أركان الجيش الأردني "غلوب باشا" ذو الجنسية البريطانية، ومعروف لشعبنا أن بريطانيا هي التي أعطت تصريح بلفور المشهور والمشؤوم من أجل إقامة الوطن القومي لليهود في فلسطين وكأن هذه الأرض ملك للإنجليز.

لكن فلسطين كانت بالفعل تحت سيطرة الإنجليز المستعمرين والذين عملوا بشكل منظم من أجل تحقيق وعدهم وكان ذلك بالتواطؤ وبدعم من قبل الحكام العرب للمخطط الإجرامي. ومن أجل ذر الرماد في العيون أقاموا ما سمي "بجيش الإنقاذ" وكان قائده فوزي القاوقجي صاحب الجنسية السورية، ورفضت الدول العربية أن يكون قائده القائد الوطني الفلسطيني عبد القادر الحسيني. وكان من مهام هذا الجيش أن يقوم بحماية المدن والقرى الفلسطينية، لكنه لم يفعل شيئا واشتهر بمقولة: "ماكو أوامر" (باللهجة العراقية) حيث كانت أكثرية قادته عراقيين من عراق "نور السعيد" الأجير لبريطانيا.

بل أكثر من ذلك، كان الشباب الفلسطيني عندما يأتيهم خبر هجوم على قرية ما يتجندون للدفاع عنها وكانوا يحررونها أو يصدون الهجوم من القوات الصهيونية ويسلمونها لجيش الإنقاذ، ولكن هذا الجيش كان يسلمها للقوات الإسرائيلية بعد يوم أو يومين، وهذا ما سمعته من أخي سليم وآخرين من الشباب الذين كانوا يشكون من تواطؤ القيادات، حيث شارك أخي سليم ومجموعة من الشباب في تحرير قرية البروة وبعد عودتهم الى قراهم بساعات كان جيش الإنقاذ قد سلمها للقوات الإسرائيلية. ولهذا أطلق الناس والأهالي على هذا الجيش اسم "جيش التسليم" و"جيش الطبيخ". وانا هنا لا أتهم الجيش نفسه وإنما قياداته.

كنت قد قرأت للكاتبة والباحثة المعروفة بيان نويهض الحوت في كتابها: "القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين" عن حادث جرى مع القائد الوطني الشهيد عبد القادر الحسيني عندما توجه الى الشام لطلب السلاح الثقيل مثل المدافع وغيرها لاستخدامها في ساحة المعركة التي كانت تجري في فلسطين، فرفض قادة جيش الإنقاذ وأغلبهم من العراقيين طلب الحسيني وقال له أحدهم: "ماكو مدافع يا عبد القادر" فأجابهم بغضب: أنتم خائفون ومجرمون وسيسجل التاريخ أنكم أضعتم فلسطين".

وكان قادة جيش الإنقاذ يريدون إعطاءه بنادق إيطالية غير صالحة للاستخدام. وهذا ما رأيته بعيني حيث ذهب والدي الى الشام واشترى بندقية إيطالية وأخذها أخي سليم ليجربها حيث كان متدربا على السلاح وكنت معه وإذا بها من أول "طلق" تنقسم الى قسمين وجرح أخي وابن عمي الذي كان بجانبه وقالوا إنها مغشوشة حيث احتوى "الفشك" على بوتاس بدل البارود. ومثل هذه البنادق كانت تباع لأهالي فلسطين.

هذا الواقع الذي عاشه شعبنا في تلك المرحلة لا سلاح ولا مساعدة من "الأخوة" ومقابل ذلك كانت القوات الإسرائيلية تمتلك جميع أنواع الأسلحة من البنادق والمدافع الى الدبابات والطائرات.

وما أشبه اليوم بالأمس بالنسبة للحكام العرب حيث لم تهتز، حتى الآن، مشاعرهم من رؤية قتل الأطفال والنساء والشيوخ ومن رؤية واكتشاف المقابر الجماعية بجانب المستشفيات والإبادة والتهجير والقتل المتواصل للمدنيين، ولكن تأملنا خيرا عندما دعي لاجتماع قمة عربي إسلامي شاركت فيه 57 دولة ولكن النتيجة كانت "طقع حكي" وهم يعرفون جيدا الوضع المأساوي في قطاع غزة والنقص المخيف في الغذاء والماء والدواء ولم تهتز مشاعرهم وضمائرهم لأنها غير موجودة لديهم وفاقد الشيء لا يعطيه.

في المقابل هناك دول لديها الكرامة والحس الإنساني الصادق وقفت وما زالت تقف الى جانب الحق الفلسطيني العادل، في أفريقيا وأمريكا اللاتينية مثل فنزويلا والبرازيل وكولومبيا فضلًا عن جنوب أفريقيا التي تلقي بكل ثقلها الإنساني والتاريخي كإحدى الدول التي قاست من نظام التمييز العنصري، والتي توجهت الى محكمة الجنايات الدولية لتجريم حكام إسرائيل. كذلك نرى الشعوب والجماهير في مختلف دول العالم تخرج إلى الشوارع حتى في عقر دار الدول الاستعمارية مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها من الدول دعما لحقوق الشعب الفلسطيني.

إن ما يجري اليوم ضد شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية هو في الواقع أكبر وأبشع نكبة وأكبر عملية تهجير وإبادة جماعية تُرتكب بحق الشعب الفلسطيني أمام العالم كله وأمام الذين يسمون أنفسهم أشقاء. وبالرغم من المواقف العدائية المستمرة التي تنتهجها الولايات المتحدة الأمريكية، ضد الشعب الفلسطيني وشعوبنا العربية، إلا أن الحكام العرب ومن ضمنهم السلطة الفلسطينية ما زالوا يعوّلون على أمريكا "ومترتحين" بأمريكا.. و"مترتحين" هي كلمة في اللهجة الفلسطينية تعني "متشبثين" (بتصرّف: المحرر) 

يقول المثل العربي الأصيل "ما حك جلدك غير ظفرك" وأنا على قناعة في مثل الظروف الصعبة التي نعيشها أن شعبنا وقياداته سيجدون الطريق      للوحدة حيث أن التاريخ علّمنا أن قوة أي شعب تكمن في وحدته وأن الشعب الفلسطيني الجبار لن يهدأ ويستكين الا بمقاومة الاحتلال وإقامة دولته المستقلة على حدود 67 وعاصمتها القدس العربية على الرغم من مواقف حكام إسرائيل وداعميها. وهذا سيجري باعتماده على نفسه أولا وبدعم من الجماهير الواسعة في العالم التي تدعم قضية هذا الشعب والتي هي الأكثر عدالة والتي حتما ستنتصر ثانيًا، فهذه هي حتمية التاريخ أن كل احتلال الى زوال.

وعندها سنبقى نحيي ذكرى نكبتنا حتى لا ننسى نحن والأجيال القادمة التاريخ. وفي ذات الوقت سنحيي ذكرى استقلال الدولة الفلسطينية التي ستستقل عاجلا أم آجلا، ومن الأفضل عاجلا حقناً لشلال الدم الذي ينزف من كلا الشعبين في هذه البلاد وحتى تعيش هذه الأجيال والأجيال القادمة بأمن وسلام دائم.


الصورة: لتنظيم جيش الانقاذ (1 كانون الثاني 1948 - 10 كانون الثاني 1948)، الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية.

توفيق كناعنة

نائب رئيس بلدية عرابة البطوف سابقا وعضو في الحزب الشيوعي

رأيك يهمنا