عندما لا يوجد أخبار عن مكان ما فهذا خبر جيد … لكن غزة دائمًا في صدارة الأخبار لأنّ وضعها سيئ، فمنذ عقدين لا تتوقف مشاهد الموت والمعاناة الإنسانيّة الشّاملة، وهذا يبقيها في بؤرة الأخبار ويبقيها مادة صحفيّة ومكانًا يخلق وظائف للصحفيين. بعضهم يبالغ في محاولة عرض المشهد واستغلاله كفرصة عمل، أذكر الطفلة هدى أبو غالي في العام 2004 (أصبحت صبيّة الآن وأنهت تعليمها الجامعي)، عندما عرضت شاشات الأخبار مشهد قتل أبيها خلال وجودهم على الشّاطئ ليلعبوا، وحينها قام زورق إسرائيلي بقصف العائلة بدون أي سبب أو هدف. شاشات الأخبار نقلت بوقتها صورة الطّفلة هدى الحزينة وهي تصرخ تنادى على أبيها الميت، والمضرج بدمائه أمامها بعد ساعات من الحادث كطبيب نفسي في غزة. تم استدعائي لمعاينة الطّفلة التي كانت تحت تأثير الصّدمة الحادة، كانت لا تتكلم ونظراتها موجه نحو الفراغ وبلا اتجاه كأنها منقطعة عن الواقع. في هذه اللّحظة اكثر ما أزعجني هو سلوك الصّحفيين الذين كانوا يلاحقوها من مكان لأخر ليعدوا قصتهم الصّحفيّة، شعرت أنّ حمايّة الطّفلة من الصّحفيين في تلك المرحلة كان أولويّة قصوى .

الأهم في الأمر أن محاولة نقل حكاية غزة على أنها مشكلة أو مشاكل نفسيّة تشوه الحقيقة؛ فالمشكلة في غزة سياسيّة، وجزء من النّضال الوطني لشعب يقع تحت جبروت احتلال متغطرس، وبلا أخلاق وكل ما عدا ذلك تفاصيل.

في عملي كطبيب نفسي هنا في غزة في العادة أتعامل مع نفس الأمراض النّفسيّة الموجودة في كلّ العالم فلا يوجد أمراض نفسيّة مختلفة وخاصة عند سكان غزة، لكن غزة هي بيئة حياة صادمة يصعب التّكيف معها فالصّدمات تتوالى بلا توقف! حروب تتكرّر دوريًا كلّ سنوات عدة، وضحاياها الأساسيين هم النّاس المدنيين ممن لا علاقة لهم بكلّ ما يحدث، عنف داخلي وكراهيّة سياسيّة متبادلة بين النّاس بعد أحداث العنف التي نشبت في العام 2007، حالة حصار متواصل لا تمنع فقط حركة النّاس العاديّة ولمسائل عاديّة وبسيطة يجعل غزة كما لو أنها سجنٌ كبير، بل يوقف مجمل الدّورة الاقتصاديّة وأي عمليّة تنميّة تلاحق حاجات المجتمع. هذه البيئة الصّادمة إمكانيات التّكيف معها محدودة لدرجة كبيرة ومعدومة، فآليات التّكيف أمام التّحديات معروفة: هي القتال أو الهروب أو الاستسلام، وضمن بيئة غزة هذه الآليات لا تعمل ولا تعطى للناس أي حلول.

هذا الضّغط على المجتمع ككل يصنع معاناة إنسانيّة جماعيّة، ويصنع غياب الاطمئنان تجاه البقاء وتجاه الوضع القائم والمقبل، ويصنع إحساسًا واسعَ النّطاق بالقلق النّفسي.

القلق النّفسي ليس دائمًا حالة مرضيّة، بل في معظم الأحوال هو عمليّة استنفار نفسي وجسدي لمواجهة التّحديات، لكن عندما يطول هذا الاستنفار ويبقى بلا نتائج يحدث ارهاقًا واستنزافًا للناس. لكن خطورة هذا القلق الجماعي أنه يكون خلفيّة المشهد لمواقف سياسية واجتماعية متطرفة نحو الدّاخل، ونحو الخارج وتطرف في كلا الاتجاهيين؛ التّطرف أمام العدو إما عنفًا أو استسلامًا، وهذا القلق عند جزء من النّاس لا يظلّ ضمن القلق المتواصل وضمن المعدل العام بل يتحول لحالة القلق المرضي الذى يحتاج لتدخل علاجي من طبيب مثلي، وعدّد كبير من المرضى بالأساس لا يصلنا بل يقوموا بعلاج ذاتي بواسطة تعاطى المخدرات والعقاقير الطّبية المهدئة، وهذا كان خلفية المشهد في السّنوات الماضيّة لتحول ظاهرة الإدمان لحالة وبائيّة واسعة النّطاق.

خلال الحرب الأخيرة على غزة قبل أسابيع كان رعب الحرب الذى أعيشه كبقية أهل غزة ليس هو العامل الأساسي الضّاغط علي شخصيًا؛ بل كانت الاتصالات التّلفونيّة لا تتوقف وبكلّ ما تعنيه الكلمة (لا تتوقف) من مواطنين لا أعرف كيف عرفوا رقم هاتفي يسألوا ماذا عليهم أن يفعلوا تجاه رعب أطفالهم أو رعبهم الشّخصي؟ كنت أحاول أن أرد على الجميع رغم ما كان يشكله هذا من ارهاق، وأحاول أن أسمعهم وأعطيهم الرّدود المناسبة، فهذا أقل ما يمكنني القيام به تجاه شعبي في هذه الظّروف. بعد الحرب بأسابيع و ككلّ مرة يبدأ يتدفق لدى ضحايا هذا العنف بشكواهم المعروفة من قلق مرضى، وقلق ما بعد الصّدمة واكتئاب نفسي، منذ عقود يتكرّر الأمر ويتراكم عدّد الضّحايا والمعاناة.

الضّحايا الأهم الآن لكل ما يحدث هم الشّباب، فادي شاب عمره الآن 20 سنة لا يجرب الحياة الطّبيعيّة رغم أنه يعرفها من الإعلام ومن الإنترنت، فالعالم صار مكشوفًا وتنتقل المشاهد والثّقافات وأنماط السّلوك بسهولة في عصر ثورة تكنولوجيا الإعلام، الشّباب هم من تلقوا الضّربة الأساسيّة والضّحايا الأهم لكلّ ما يحدث.

(الشّباب والشّابات)، فهم عاجزون عن العثور على فرص عمل والانفصال المالي عن أسرهم، وعاجزون عن الزوّاج وتشكيل أسرهم الخاصة.

في غزة وعلى الرّغم من كلّ شيء فإنّ التّعليم والثقافة والمعرفة تعادل مستويات الدّول الغربيّة المتقدمة، وهم مثلهم مثل بقيّة شعبهم في الضّفة الغربيّة والدّاخل الفلسطيني الأكثر تعلمّا في المنطقة العربيّة. شباب رائعون ومذهلون في عمق معرفتهم، ونساء في منتهى التّعلم والثقافة والجمال.

قد تبدو آليات التّكيف أمام هؤلاء الشّباب الرّائعين معدومة من النّاحية النّظريّة، لكنهم اخترعوا آليّة تكيّف خاصة بهم، اخترعوا الصّمود ورفضوا الانهيار والبكاء؛ فغزة لا تعرف الدموع.


الصورة للمصور - الصحافي عبد زقوت."

نشر في منصتنا يوم 1 آب 2021.

د. فضل عاشور

أستاذ الطب النفسي بكليّة الطّب في جامعة الأزهر

شاركونا رأيكن.م