كيف نَفْهَم سِياسات انتِزاع الطُفولة مِن الأطفال الفِلسطينيين؟

وَقْفَة مُطَوَّلة مع نِتاج الباحِثَة في عِلم الإِجرام نادِرَة شَلهوب كيفوركيان

كَرَّتْ الأيام كَعادتها، وعاد الرابع من نيسان يهاتِفُنا ويسأَل عن حال الأطفال الفلسطينيين بالرغم مِن علمه اليقين بأن الأوضاع لا تبشِّر بخير، وأن الحرب التي طالت 15 شهرًا ستَهبط بتداعياتها ثقيلةً على الشريحة العُمرية الأكثر ضعفًا وهشاشة، الواقعة في مِرصاد المنظومة الصهيونية الاستعمارية التي تُمارِس عليها "سياسات نَزع الطفولة، لتُخرِج الأطفال الفلسطينيين كإرهابيين نافيةً عنهم ميزة الطفولة وفق منطق الإبادة والإلغاء"، على ما تؤكد البروفسورة والباحثة والمحاضِرة الدولية نادرة شلهوب كيفوركيان المتخصصة في مجال علم الإجرام والعمل الاجتماعي. أُخصّص هذه المقالة لعرض أفكارها ونتائج أبحاثها التي خصّصتها لأطفال القدس خاصة، والأطفال في الضفة الغربية وصولًا إلى غزة والنقب واللد أيضًا، وهو ما طرحته بإسهاب في كتابها "الطُفولة المحتَجَزَة وسياسات نَزْع الطفولة". تَجدُر الإشارة إلى أَنني اعتمدتُ لغرض إعداد هذه الورقة على حوار مع الباحثة بمناسبة إطلاق كتابها، تمّ برعاية مؤسسة عبد المحسن القطان في رام الله.

يُسلّط كتاب "الطفولة المُحتَجَزَة وسياسات نَزْع الطفولة" الضوء على واقع الطفل الفلسطيني ويعرّي منظومة "نَزع الطفولة" و"الاستقصاد الطفولي" التي تَعمل بشكل ممنهَج ومتعدّد الطبقات للدفع بالأصلاني خارج الحيّز الفلسطيني وخلق أَصلاني يهودي يَسْرَح ويَمْرَح في مكانه بتواطؤ عالمي. على مدار سنوات، جَمَعَت الباحثة القِصَص من أفواه الفلسطينيين كبارًا وصغارًا، وأجرت المقابلات معهم في غزّة والخليل والقدس الشرقيّة والبلدة القديمة الأثيرة على قلبها فهي بيتُها ومَسكَنُها. قلّبت أيامها والسنين تَخرج كلّ صباح إلى باب العَمود لتلتقي بالأطفال المتوجّهين إلى مدارسهم تستمع إلى قراءاتهم للواقع؛ لِما يَحدث حولهم، ومعهم توصَّلَت إلى وجوب اعتماد قراءة مغايرة لما يحدث مع الطفل الفلسطيني، وراحت تدعو لنبذ القراءة الغربيّة القائمة على المعرفة المستورَدَة مِن "الأبيض" ومفاهيمه الجاهزة للتحليل بقوالب الصَدْمة أو التسرّب مِن المدارس أو المعالَجة الفردانية، فَكلّها معًا تقصّر في قراءة الواقع الغارق بالعنف العنصري والسياسة الأمنيّة التي "اجتاحت منزل الطفل وغرفته وسريره وعائلته وحارته ومدرسته والشارع وطاولت أجساد الأطفال في حياتهم وموتهم تاركة فيهم أختامَها".

"السؤال الأساسي هو: ماذا يحدث للطفل الفلسطيني تَحت براثن المشروع الصهيوني الاستيطاني الاستعماري وعنصريّة الدولة، وكيف نقرأ وكيف نحلل؟"

وفقًا لكيفوركيان فإن "هناك سياسات محليّة صهيونية وعالمية داعمة جدًّا لاستئصال الطفولة من الطفل، لأن الطفولة والجيل الصاعد هما رأس مال سياسي لأصحاب القوى. فاستغلال الطفل وإيذاؤه والسيطرة عليه هو رأس مال سياسي بيد المستعمِر، حسب رأيي، ومن هنا اقترحت مصطلح الـ Unchilding. وهو نَزع صغارنا وتَعريتهم من مزايا الصِغَر، وإنتاجهم كمجرمين وإرهابيين ومخربين، كخطر أمني، كشيء لا يجوز التّعاطف معه، وهو ما يُنتَج ويعاد إنتاجه عالميًّا وبرؤية عالميّة. المشروع الصهيوني دائم التغيّر في عمله السياسي وهو يحاول أن يولّد مجتمعًا بإمكانه أن يسيطِر عليه، يتحكّم فيه، يقلّبه، يكوّنه، ويخلق الطفل بطريقة فيها عنصرية، ومن هنا فأنا أعتمد توجّهين في الكتاب، هما: التوجه الاستيطاني الاستعماري وتوجه العنف العنصري تجاه أطفالنا".

تُشدد الباحثة على أهمية الوقوف على الفرق بين الحالة الفلسطينية والحالات الأخرى من منظور دراسات الطفولة النقديّة في الإطار الاستيطاني الاستعماري خصوصًا مفاهيم الإنقاذ Saving والحِماية Protection والبراءة، التي ادّعت أنها تنوي النهوض بالأطفال الأصلانيين وحمايتهم من مجتمعاتهم ومن ظروفهم الأليمة. في أستراليا أُجريت أبحاث كشفت عمّا اصطلح عليه Stolen Generation "الأَجيال المَسرْوقة" حيث كان هناك استقصاد واضح للأطفال الذين تم انتزاعهم من عائلاتهم بذريعة تقديم الحماية لهم وإنقاذهم فكانت تلك رؤية ثقافيّة، ومن منطلق الحماية. أما في الولايات المتحدة فكان التوجه أننا ننقذ الأصلاني/الهندي الأحمر ونقتل الهوية Saving the child and killing the Indian . السؤال ماذا يحدث في المشروع الصهيوني؟ ماذا يَحدث لأطفالنا؟ هل فعلًا البرنامج الاستيطاني الاستعماري الصهيوني هدفه هو قتل الهوية ولكن إنقاذ الطفل الفلسطيني؟ والسؤال الأساس الذي أطرحه في الكتاب هو: ماذا يحدث وكيف نقرأ المنظومة السياسية الصهيونية وكتابتها وتحديدًا البيوبوليتيكس والنكروبوليتيكس. هناك فعلًا سرديّة معينّة تُنحَت على الأطفال وأجسادهم، الأجساد الحيّة والأجساد الميّتة مقولة معينة مرتبطة بالاستعمار الاستيطاني الاستعماري. في الفكر الاستيطاني الاستعماري هناك ثلاث مركبات أساسية تحدِّد وتساعدنا على فهم ما يَحدث. المركّب الأول هو أن ما يحدث هو ليس بحدث ينحصر في الطفل وإنما ما يحدث في المنظومة التي تملك برنامج عمل هدفها الأساسي إنتاج اليهودي المتخيّل، كأصلاني، وإخراج الفلسطيني خارجًا كليًّا، والطفل هو الأجيال الصاعدة وبالتالي إخراجه خارجًا كـ"لا – طفل"، كمجرم أو كإرهابي يساعد القوة العالميّة في زيادة دعم المشروع الصهيوني، وهذا ما نراه بقوة في رسائل الأطفال التي تحكي قراءتها ليس فقط للمشروع الصهيوني بل أيضًا لتقاعس العالم في قراءة ما يحدث للطفل. والنقطة الثالثة في الإطار الاستيطاني الاستعماري أنه مبني على منطق الإبادة، ومنطق الإبادة هذا هو المنطق الإلغائي. فالسؤال الأساسي: ماذا يحدث للطفل الفلسطيني تحت براثن المشروع الصهيوني الاستيطاني الاستعماري وعنصرية الدولة؟ وكيف نقرأ وكيف نحلل؟

"ما يَجري هو اقتحام للحيّز الحميمي والكيان الطُفولي والوجدان الطُفولي والبيت والحارة والمَدرَسة والعائِلة والجَسد"

تَستَحضر الباحثة رواية الطِفلة المقدسيّة رهف: "عندما أسمع رهف تقول على خلفية هدم البيت مشيرة إلى الرسمة التي رَسَمَتها: ’هذا جدي وقع لما وصل البلدوزر، وهذه أمي نزل الدم من أنفها وهذا أخوي‘. ثم سألتها: ’هل هذه هي العائلة؟‘ قالت: ’إيش يعني أبوي؟ ما قلتلوش يكون أبوي‘. قراءة مقولة رهف ’ما قلتلوش يكون أبوي‘ معناها أنها أخذت منه رُخصَتَه كأب (شاهدته يقف بعيدًا يدخن السيجارة فيما البلدوزر يهدم البيت). تتوجب منّا نتائج منظومة هدم البيوت قراءة من نوع آخر، قراءة نقدية لما يحدث للطفل، وكيف أن الطفل هو فعلًا قوة سياسية يجب أن نحلّلها. وهذه صمود (12 سنة) أُخت نسيم أبو الرومي (14 سنة) الذي قُتل في 15 آب/ أغسطس 2019 قرب باب السلسلة المؤدي إلى الحرم تَسأَل على خلفية المداولات الشاقّة على مدى وشهر ونصف لإعادة جُثمان شقيقها من الثلاجات الإسرائيلية، إضافة إلى الكتابة على جثمان نسيم/ فَسَأَلت: ’طيب كيف ممكن يقاضوا جسد ميت؟ ما قتلوه كيف ممكن يحاكموه؟!‘. أشارت المقابلات المختلفة إلى اللا - طَفْلَنَة دائمً،ا وتحييد المواجهة وجهًا لوجه. في بعض الحالات تكون هناك مواجهة مع أطفالنا وجهًا لوجه، وفي أحيان أخرى لا تتم المواجهة بل اقتحام قوي للحيّز الحميمي المتمثّل بالبيت (عند رهف)، وفي علاقة صمود مع أخيها، وللكيان الطفولي والوجدان الطفولي وللبيت والحارة والمدرسة والعائلة والجسد. كان عمر نسيم 14 سنة، وعدد الرصاصات التي كانت في جسده أكثر من عمره. تدلّ هذه ممارسات على استخدام اقتصاديات الحياة والموت ومحاولة إخراس الهدف وتحويله إلى مجرم وإرهابي. ما رأيناه مثلًا في قضية حسن مناصرة الذي أبقته هو أيضًا سلطات الاحتلال في الثلاجات مدة 7 أشهر وأعادت جثمانه وهو يحمل كتابة على جسده الميت، وهو ما رفضه أبو ابراهيم والد حسن الذي قال إنه لن يقبل استلامه إلا إذا أعادوه بطريقة لائقة أكثر. هناك إذًا اقتصاديات مرئية وغير مرئية ومَنظومة واضحة للمشروع الاستيطاني وعنف يعمل بطبقات عدّة وطُرق عدّة: على الجَسَد الميت، على الجَسد الحيّ، على الوجدان وعلى الخوالج، على الإنسان والمشاعر، على الشارع والحارة، وحتى يحافظ على منظومة للسيطرة على الحيّز في العلاقة بين حياة الطفل والطفولة واللا طفلنة والأرض والإنسان فهي علاقة دائمة".

الطّفل الفلسطيني يستمر في الإصرار على الظُّهور متحدّيًا الألم والقمع

تَستَطرد كيفوركيان: "هنا نرى الطفل الفلسطيني يَستمر في الظهور، ويَستمر في البروز كلّ صباح ابتداء من الساعة السابعة عبر باب العمود في طريقه إلى المدرسة. وبالرغم من قمع التاريخ واقتصاديّات الديمغرافيا، والألم، وبقوة المجتَمَع، يستمر في الإصرار على الظهور، حين يرفض أبو إبراهيم أن يستلم جثمان حسن وترفض صمود أن يحاكِموا جَسَد الميت، وأنا أعتقد أن الصمود وصمودها وظهورها البسيط يفتح قضيّة إضافية للقراءة".

في كتابها، تقدم كيفوركيان بدايةً قراءة تاريخية، ثم تفرد فصلًا لمقابلاتها التي أجرتها مع مَن كانوا أطفالًا في الغيتو العربي في الّلد سنة 48، وتتحدّث مع الدكتور بطرس أبو منّة "طفل الغيتو" الذي لم يكن يعرف إلى أين يذهب وكان سؤاله الأساسي: "أين القوى العالمية لتأتي وتتحدّث معنا"، وهو ما يسقط برأيها على اللا - طفلنة التي بُنِيت في المشروع الصهيوني في العنف فترة الـ 48 وتربطها في الفصل نفسه مع ما يجري في الخليل، حيث تحدّثت مع مجموعة من الصبايا والشباب، وهؤلاء رفضوا بقوة توصيف حالتهم كمن يعيشون "داخل قَفَص"- "احنا مِش حيوانات"، واقترحوا على الباحثة أن تستخدم كلمة زنزانة، ووجدت نفسها تتبنى اقتراحهم وتغير عنوان الكتاب الذي خططت سابقًا أن يكون Cage Childhood.

"للمعرفة وطن": الفرق بين "أبراج المُراقَبَة" و"صناديق القتل" بعيني الطفل الفلسطيني

ترصد الباحثة في كتابها سياسات اللا- طَفْلَنة منذ تاريخ إقامة الدولة عبر عنف المنظومة الاستيطانية الاستعمارية، وتربط بين المكاسب السياسية وقتها والمكاسب السياسية الموجودة اليوم في الخليل، وتنتقل إلى النقب والقرى غير المعترف بها. كما أنها تُفرِد مساحة لقضيّة الفتاة البدوية التي اغتَصَبها جنود إسرائيليون في 48، وفق ما جاء في مذكّرات بن غوريون نفسه، في سياق إعادة إنتاج تلك الفتاة 'ليس كطفلة'. وتتوقف عند أوضاع أطفال النقب اليوم وما يتكشف عن ذلك من سياسات، وصولًا إلى أطفال القدس الذين تلتقيهم يوميًّا في الصباح وبعد الظّهر وتتحدث إليهم وتقرأ في عيونهم كيف يَرون المنظومة الاستيطانية الاستعمارية رغم صغر سنّهم. فالغُرَف المسماة "أبراج مراقبة" (يتمترس فيها الجنود في البلدة القديمة) لها اسم آخر بلغة الأطفال هو "صناديق القتل". "بمعنى أن لها معنى مختلفًا كليًّا. للمَعرفة وَطَن. من غير الممكن طرح معرفة على الطفل الفلسطيني دون توطينها بوطن فلسطيني، دون فَهم ما يحدث مِن نزع طفولة والنظر لأطفالنا كمجرمين إرهابيين. من ملاحظتي لأقوالهم وأصواتهم ورسائلهم أَستَلْهِم الحاجة إلى توطين المعرفة في قراءتنا الأطفالَ لأن المعرفة الغربيّة لم تُسانِدني في فهم ما الذي يحدث للطفل الفلسطيني. صناديق القتل على سبيل المثال هي التي تسيّر فكري ورؤيتي وقراءتي للا- طفلنة الموجودة ولتحدي الأطفال للا طفلنة على اعتبار أن أبراج المراقبة تَطرح نفسها على أنها محايِدة، لكن قراءتها كصناديق قتل/موت هي قراءة من نوع آخر مرتبطة بالطفل وبالواقع الفلسطيني، وهو ما يقودني في الوقت نفسه إلى القول إنه توجد ميزات خاصة أولًا للطفولة الفلسطينيّة، وثانيًا لقراءة ما يحَدث للطفل الفلسطيني سياسيًّا أو كيفية استقصاد الطفل لا سيما حين أصل إلى الطفل في غزة فأسأل: لماذا فشل العالم في فهم ما يحدث للطفل الفلسطيني إزاء كلّ ما يجري في غزة من ألم واستلاب، وكل العمل المرتبط باقتصاديات الحياة والموت؟".

طفل من أطفال غزة في "مَسيرات العودة": "أنا بَروح أشمّ فلسطين. بروح ألعب، بروح أموت، بروح أعيش، وبروح أحكي"

 تنتقد الباحثة الإعلام الإسرائيلي الذي يصوّر الأمهات في غزة كغير مبالِيات تجاه حيوات أبنائهن، وبخلاف ذلك تُظهر دراستها لمسيرة العودة في غزة (حديث على يوتيوب 2021) من خلال مقابلات عن طريق "واتساب" شارك فيها الأطفال وأمهاتهم، أنهن يَنهين أولادهن عن المشاركة. وفي إحدى المقابلات يقول أحد الأطفال: "أنا بديش أشترك بمسيرة العودة لأنه بديش أخسر إجري، لأني بحب ألعب فوتبول". وقال آخر: "أنا بروح أشم فلسطين. بروح ألعب، بروح أموت، بروح أعيش وبروح أحكي". كلّ ذلك بجملة واحدة. وتوضح الباحثة: "ما أراه اليوم في استقصاد الطفولة هو حالة حصار، حالة تقطيع أوصال، ليس فقط تقطيع أوصال بالحيز والمكان وبوضع الحواجز إنما تقطيع أوصال خوالجي، اجتماعي نفسي سياسي. هناك بناء هندسة اجتماعية حيزيّة لتقوية سياسة معينة. حالة الحصار هذه أو حالة الاستقصاد للطفل، وفق رؤيتي هي فعلًا بذاتها مؤسسة عسكرية، تتطلب منّا كباحثين وعاملين اجتماعيين أن ننظر إلى ما يجري بطريقة أخرى، ونفكر بطريقة أخرى، فمحاولة نزع الطفولة والتّصفية والقتل المرئي وغير المرئي الذي يعمل بلا كلل يتطلب منّا فعلًا أن نقرأ القضيّة بأسلوب مختلف". 

"تتجلّى سياسات اللا-طفلنة في لحظة المَوت أو عِند الاعتقال أو عِند الاعتذار أو عند الإفقار الذي نراه في النقب، والوضع الذي نراه في القرى غير المعترف بها، وطلب أوراق قانونية لتدعيم مكاننا في مكان هو لنا. وقضية لم الشمل، في حين أنّ ما يحدث هو عدم لم لأيّ شمل، كلّ هذا هو تقطيع أوصال. وهنا يجب أن يكون التدخّل تدخلًّا من نوع آخر. فرؤيتي كباحثة هي رؤية تتطلب أن أقول إن الطفل والطفولة يعدان موضوعًا سياسيًا من الدرجة الأولى، يجب وضعه على رأس أولويات البحث في طاولة المفاوضات لأنه لا يمكن تمييعه. كلّ ما يتعلّق بكيفيّة رعايتهم وتعليمهم الاهتمام بصحتهم ونشأتهم ومصابهم وآلامهم وأعينهم التي يعاينون فيها العالم ويعاينون العالم من خلالها هي بالضبط التي تُستغل من قِبَل المستعمر وهي بالضبط التي تتأثر وتؤثر بالمنظومة السياديّة للمستعمر وهي التي تَنتج وتُنتج وتفعِّل قوى ومنظومة سياسية لربما لا نشعر بها".

مَكيدَة اسمها "نموذج الطفل البريء"

تقول الباحثة في استفاضة مُثرية: "يحاول كتابي أن يتعمق في الطفولة الفلسطينية، والحيّز العام، والمساحات الحميمية التي تخصّ العائلة، وعلاقة الأطفال بأهلهم. ما أقوله إن قراءتنا لهذه المسارح الحميمية هي قراءة جدًّا مهمة لأن هذه المسارح الحميمية في البيت، في السرير، والذي يحدث في السرير ساعة يسمع الطفل خطوات المستوطنين فوق سطح المنزل، وفي البلدة القديمة في القدس، هذه المساحات تصبح مسارح مصغّرة للاستعمار، للمنظومة الاستعمارية، مسارح يَخط ويُخطط فيها المستعمِر مسارح للإنتاج ومسارح للتمثيل، ومسارح لأداء القوة، والتمثيل هنا ليس فقط Performance وإنما تمثيل في الأجساد المحتجزة، الأجساد الميّتة، في الأنفاس المحتجزة، وهي سيطرة على الوقت وعلى الحيّز وعلى المَكان. وما أقوله هو أبعد من التشيئ لأنه ينتج قَطْع الأوصال لإلغاء حقّ العودة.. حقّ العودة لكياننا كفلسطينيين، كوحدة، وما إلى ذلك. بناء على قراءتي المنظومةَ، يوجد هناك رفض لبناء الطِفل ككيان غير مسيّس. فهناك نموذج الطّفل البريء الذي يضعونهأمامنا بمعنى: "خلّيكم أطفال ما تزتّوش حجارة. يعني الطفل عادة بريء فلما يلقون الحجارة؟! ساعَتَها نَفهم طفولتهم!! (تمتعض) طيب لمّا الطفل عَمْ برمي الحجر عَم بيقول للمستوطن الموجود على أرضه إِنْ كان بالعيسوية وإِن كان بالقدس وإِن كان بالخليل وإِن كان بغزة إنو أنا أرفض الإهانة اليوميّة كجزء من حياتي. ولكلّ فعل ردّ فعل، وهذا أمر طبيعي جدًّا. والتّعرية في الحيّز العام من خلال الاستلاب والاستقصاد الطُفولي تتطلب ردّة فعل. والذي نراه أننا كبالغين ما عُدنا نقدِم على ردّة فعل سياسيّة جدّية في حين أن أطفالنا -لأنهم أطفال- لديهم ردود إنسانية ومرتبطة بكونهم طفولة، ولذلك رفضت أن أسميها "طفولة مسروقة" فهم يتكلّمون بلغة أخرى. يتكلمون بخطواتهم، بكلماتهم، بوصولهم إلى المدرسة بالرغم من العسكرة المنتشرة بقوة في الخليل والقدس والنقب".

ليفي: "في إسرائيل، بطبيعة الحال، لا يُعتبر المُقاوم (الطفل الفلسطيني) بطلاً ولا ضحيّة، بل مجرّد إرهابي"

تَعريف الطفل الفلسطيني كإرهابي في سياق الديناميكيّة العسكرية في الضفة الغريبة أعادني إلى خَبر مقتل الطفل الفلسطيني عبد الله حواش (11 عامًا)، وكان الصحافي التقدّمي جدعون ليفي قد زار العائلة ليعدّ تقريرًا نشره في الأول من تشرين الثاني من العام المنصرم. وبحسب ليفي فقد "مرّت قافلة سيارات جيب عسكرية مدرّعة رصدها الولد الذي اختبأ وراء صناديق القمامة والسيارات المتوقفة، فراح يلقي حجرًا صغيرًا كلما مرّت إحدى سيارات الجيب التي واصلت سيرها لعدم تأثّرها بتلك الحركة. ولدى مرور الجيب الأخير، ألقى الولد حجرًا آخر باتجاه السيارة، أغلب الظنّ أنه لم يمسّ جانبها المدرّع، إلا أنه سقط على الفور ملقيًّا على ظهره. أطلق الجنود الرصاص القاتل على الطفل من فتحة في نافذة الجيب أثناء سيره، ولم يتوقفوا. هذا ما سيحدث لكلّ من يتجرأ على إلقاء الحجارة على جيب عسكري للاحتلال".

من المدهش أن يكتب قلم ليفي وكأنه استخلص الدروس من أبحاث كيفوركيان أو ربما من قراءاته الشخصية لما يحدث مع الفلسطينيين طيلة عقود من تتبعه الأحداثَ في الضفة الغربية، ومن باب المؤكد أنه يقرأ الإعلام الإسرائيلي وما وراءه من أجندات معلنة وخفية.

يقارِن ليفي بين الطفل الفلسطيني والطالب المَجهول الذي اعترض مسيرة موكب الدبابات الذي وصل لقمع المعارضة الشعبيّة للنظام في ميدان تاين ان مين في الصين: "من المؤكد أن رامي الحجارة الصغير على جيبات جيش الاحتلال الإسرائيلي كان مدفوعًا بالشعور نفسه بالمقاومة، وحكم عليه الجيش بالإعدام دون محاكمة. وبينما اعتبر الطالب الصيني في أنحاء العالم بطلًا، فإنه في إسرائيل، بطبيعة الحال، لا يعتبر بطلاً ولا ضحية، بل مجرّد إرهابي. وكان عبد الله الحواش يبلغ من العمر 11 عاماً عند وفاته. واصل قتلة الأطفال طريقهم مستقلّين سيارات الجيب العسكرية. وأشك أنهم عرفوا بأنهم أردوه قتيلًا، والمؤكد أن الأمر لن يشكل بالنسبة لهم مصدر إزعاج. حدث هذا يوم الثلاثاء الماضي 22 أكتوبر/تشرين الأول، في أحد الشوارع الرئيسية في مدينة نابلس".

وعلى مبدأ أن لكلّ فعل ردّة فعل، فقد كشفت مقالة ليفي على لسان والدة الطفل أن "عبد الله تأثّر بالمشاهد التي توالت من غزة عبر الشاشات حدّ البكاء أحيانًا. وكسائر الأولاد في نابلس أُعجب بالأبطال المحليين، والشهداء الذين قُتلوا على يد الجيش الإسرائيلي في مخيمات اللاجئين الواقعة على أطراف نابلس وفي المدينة ذاتها. أُعجِب عبد الله بشكل خاص بإبراهيم النابلسي، بطل نابلس الميثولوجي الذي كان نجمًا في وسائل التواصل الاجتماعي. وفي صيف 2022 حين بلغ الـ18 عامًا قُتل بيد إسرائيل. أحب عبود أن يقلد النابلسي حتى في ملبسه وعلّق حول رقبته قلادة تحمل صورته. صورة شهيد أخرى معلقة فوق سريره. وبالرغم من حرصها على عدم خروج ابنها من البيت وقت مداهمة الجيش للمدينة، فإنه لسوء حظه كان يلعب في الشارع حين وقعت آخر مداهمة له في حياته".

ووفقًا للشهادات التي جمعها الكاتب فقد اختبأ الأولاد قرب الدكان ساعة معرفتهم بمرور الجيش الإسرائيلي، وحاول نضال ثني أخيه عن مواصلة طريقه وهو يستقل الدراجة الهوائية إلا أن الصبي أجابه: "أنا لا أخاف من الجنود. أنا ذاهب لألقي عليهم الحجارة".

كشفت المعلومات التي جمعها موظّفو "بتسيلم" أن "الجنود أطلقوا النار على عبد الله من مسافة نحو 20 مترًا. رصاصتان في الصدر. لم يوقفوا السيارة للحظة. الشارع كان خاليًا ولم يكن هناك أيّ حشد".


ملاحظة: الصورة الموفقة من موقع https://www.dci-palestine.org.

إليزابيث طحان نصار

إعلامية وإذاعية من مدينة الناصرة

رأيك يهمنا