حَكَواتيّة مِن زَمَن الحَرب: "أَحمِلُ دِفءَ العالَم لِطِفلٍ يَحتاجُه"

بدأتُ الحديث مبكرًا جدًا ولم أتوقّف مِن يَومِها. كان لوالِدي أَثَر كَبير في تشكيل عَلاقتي بالحكايات، فقد كان يروي لي القِصص بأسلوب مسرحيّ نابض بالحياة، وكانت الحكايات لا تتكرّر أبدًا. كنتُ أستمع إليه باندهاش، ثم أُعيد سرد القصص بكلّ تفاصيلها، وكأنها تسكُن داخلي.

منذ طفولتي، كنتُ شَغوفة بالقصص والخيال. لا شيء كان يُسعدني أكثر من الغَوص في عالَم الحكايات، حيث يمكن أن يصبح المُستحيل ممكنًا، ويتلاشى الحزن بين الكلمات. أتذكّر جيدًا عندما أهداني والدي كتاب "آن في المرتَفَعات الخضراء"، وقال لي: “أنتِ تشبهين آن، كثيرة الكلام، وخيالك واسع”. كنتُ أضحك لكلماته، لكنّني كنتُ أصدّقها تمامًا، فأنا لم أكن أروي القصص فقط، بل كنتُ أعيشها.

واليوم، حين أقِف أمام الأطفال وأروي لهم الحكايات، أشعُر أن هذه اللحظة هي الأكثر سعادة في حياتي. أشعُر أنني ما زلتُ تلك الطفلة الصغيرة التي تستمتع بالحكايات، لكنّ الفرق أنني الآن أرويها لأطفال آخرين، أطفال يحتاجون للحكاية كما كنتُ أحتاجها يومًا. الحكاية في زمن الحرب.

 بعد حرب 2014، سَنَحت لي الفرصة لزيارة غزة، محملةً بحكاياتي كرسائل أمل للأطفال هناك. لم يكن مجرّد نشاط ثقافي، بل كان فعلًا إنسانيًا عميقًا. كنتُ أرى في عيون الأطفال أكثر من مجرد فضول لسماع الحكاية، كنتُ أرى احتياجًا للحياة، ورغبةً في الهروب -ولو للحظات- مِن واقعهم المُثقل بالحرب.

كانت تجربة استثنائية بكلّ تفاصيلها، فرغم الدمار الذي يحيط بكل شيء، كان الأطفال أكثر مِن رائعين. فَهُم مميَّزون، أذكياء، ومفعَمون بالحياة رغم كلّ شيء. رأيت في أعينهم شعاع الأمل الذي لا يخبو، رغم أن واقعهم كان يقول شيئًا آخر. كانوا أطفالًا يستحقون حياةً بعيدة عن الحرب والشرّ.

واليوم، مع الحرب التي تَعصف بغزة مجددًا، لا أملك إلا أن أتساءل: أين هم الآن أولئك الأطفال الذين كنت أجلس معهم، أروي لهم الحكايات، وأشاهد ابتساماتهم الصغيرة تتسلّل وسط الألم؟ هل ما زالوا على قَيد الحياة؟ هل صاروا شبابًا يحلمون بعالم أكثر رحمة؟ أم أن الحرب سَرَقَتهم كما سَرَقت الكثير من أحلام هذا المكان؟ تمتدّ الحكاية كجسر إلى البعيد رغم كلّ هذه الأسئلة التي تؤلمني. لم أتوقّف عن الحَكي. هذه المرة، لم أكن قادرة على زيارة غزة، لكنّ صوتي وَصَل. عبر الإذاعة، أرسلت حكايتي إلى مخيمات اللجوء، إلى مراكز الإيواء، إلى الأطفال الذين يبحثون عن دفءٍ وسط البرد والدمار. لم أتمكن من رؤية أعينهم، ولا ابتساماتهم، لكنني سمعت تصفيقهم من بعيد. كان ذلك كافيًا ليشعرني أنني ما زلت قادرة على منحهم لحظة من الفرح، ولو كانت عابرة. ليست الحكاية مجرّد كلمات تُحكى، إنها حياة تُصنع من جديد. إنها نافذة صغيرة نحو الأمل، نحو الطفولة التي تحاول الحرب سرقتها. في كلّ مرة أروي فيها حكاية، أشعر أنني أقاوم، أنني أحمل معي دفء العالم وأمنحه لطفلٍ يحتاجه.

ستُنجِب غزة أطفالًا جددًا يسمعون الحِكايات. غزة تئنّ اليوم، لكنني أعلم أنها ستنجب أطفالًا جددًا، كما أنجبت من قبل. أطفالًا سيسمعون الحكايات، سيحملونها في قلوبهم، وسيرددونها يومًا ما لأطفال آخرين، ليقولوا لهم: "كنّا هنا، وما زلنا هنا".

الحكاية حياة، وأنا أصنع حياة من خلال الحكايات. ليس فقط للأطفال، بل لنفسي أيضًا. في زمن الحرب، يصبح الحكي فعل مقاومة، وشعلة تنير القلوب المعتمة بالخوف. ليست الحكايات مجرّد قصص، بل هي جسر يمتد بين الألم والأمل، بين الفقد والنجاة، بين القسوة والإنسانية. في كلّ مرّة أروي فيها حكاية، أؤمن أكثر بأن الكلمات قد لا توقف الحرب، لكنّها قادرة على منح الحياة معنى، وقادرة على إبقاء الأمل حيًا في القلوب الصّغيرة التي تستحق الحياة.

عزة جبر

حكواتية فلسطينية

يسرى مصباح علي خضور
هناك أمل بالكلمه التي تصنع الفرحه وتبعد ألاطفال عن شعورهم بفقد الامان والوحده بنقلهم إلى عالم اخر .. روعه لكلمات كل لاحترام والتقدير جزاك الله كل خير
السبت 1 آذار 2025
سارة
مبدعة عزة يعطيها الصحة والعافية محبوبة الاطفال
السبت 1 آذار 2025
ام اسيد
عزه رااااائعه بمعنى الكلمه أطفالنا كتير سعيدين فيها وبحكاياتها الرائعه
السبت 1 آذار 2025
رأيك يهمنا