لا زنزانة تتسع للشمس
لم يكن من السهل يوماً أن تكون فلسطينياً أو من أصولٍ فلسطينية أو حتى مولوداً لأمٍ فلسطينية، حيث يبدو ذلك بالنسبة للكثيرين بمثابة المشي في حقلٍ من الألغام وهو ما يترتب عليه الاستعداد للتعامل مع طيفٍ من الأفكار والآراء والسلوكيات والأحكام المسبقة بحذرِ ووعي شديدين، فالفلسطينيون على اختلاف أماكن وجودهم في الشتات يحملون في مخيّلة (الآخرين) صورةً نمطية تجنح في كثير من الأحيان إلى التطرف سواءً كان ذلك بالسلب أو حتى بالإيجاب، ونادراً ما تخضع هذه الصورة للنظرة المتوازنة بعيداً عن التجني أو التعاطف المبالغ فيه بغض النظر عن الأسباب التي تحكم كلا النظرتين، والتي تختلف من مجتمعٍ لآخر وتتأثر بعدة عوامل منها موقع البلد وثقافته وتاريخه وظروفه المعيشية وملامسة وضعه الداخلي لبعد أو أكثر من الأبعاد التي تشكلها فلسطين وقضيتها في الأذهان بحيث يراها كل مجتمع من زاوية معينة إلى جانب كونها قضية إنسانية في المقام الأول..
كما أن الظروف التي خلقها لجوء وتشتت الشعب الفلسطيني حول العالم جعلته يعيش واقعاً يحمل العديد من الأوجه المتناقضة والمشاعر المتضاربة حول انتمائه الذي زرع فيه وتوارثه عن عائلته جيلاً بعد جيل إلى جانب حياته التي عاشها في الإغتراب ولا يعرف سواها، والتي أثرت على تكوينه ومعتقداته وساهمت في تشكيل نظرته إلى ذاته وإلى جذوره بشكلٍ أو بآخر مما زاد (وعيه) بخصوصية وضعه وحالته بين بقية الشعوب، فدفعت البعض إلى الانعزال بشكل جزئي أو كلي، كما دفعت البعض إلى الاختلاط المحدود داخل بعض التجمعات فقط مع أبناء وطنه، ودفعت البعض الآخر إلى الانخراط بحذر في المجتمع الذي يقيمون فيه، وهناك أيضًا من انخرط بشكلٍ كامل لكنه حافظ على هويته الأم وتمسك بها كما أن هناك من خسرها كلياً حيث فضل التماهي مع البيئة التي وجد نفسه فيها سواءً كان ذلك بوعيٍ منه أو مدفوعاً بالظروف المحيطة به، وتجدر الإشارة إلى أن لكلٍ من هذه الفئات مخاوفها ومبرراتها وتركيبتها النفسية (سواءً اتفقنا معها أم اختلفنا)، والتي يحكمها جميعاً مقدار الشعور بالترحاب والاحتواء والأمان وهو ما ينعكس على اتجاهاتها وخياراتها في الحياة..
وكما نعرف جميعاً فإن القضية الفلسطينية مرت بمراحل مختلفة على مدار عقود تأرجحت فيها مكانتها بين تراجع وتصدر للمشهد تبعاً للمتغيرات الإقليمية والدولية على أكثر من صعيد، وهو ما جعل الكثيرين في بعض الفترات يشعرون بمقدار من الإحباط وخيبة الأمل معتقدين أنها دخلت في مرحلة من السبات الذي قد تنتهي معه بشكلٍ تدريجي خاصةً وأن الكيان الصهيوني يستفيد من الأحداث العامة على الدوام لتمرير مشاريعه ومخططاته، والتي شملت عدداً من الحروب على غزة وتكثيفاً سريعاً لوتيرة الاستيطان والاعتداءات في الضفة الغربية والقدس المحتلة عدا عن تغيير مستمر في معالم وهوية وثقافة مدن الداخل.
ومع اندلاع الحرب الجارية على قطاع غزة المنكوب شعر الفلسطينيون بالألم كالعادة لما يحدث هناك، لكن ردة الفعل والإهتمام في العالم العربي وخاصةً من جيل الشباب والمراهقين وحتى الأطفال جاءت ملفتة ومغايرة، بل ومبهرة في العديد من المواقف حيث حظيت ولا زالت تحظى باهتمام وتعاطف ودعم الكثيرين دون أي مبالغة، وهو ما امتد ليشمل بقية دول العالم..
فبرغم التباين في ردود الفعل خاصةً في الغرب مع بداية الحرب الجارية على قطاع غزة المنكوب إلا أنها (أي الحرب) أفسحت المجال أمام السردية الفلسطينية بشكلٍ غير مسبوق في تاريخ القضية لإيصال صوتها (عبر مواقع التواصل الإجتماعي) بالتوازي مع الصور والتقارير والفيديوهات التي تنقل مباشرةً من هناك، والتي لطالما واجهت الحجب والتعتيم والتضييق في الغرب لصالح ماكينة دعائية ضخمة تتمدد بشكل أخطبوطي، حيث لم تترك مجالاً إلا وأقحمت فيه وجوهاً من الكيان الصهيوني بغرض خلق حالة من الأنسنة له لا سيما عبر وسائل الإعلام الكبرى التي حاولت توظيف الثقافة والفنون والرياضة لصالحه ولكن محاولاتها باءت جميعاً بالفشل..
ولعل المكسب الأكبر من هذه الأحداث الدامية والمؤلمة هو عودة اسم فلسطين إلى الصدارة ليس فقط بين الأجيال الصاعدة عربياً، بل ووصولها في أغلب بلدان العالم إلى الكثيرين ممن كانوا لا يعرفون عنها شيئاً أو كانت لديهم معرفة سطحية بها أو قاصرة على معلوماتٍ مضللة تتبنى الرواية الصهيونية، مما خلق تحولاً جذرياً في موقفهم وجعلهم اليوم يقفون إلى جانب فلسطين رغم كل القيود والمحاذير المفروضة عليها إيماناً منهم بعدالة قضيتها، خاصةً بعد اكتشاف الكثيرين لمدى الانحياز وحالة التضليل الإعلامي التي تعرضوا لها لعقود تحت مسميات متعددة، وهو ما امتد ليشمل أجيالًا مختلفة من اليهود خاصةً الشباب في أمريكا وأوروبا ممن انضموا إلى صفوف المدافعين عن الحقوق الفلسطينية، مما أضفى مزيداً من المصداقية عليها وتسبب في إحراج الكيان الصهيوني والمؤيدين له وزاد من عزلته الدولية والإنسانية، وبدأ يعرض القضية كما هي عن قصة استعمار وسرقة للأرض يتم إقحام الدين فيها..
فقد باتت فلسطين بين أهم العناوين إن لم نقل إنها العنوان الأول في مختلف المؤتمرات والتجمعات والتظاهرات الفنية والثقافية والرياضية والإعلامية وحتى العلمية، وتزايد عدد داعميها في الغرب بشكل ملحوظ حتى بين المشاهير رغم محاولات إسكات الأصوات المؤيدة لها والتي أتت برد فعل عكسيّ كما حدث في حفل توزيع جوائز (الأوسكار) وحفل توزيع جوائز (سيزار) ومهرجان (كان) السينمائي وحفل (يورو فيجن) الموسيقي، عدا عن مقاطعة الكثير من الكتاب والأدباء حول العالم للأنشطة الثقافية الألمانية لدور ألمانيا في دعم الحرب على غزة.. وهو ما قد ينعكس بالقلق على فلسطينيي الشتات خلال المرحلة الحالية خاصةً في الغرب، لكنه بلا أدنى شك يشير إلى تحول تاريخي قادم ولحظة استنارة إنسانية ستعيد الحق إلى أصحابه بعد عقود من محاولات اعتقاله رغم وضوحه كالشمس.. لكنّ المستعمر لا يفهم أن ما من زنزانة تتسع للشمس..