حالة طارئة – ماذا نفعل؟

نشهد هذه الأيام أحداثا غير اعتيادية أدّت إلى خلخلة نظام حياتنا المعتاد. بالرّغم من علمنا اليقين أنّ المأساة والمعاناة تشكّلان مُركّبًا حتميًا من الوجود، إلّا أنّ حقيقة الموت ومعاينة الخطر لا تنفك عن دّب الرّعب والجزع داخل كلّ حيّ. لذلك من الطّبيعي أن تؤدي أحداث العنف والقتل والحرب إلى تداعي مشاعر الخوف والقلق، إضافةً إلى الإحباط واليأس، وعدم الأمن، والأمان، والاستقرار. وليس غريبا أن تظهر أعراض نفسيّة عديدة كانفعالات شديدة أو سلوكيّات حادّة أو نوبات هلع وقلق أو حتى تطوّر اضطرابات مختلفة. جميع هذه الظواهر عادةً ما تكون نِتاج حدث صعب ومؤلم. لذلك، من المحتمل أن يؤدّي كلّ حدث مفاجئ إلى صدمة، ومن الطبيعي أن تظهر لدى الفرد أعراضٌ لهذه الصدمة. يقوم هذا المقال المختصر بشرح مبسّط عن الأعراض التي قد نصادفها نتيجة اندلاع حرب أو وقوع حدث غير اعتيادي أدّى إلى وقف أو تغيّر في حياتنا لمدّة محدّدة أو للأبد. ويقترح في نهايته بعض الآليات الفعّالة للتّعامل مع الأوضاع الصّعبة في ظلّ هذه الظروف.

بدايةً، يُشعِرُنا الخطر أو الحرب أو حتى الشّجار؛ بالتّهديد المباشر على حياتنا أو على حياة أقربائنا. وبطبيعة الحال، تتجنّد آليات لدى الفرد من تلقاء ذاتها من أجل حمايته من التّهديد. فالتّهديد يقوم بتفعيل "الجهاز العصبي الودّي" الذي يعمل في الحالات الطارئة، إذ تتمركز وظيفته الأساسية في تنظيم الاستجابة للوضع الصعب كالقلق أو الخوف أو الخطر. فمثلًا يساعدنا هذا الجهاز على الهرب من حيوان مفترس يطاردنا فنركض بسرعة مهولة، أو يمكّننا من الدّفاع عن أنفسنا أمام مواجهة جديّة فتتعاظم قوانا. لذلك قد نستمع من الأفراد عند حديثهم عن حادثة تعرّضوا لها قولًا مثل" لم أعرف نفسي" أو "لم أتوقع أن أركض بهذه السرعة". والحقيقة أن هذا الجهاز العظيم يفاجئنا بالفعل بطاقته الكامنة التي تستيقظ في الحالات المهدِّدة لحياتنا لتساعدنا على النّجاة.

إلا أنّه من الممكن أن يتعرّض الجهاز العصبي الودّي إلى حالة من التّشويش التي يصبح فيها نشطًا على الدوام عوضًا عن الحالات الطارئة، وغالبا ما يتم الحديث عن هذه الحالة في سياق اضطراب ما بعد الصدّمة (PTSD\CPTSD). ومع ذلك، هناك الكثير من الحالات التي يتعرّض فيها الفرد لأحداث صعبة والتي من الممكن أن تسبّب لديه أعراضًا شبيهة بأعراض الصدّمة. فمثلًا، من المحتمل أن تقوم حالة كالحرب بتفعيل آليات النّجاة لدينا، وكلما كنّا أقرب لموقع وزمان الحرب كلما ازداد احتمال تعرّضنا للإصابة بأعراض نفسية. من المهم التّشديد على الحديث عن الأعراض وليس التّشخيص. فمن الطبيعي أنّ يصاب أي شخص فينا بتلك الأعراض كالخوف والجزع والهلع والقلق وما يصاحب تلك المشاعر من يأس أو احباط أو شعور بقلة الحيلة، الضياع، عدا عن عدم الاستقرار وحتّى الانكفاء على الذات والرغبة في الانعزال عن الآخرين.

تبدو الحياة في مثل تلك الظروف غير قابلة للتّحمّل ومهدِّدة لجنسنا البشريّ، فالخوف من الحرب يتضمن خوفًا من الموت والجوع والتّشرد والهجرة والتّشتت، والفقد والفقر والمرض. كلّ تلك المخاوف تتعاظم مع تعاظم الأحداث في الواقع، فالخوف في هذه الحالة هو حقيقي ويقوم بشلّ حركتنا وتفكيرنا، كأنّ الحياة تتوقف عند تلك الظروف الصّعبة وهي بالفعل تبدو كذلك، وإنّ هذا الشعور بالتّوقف المفاجئ وغير المرغوب به ينزع مصدر الأمان من نفسونا ويجنّد آلية الدفاع لدينا. تتنوع ردود الأفعال بالنّظر إلى الحالة والفئة العمريّة وكذلك الجنس. فالأطفال عادة ما يبدون خوفًا ظاهرًا كالصراخ والبكاء، ورؤية كوابيس، وتبوّل لاإرادي، واستخدام العنف كالضرّب والمشاجرة، وارتفاع في منسوب العصبية ونوبات الغضب. أمّا البالغ قد يصاب بالقلق والأرق ونوبات الغضب أو نوبات الهلع التي تتمثل بأعراض جسدية ونفسية منها ازدياد في خفقان القلب، التعرّق، ارتجاف، تشنّجات، ضيق في التّنفس، شعور بالاختناق، ألآم في منطقة الصدر أو شعور بعدم راحة، شعور بالتخدير، شعور بالغثيان، شعور بالدّوخة، شعور بعدم الاستقرار والأمان، شعور بالضعف والوهن، شعور بالانفصال عن الواقع أو عن الذات، الخوف من فقدان السيطرة أو الجنون أو الموت. وأيضا من الممكن أن تتوتّر العلاقات فيما بين الأفراد، فتصبح الظروف الصّعبة أرضا خصبة للنّزاعات والمشاجرات، وضيق الحال والتّذمر والشّكوى والرّفض، والسّلبية وتفضيل العُزلة والانفراد. وكذلك من الممكن أن تحصل انحرافات في السلوكيات الطبيعية لتتحوّل إلى سلوكيات دفاعيّة نتيجة التّهديد، مثل هرولة الناس إلى المتاجر بجنون وملئ سِلال المشتريات بمخزون الطعام والشرّاب، عدا عن الانغماس الحادّ بمواقع التواصل والأخبار دون توقف أو استراحة، وزِد على ذلك الإكثار من تناول الطّعام والحلويّات خاصّة، والهروب إلى ساعات كثيرة من النوم، والجلوس في دوامة دون معرفة ما يمكن فعله مما يؤدي إلى تراكمات وتأجيلات في المهام، وسواها من السلوكيات التي تبرز في حالة طارئة يمرّ فيها الفرد وحيدًا أو مع جماعات كحالة الحرب.

لذلك نظرًا إلى ما يمكن فعله في لحظات الخطر وتوقّف حياتنا هو أن نفهم ونتفهّم أوّلا أنّ سلوكياتنا وسلوكيات غيرنا هي نتيجة لوضع صعب. ثمّ إنّ لكلّ شخص منّا طريقته في النّجاة، وعادة لا نختار تلك الطرق بملء إرادتنا إلّا إذا استطعنا أن نطوّر آليات التّعامل مع وضع الشدّة عن طريق تثقيف الذّات، والتدريبات، وتلقي الورشات والجلسات وغيرها. بالمقابل يسمح لنا نموذج "الاستعداد لحالات الطوارئ" (מעש"ה – Six cs) بالتّعامل والتّدخل الفوري في حالات الطوارئ. يتمثّل النّموذج بأربع مراحل مهمّة تتلخّص كالتالي:

 1) تأسيس الانتباه أو تثبيت التّواصل: وهو تركيز تواصلك مع الشخص (أو مع نفسك) بشكل مباشر، فأوّل ما يتبادر إلى ذهن الشخص في حالات الطوارئ هو شعوره بالوحدة، كأنّه يقف لوحده لمجابهة الموقف، لذلك يتمثّل تدّخلنا الأول بالحضور أمامه (بجانبه أو عن طريق الهاتف) ومخاطبته باسمه ثمّ طمأنته بأنّنا نراه وأنّنا معه. فيمكن قول مثل "أنت لست لوحدك، أنا معك إلى جانبك". يمكن تعزيز التّواصل باللمس كإمساك كف اليد أو الكتف بما يلائم جيل الشخص أو الاستئذان قبل الّلمس عند الحاجة. بالنّسبة لتواصلك مع نفسك فيمكّن أن تحاول التّركيز على لحظة الحاضر عن طريق الإجابة على أسئلة: أين أنا؟ ماذا أرى؟ ماذا أسمع؟

2) تفعيل العقل أو تشجيع القيام بما يساعد في اللحظة الراهنة: وهو تقديم مهام عينيّة في لحظة الخطر، مثلًا عند سماع صفّارات انذار، يمكن تقسيم مهام على الأفراد كعدّ الموجودين، الحصول على أرقام هواتف الموجودين، الاتصال بأفراد العائلة وغيرها من المهام العينية التي تساعد الفرد على التّخفيف من هول الحالة والتّركيز بما يجعله يشعر بالقدرة والسيطرة. لذلك يعدّ التّحضير لبيوت العزاء مثلا طريقة للتعامل مع الواقعة المؤلمة والتّماسك في المرحلة الحّرجة لدى أهل الفقيد. كذلك يمكن إعطاء مهام للأطفال بما يلائم أعمارهم. بالنّسبة لتفعيل عقلك بنفسك فحاول أن تستخرج معلومات من حولك مثل ماذا يحصل؟ ما هو الوقت؟ من هم الأشخاص الذين من حولي؟ ما أسماؤهم؟ ما هي الأمور التي أحتاج لإعدادها؟

3) العمل بنجاعة أو طرح أسئلة بسيطة: يؤدي الحدث الصادم إلى إثارة العواطف غير المريحة داخلنا، لذلك من المحبذ أن نمتنع عن طرح الأسئلة العاطفية مثل ماذا تشعر والتركيز على الأسئلة البسيطة والعينيّة مثل "كم من الوقت وأنت هنا؟"، "إلى أين تريد الذهاب؟"، "هل تريد أن نتّصل بأحد أقربائك أو نذهب إليه؟". من المهم أن يقرر الفرد ماذا يريد من أجل أن يشعر بقدرته على الأداء الذي توقّف لحظة الخطر. في حالات الحرب، من الممكن أن نسأل الشخص عما يمكن فعله في الوقت الراهن، هل تريد أن تتصل بأقربائنا أم نكاتبهم بالرسائل؟ هل تحضّر قائمة المستلزمات أم تسأل الموجودين عن حاجاتهم؟ بالنّسبة للعمل بنجاعة مع نفسك فقم بتعيين مهمّتان لنفسك واختر الأكثر احتمالا لنجاحها.

4) ترتيب الأحداث أو إعادة بناء الحدث: يدخلنا الحدث الطارئ في حالة من الفوضى الذهنية، فعادة ما يصعب على الأفراد استيعاب ما جرى أو يصعب تذكر الأحداث، لذلك من المهم أن نقوم بصياغة الحدث بتسلسله منذ حصوله وحتى نهايته مع التشديد على نهايته. يساعد هذا الترتيب على الحدّ من حالة التّشويش والبلبلة، فمثلا "لقد كنّا نيام في ساعات بعد الفجر، سمعنا أًصوات صافرات الإنذار والصواريخ، دخلنا مسرعين إلى الملاجئ ثمّ توقّفت الصافرات بعد مدّة، نحن الآن معا ونحاول أنّ نمرر الوقت، ننتظر معا لتلقي التعليمات التالية". أو "لقد كنّا سويا في الخارج وتعرّض قريبي للأذى، تمّ نقله بسيارة الإسعاف، سيقومون بمعالجته في المشفى، وسنذهب قريبا للاطمئنان عليه". يمكنّنا أن نساعد الفرد بترتيب الأحداث أو نرتّبها لأنفسنا.

ختامًا، من المهمّ أن نتذكّر أنّنا نمتلك القدرة على التّعامل مع حالات الخَطر والتهديد بشكل فطري، ولكن من المهمّ أيضًا أن نتعامل بعقلانيّة وإدراك حتّى لا نتسبّب بأضرار مضاعفة لأنفسنا أو لغيرنا وهذه لا تأتي بالفطرة وحدها. تُعتبر طُرق التّعامل السليمة مع حالات الخطر حصانة نفسيّة تحمينا من النتائج غير المرغوبة بها. يمكننا دومًا بناء وتجديد حصانتا، ونحتاج إلى معرفتها والعمل بها قدر المستطاع. نذكّر أنّ لا مناص من المعاناة في الحياة ولا جنّة على الأرض، إلّا أنّ تقبّل هذه الحقيقة والعمل على التّحصين بشتّى أنواعه (نفسي، جسدي، روحاني أو مادّي) يقلّل من المعاناة وهذا هو المراد الأوّل والأخير. نتمنّى السّلامة للجميع وندعو بالرّحمة للمتوفين والُّلطف للفاقدين.

نوّار مصاروة

متخصّصة نفسيّة علاجيّة، تعمل في مجال الصحّة، وتبحث في موضوعات النّفس والاجتماع

 

رأيك يهمنا