حرب على غزّة توازيها أخرى على الأسرى داخل السجون!
ما أن اندلعت الحرب على قطاع غزة حتى بدأت السلطات الإسرائيلية بإعلان حالة الطوارئ في السجون الإسرائيلية وخاصة على الأسرى الفلسطينيين السياسيين (الأسرى الأمنيين) والتي كان من أبرز مظاهرها التضييق الدائم والمستمر على الأسرى وحرمانهم من أبسط حقوقهم الإنسانية الأساسية والتي تتمثل في الحفاظ على كرامتهم الإنسانية وحمايتهم من الاعتداء والضرب والتعذيب.
لقد وصلَنا وسمعنا بشكل مباشر من الأسرى الكثير من الشكاوى على تعرضهم للضرب والتنكيل والإهانة والتهديد من طرف عناصر من سلطة السجون وخاصةً وحدة "كيتر" التي تم إدخالها خصيصاً لهذا الغرض، وسلبهم أغراضهم الشخصية من ملابس ومتعلقات أخرى، ومصادرة مذكراتهم وكتبهم، وحتى مصاحفهم لم تسلم من المصادرة والإهانة. وحتى كتابة هذه السطور لم تُعد سلطات السجون هذه المتعلقات والأغراض الى الأسرى وحسب شهادات سمعناها من الأسرى لم تبلغهم سلطة السجون أمرًا حول مصير تلك المقتنيات.
كما برزت من خلال الشكاوى التي سمعناها ممارسة الإهانة المتعمدة للأسرى والذي تمثل في إغلاق الأقسام والغرف عليهم كل ساعات اليوم عدا نصف ساعة لقضاء الحاجة والاستحمام وفي الآونة الأخيرة تم توسيع نصف الساعة إلى ساعة.
كما وتمثلت هذه المرحلة بممارسة الاعتداء الجسدي على الأسرى، والذي تمثل بالضرب والتنكيل بشكل ممنهج ويوميّ فيما قُيّد الأسرى، حتى أن أحد الأسرى وصف ذلك بقوله "هناك ثلاث وجبات ضرب كل يوم". وبسبب ممارسة الضرب المبرح من طرف سلطة السجون فقد استشهد عدد كبير من الأسرى.
كما تبين لنا أن الأسرى تعرضوا لسياسة تجويع ممنهجة؛ فقد منعت سلطة السجون الحصول على الطعام والماء الصالح للشرب بشكل كافٍ، وهذا بحد ذاته شكّل خطراً حقيقياً على سلامة وصحة الأسرى. لم توفّر سلطة السجون الطعام للأسرى وكذلك منعتهم من شراء الطعام من الكانتينا على حسابهم؛ فمن جهة لا توفّر لهم متطلباتهم ومن جهة أخرى لا تسمح لهم بشراء مستلزماتهم على حسابهم. وحسب الشهادات التي وصلتنا من أسرى مثلناهم في المحاكم فقد تبين منعُ الطعام عنهم على مدار عدة أيام متتالية وخاصة في المعابر في فترة النقل من السجن إلى المحاكم.
كما صادرت سلطة السجون ملابسهم وأغطيتهم الدافئة وخاصة في فصل الشتاء وتركهم في البرد القارس بدون أي أغطية دافئة وبدون ملابس شتوية ومنعوا العائلات من إدخال مستلزمات لأبنائهم.
إن هذه السياسات التي انتهجتها السلطات الاسرائيلية ضد الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين هي بحد ذاتها مخالفة واضحة للقانون الإسرائيلي نفسه وأيضًا مخالفة للقانون الدولي والمعاهدة لمنع التعذيب. وفي ظل التعتيم الإعلامي حول ظروف استشهاد الأسرى والتضييقات على دخول المحامين إلى السجون لجمع المعلومات، قد تكون مصلحة السجون أمّنت بذلك لسجانيها طريقة سهلة للإفلات من العقاب.
علاوةً على كل ذلك فقد فرضت السجون على الأسرى حالة انقطاع كامل عن العالم الخارجي، حيث منعتهم من الاتصال بذويهم، ومنعت الزيارات، فضلًا عن منع كل أدوات التواصل من تلفزيونات وأجهزة بث أخرى، حتى أنّ زيارات المحامين كانت ممنوعة بالكامل في بداية الحرب.
حتى بعد فتح الزيارات للمحامين فقد واجهنا سياسات لإعاقة دخول المحامين ومنع الزيارات؛ فقد منعت سلطات السجون الزيارات حتى بعد وصول المحامين الى السجن وبعد التنسيق للزيارات، بحجة وجود وضع طوارئ في السجن وأحيانًا خلال الزيارات افتعلت إدارات السجون أحداثًا من أجل منع الزيارة وإخراج المحامي الى خارج السجن، وبالتالي فإن الزيارة لا تتم وفق المخطط له.
هذا كلّه يأتي بالإضافة إلى دمج سلطة السجون للأقسام بعضها ببعض، مما أدى إلى زيادة الاكتظاظ داخل الغرف، فيما ينام بعض الأسرى على الأرض لعدم توفر مكان له على الأسرّة، وقطع الكهرباء عن الأسرى باستثناء ساعتين في اليوم في ساعات النهار وإضاءة الإنارة في الغرف في ساعات الليل.
في كل الزيارات التي أجريناها إلى السجون الإسرائيلية في فترة الحرب على غزة، كنا نرى الخوف والوجوم والمعاناة والوجع على وجوه الأسرى جراء سياسات التنكيل والتعذيب والإهانة.
في ظلّ كل هذه الانتهاكات، توجهت عدة مؤسسات بالتماساتٍ للمحكمة العليا الإسرائيلية، إلّا أنها واجهت استخفافًا واستهتارًا من طرف المحكمة والنيابة العامة الإسرائيلية، وحاولت طمس معالم هذه المخالفات الواضحة بحقّ كرامة الإنسان وحريّته.
أثبتت هذه الانتهاكات أن الأجهزة الاسرائيلية لم تتعامل مع الأسرى حسب المعايير القانونية المتعارف عليها وانتهكت حتى معاييرها هي، وتَبيّن لنا أن المحاكم الإسرائيلية تعاملت مع هذه القضايا بمفهوم الفصل العنصري (الأبارتهايد)، وأحدثت إجراءات ضد الأسرى الفلسطينيين تختلف عن باقي الأسرى، وأعطت الشرعية لممارسة العقوبات الجماعية مع كل الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، وأعطت الشرعية لمثل هذه الممارسات والانتهاكات.
لا شكّ أن الأسرى الفلسطينيين تعرضوا من قبل سلطة السجون الإسرائيلية لانتهاكات ممنهجة والتي ترقى لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وهذا جانب آخر من جوانب العدوان على الشعب الفلسطيني، والذي أخذ أشكالاً مختلفة خلال هذه الحرب، والتي تبين من خلالها أنها استغلت حالة الحرب من أجل تمرير هذه السياسات والممارسات من منطلقات عنصرية متطرفة وبدوافع سياسية بحتة.
لا يمكن قراءة هذه الممارسات دون استحضار التصريحات السياسية في السنوات الأخيرة لشخصيات سياسية وخاصة للوزير بن غفير - وهو بالمناسبة الوزير المسؤول عن سلطة السجون - الذي استغل هذه الأحداث لتمرير مخططاته العنصرية والمتطرفة.
المحامي خالد زبارقة
محام وناشط حقوقي فلسطيني مختص في شؤون الأسرى حاصل على شهادة الماجستير في القانون العام من جامعة تل أبيب. عمل على الدفاع والمرافعة عن الأسرى في المحاكم الإسرائيلية على مدار 25 عام