ما بعد تشرين: عن الكتابة في زمنٍ أسيرٍ

بعد أن توجهت لي محررة "فارءه معاي" الإعلامية سناء حمود، فكرت فيما أكتب وعلام ولماذا، وتراوحت مشاعري بين هل أكتب أم لا أكتب، فالأفكار كثيرة لكنها لا تناسب كتابةً، ربما لأن قضية الأسرى هي بالنسبة لي خارج الكتابة التحليلية أو البحثية. وهذه ليست المرة الأولى منذ السابع من تشرين التي يُطلب مني الكتابة عن الأسرى والتبادل والصفقات لكنني وجدت صعوبة مع أني أكتب يوميا وأحيانا على مدار الساعة تحليلات وتقدير موقف ونصوصًا سياسية وحتى أدبية. 

ربما يكون وراء هذا التخبط والتلاطم بين الفكرة والشعور، هو السابع من تشرين أو بالأحرى لحظات فصلت ما بين السادسة والنصف والسابعة صباحا، والتي كانت أقرب إلى مدى زمني لا نهائي، وحين انقلبت العوالم في وجوه الأسرى وحصريا المحكومين بالمؤبدات حين حضرت وجوههم جميعا الى واجهة ذاكرتي الحية يتسابقون نحو حريتهم، وحين شاهدت مسنات وأطفالًا يُقتادون إلى غزة، عبست وجوه الأسرى في مخيلتي واستحالت الأحلام كوابيس، فقد توقعت الثمن فلسطينيًا، ووفقا له تعابير الأسرى الأصدقاء الكثر الذين حمّلوني في أيار 2019 أحلامهم وأنا أخرج من السجن، والذين تابعوا التواصل ليحرروا نصوصهم وكلماتهم وأمنياتهم وشكاواهم من خلال استراق لحظة اتصال لم ينجح السجان بعزلها في زنازين الأحلام وأقبية الرقابة. 

منذ السابع من تشرين انقطع الخط كما تحكي فيروز في أغنيتها "ستي يا ستي" وهي تطلب منها "عَلّي صوتك الجاي من بعيد... صوتك حامل شمس"، لم يتصلوا، لم تصل الشمس من الأقسام التي تحولت الى أقبية، العائلات في قلق، الأم والزوجة والخطيبة من بعيد والأخت والأخ والابنة والابن كلهم على قلق. تغيرت الكلمات وصوت اللهجات المتلهفة لحديث أو لخبر سار. اختلف نوع القلق عما كنت أدركه وأنا في السجن وبعد انتهاء محكوميتي، ارتفع منسوبه وأصبح خانقا، الخوف ليس من القمع بل أصبح على حياة الأسير الحبيب الابن الأخ الأب، والقلق من قلة الحيلة فلا زيارة قريبة ولا بعيدة تنشر قبلها العائلات على منصات التواصل خرائط وجهتها وعودتها وخرائط الشوق والمشاعر، وفي الأساس مسارات الأمل الفردية المجتمعة في خريطة واحدة جماعية. امّحت خرائط الشوق التي تبدأ قبل الفجر وتتواصل حتى المساء والعودة إلى البيت مشحونين بالأمل بقرب عودة أحبائهم الى البيت حتى ولو كانوا محكومين مدى الحياة لكن الأمل تشحنه قوة الحياة وزيارة العائلة للأسير أو الأسيرة.

تذكرت الأسرى الاثنين وخمسين الذين احتفينا بهم يخرجون من السجن محررين في صفقة "وفاء الأحرار"/ "شاليط" 2012، واستقبلناهم بحزن وقهر متبادل وصدمة غير مستوعبة في العام 2014 وقد أعيد اعتقالهم وأعيدت لهم أحكامهم بعشرات السنين، إن لم يكن مدى الحياة، وتيقنّا مرة أخرى بأن الفرج لا يعني الفرج ما دام الاحتلال يعني احتلالا، فالملفات في بلادنا لا تغلق ولا تشطب، فلا تقادم ولا رحمة، والقهر لا يكتفي إلا بالمزيد من القهر والتلذذ بما وراء القهر في حال نجحوا في سحق إنسانية الأسير، كما أن روح الانتقام هي أبعد من قرار سجن أو سجانه بل هي من روح المنظومة، ولا تنتظر سببًا أو حجة كي تخرج إلى جسد الأسير وروحه. وتذكرت أيضا أن صفقات التبادل ليست نهاية مطاف، بل فيها أيضا سعي دائم لمواصلة القهر بأدوات اخرى، ومنها الطرد من الوطن ومنها الاغتيال ومنها إبعاد عن القدس لسكانها من الأسرى، ومنها مصادرة الممتلكات والحسابات، ومنها إعادة الاعتقال ومواصلة الحكم، ومنها الخروج من سجن  الى سجن أوسع على مقاس وطن. فالصفقة لا تعني إغلاق الملف بل إطلاق سراح مشروطًا يوقعه كل أسير اضطرارًا قبل تحرره وعلى نحو فردي. وهو نمط تعامل سائد وبموجبه يكون الحق فرديًا ومشروطًا بينما العقاب الجماعي هو سيد الموقف في كل موقف.

في حرب حكومة الانتقام والسادية التي يسعى وزيرها المسؤول عن السجون بن غفير لاستخدام قهر الأسرى مطية سياسية له كي يصل الى رئاسة الحكومة، وهل غيره مناسب أكثر منه؟ فهو يتهم كل البدائل بأنهم "أسرى النمط الذهني القديم"، والقديم تعني ما قبل السابع من تشرين، وهو التاريخ الفاصل بين ما قبل "حرب الاستقلال الثانية" وما بعدها، وبين "حرب الانبعاث" وما بعدها. فالأسرى في نظره يسهل قهرهم بوسائل ما بعد تشرين، فهم مقيّدون وهناك ما يكفي من صناعات السلاسل الحديدية والقيود للأيدي والأرجل وحتى للربط بين الأطراف جميعًا بشكل يجعل جسد الأسير ينحني ولا يستطيع رفع رأسه، والمقصود هو انحناء الروح وخفض الرأس بكل المعاني. تم تطويع الأنظمة والقوانين كي تلائم روح الوزير وروح الحكومة. لكنها، وكي لا نظلم هذا الوزير، روح المنظومة بكل تشعباتها، ففي منظومة تسيّر ميليشيات منظمة "إم ترتسو" رؤساء الجامعات في طرد العرب طلابًا وطالبات ومحاضرات ومحاضرين، ويفرض صيادو العرب في مساحات التواصل الاجتماعي سطوتهم على المستشفيات وصناديق المرضى وعلى النقابات والمؤسسات التعليمية والمصارف وعلى أماكن العمل وعلى النيابة العامة والمحاكم، وفعليا على كل ما يطلقون عليه "معاقل الليبرالية" ليصبح سلوكها بروح المليشيات العنصرية والمحاكم الميدانية وتصفية أحلام الناس وكتم صوتها وحتى إسكات نواياها التي تفسرها هذه الميليشيات الذهنية وفقا لنواياها هي.

لقد أصبح حلم عائلة الأسير، إن كانت محظوظة، هو مجرد أن تعرف أين هو وفي أي سجن وأي قسم وفي أيّ ظروف. والقلق يولّد المزيد من القلق، وهل حقا فقد كما يرشح من أخبار ما بين 10 و20 كيلوغراما من وزنه، وكيف هي معنوياته وقد كان يعتد بكونه يخلق المعنى ويمارس الرياضة واللياقة البدنية يوميا، ويرتدي ملابس جديدة على ذوقه تحضرها العائلات مرتين في العام، ويواصل دراسته الجامعية باعتزاز في مساق أكاديمي فلسطيني خاص بالأسرى، بعدما حرمتهم حكومات إسرائيل في العام 2010 من الحق بالالتحاق بالجامعة المفتوحة الإسرائيلية، وذلك في إطار سياسة الانتقام ومصادرة الحقوق بعد اختطاف الجندي غلعاد شاليط في غزة، ورغم صفقة التبادل في العام 2012 إلا أن العقاب لا يزال ساريا لغاية اليوم، فلنتصور أي عقاب سيكون بعد تشرين!

الأخبار التي ترشح عن الأسرى خطيرة كما لم تكن يوما، وأكثر من يلمّ بها هم المحامون والمحاميات الذين نجحوا بزيارة أحد السجون، وهم مصدر المعلومات حتى لعائلات الأسرى. التجويع سياسة، والتعذيب والقمع حتى الموت والإذلال سعيًا لقتل الروح كلها سياسة، فلا روادع ولا أنظمة تسري باستثناء أنظمة الانتقام والقهر، كما أن منع زيارة مندوبي الصليب الأحمر الدولي والتضييق الخانق على زيارات المحامين كلّها من أجل توفير الظروف لتصعيد هذه السياسة.

تبقى صفة تتميز بها الحركة الأسيرة، وهي قدرتها على الصبر وملاءمة سلوكها لكل ظرف وتقاسم الهم والتكافل، وهي النفس الطويل الذي تسعى حكومة نتنياهو ومصلحة السجون إلى تقصيره وتشتيت الثقافة الاعتقالية من خلال تشتيت الحركة الأسيرة وكي يتبعه سعي لكسر روحها، ومن معايشتي للحركة الأسيرة ومعرفتي بها لا بد أن تكون قادرة على تجاوز مساعي قهرها وأن توفر شواحن الأمل.

أمير مخول

كاتب وسياسي فلسطيني من حيفا

شاركونا رأيكن.م