سنة 2008، أُصيبَ والدي بجَلطة دماغيّة أفقَدَته القُدرة على النُّطق. في البداية، كان مِن الصّعب عليه تقبّل هذا الواقع، لا سيما وهو الذي أحبَّ الحَياة وعاشَها بكلّ تفاصيلها ومُتعرّجاتها.

أَوجَعَنا هذا الفُقدان جدًّا نحن عائلته وأَوجَع أصدقاءَه ومحبّيه. يَخلق فُقدان القُدرة على التّعبير مساحة وفوّهة تتوسّع وتتوسّع بينك وبين محبّيك. لا سيما وقد كنتَ وما زلتَ بَعد رَحيلك عُنوانًا. كيف لا وأنت صاحب الفِكر اليَقِظ والموْقف الحرّ، الذي يفصل تمامًا بين الغثّ والسمين، مُحبّ ومِعطاء واجتماعي لأبعد الحدود.

لَم يَقتصر فقدان العلاقة مع اللغة في حالة والدي على فقدان النّطق فحسب وإنما فقدان القُدرة على القراءة والكتابة أيضًا، وهو الأكاديمي والمُستشار التربوي، صاحب الحسّ الفنيّ والخَطاط والرّسام. في البداية استَصعَب جدًّا تقبّل هذا الواقع، حتى أن كبريائه حال دون تَعاونه مع سيرورة علاج النطق. لاحقًا بفضل ثباته تأقلم على مَضض مع الواقع.

بقي والدي على مدار 15 عامًا قبل أن يَرحل، متّقد الذِهن، حادّ الذكاء وسَريع الإدراك. رَغم شحّ عدد الكَلمات المحكيّة بيننا، تمكنّا من التواصل معه بواسطة لُغة الجَسَد والتّعابير، وتَواصل هو مَع العالم الخارجي بِطَيف من اللغات البديلة. تَواصَل مع أَحفاده بمحبة وسعادة، وتواصَل مع الطبيعة بكلّ تجلياتها، واعتنى بحديقة البَيت بكلّ تفاصيلها. لاحَظنا خلال السنوات انّه تخلّى عن استخدام الساعة، وعاش الوقت بدقة مُدهشة مِن خلال التمعّن في حركة الشمس في كل فصول السنة. حتى أنه تمكّن مِن قراءة المَواعيد بشكل منتَظَم مِن خِلال مُراقبة حركة انكسار الضوء والظلّ ودخل البيت من شرفته يوميًّا، في الوقت المحدّد قبل بدء نشرة الأخبار. حيث حَرِص أن يكون متابِعًا ومطّلعًا على أحداث الساعة.

وُلِد أبي في قَرية "إقرث" سنة 1938 وغادَرَها مع عائلته مُهجَّرًا لقرية الرامة في نكبة 1948. أنهى تعليمه حتى الصف الثامن ليلتحِق بأخيه البكر "جبران" ليعملا في الزراعة بمَزارع "فراضه" اليها كانا يسيرا مشيا على الأقدام يوميا من  قرية الرامة، ليُعيلا العائلة المهجَّرة. حتى عَلِم بالأَمر مُدير المدرسة وتوجّه لجدي وجدتي وطَلَب منهما أن يُعيدا "إلياس" إلى مَقاعد الدّراسة، حَيث حَصل على أعلى عَلامة قُطريًّا في امتحان صفوف الثوامن آنذاك، مما مكَّنه من إتمام تعليمه الثانوي مجانًا. أذكر أنه كان يشاركنا ضاحكًا في المنافسة حامية الوطيس التي دارت بينه وبين أحد زملائه في المرحلة الثانوية، بعد أن حصل هو  على أعلى معدل في الصف، حتى تفاجآ في إحدى السنوات ومن حيث لا يدريان، أن زميلة لهما هي مَن حصلت على أعلى مُعدّل لتلك السنة.

عمل والدي في سلك التربية والتعليم في مدارس عديدة، كان أولّها سنة 1958 في قرية "كفر مصر"، حيث كان يبيت فيها طيلة الأسبوع، وفي هذه البلدة المتواضعة تَرَك بصمة وأثرًا بالغين في نفوس أهلها فكنّوا له الاحترام والتقدير.

أذكر حين نَشَرنا نبأ رَحيل والدي في وسائل التواصل الاجتماعي أنّ أَحَد تلاميذه مِن كفر مصر عقّب بكلمات مؤثّرة ومعبّرة معددًا مَناقب والدي التعليمية والإنسانية والوطنية، وأنّه تعرّف على قرية "إقرث" من خلاله، وأضاف: "في إحدى الحِصص قام الأستاذ إلياس بكتابة بيت مِن الشعر يبرز فيه الشاعر أحاسيسه الوطنية، وإذ بمدير المدرسة يَدخل فجأة ويصرخ بأعلى صوته بعد أن قرأ بيت الشعر: يا إلياس بِدّك تِخرب بيتنا؟".

واصل والدي تعليمه الجامعي، حيث أَنجَزَ اللقب الثاني البَحثي في الاستشارة التربوية وعمل في التربية والتعليم والاستشارة التربوية في كابول وعكا وكلية "مار الياس" في إعبلين وكلية "أورانيم". كان فعالًا في لجنة أهالي "إقرث" وفي سيرورة النضال القضائي للعودة وفي أطر اجتماعية عدّة. إلى جانب إنجازاته على مرّ السنوات، رآكم خيبات لعدم تحقيق العدالة التاريخية وعودة اللاجئين إلى قراهم. أَذكر أنه حين شاركته في رغبتي أن أساهم وأعمل في مؤسسات المجتمع الأهلي، شارَكَني في انعدام الأمل، ومع هذا تَرَك لي حريّة خوض التجربة، لأصل في النهاية إلى استنتاجه.

قُبَيل رحيله بأشهر معدودة، وأثناء مكوثه في المستشفى، كنّا، نحن عائلته المصّغرة والموسّعة، سُفراءَه لغويًا وشعوريًا أمام طاقم الأطباء والممرضين ورعيناه وعبّرنا عن محبتنا، كلّ بطريقته. اخترت أن أؤنس روحه بإسماعه أغانيه المفضّلة وتحديدا أغاني "عبد المطلب"، " اسأل مرة عليا"، "ساكن بحي السيده..."، "الناس المغرمين" وكانت عيناه الغُزلانيتان الخضراوان تُدهشان وتُحلقان بحنين لذكريات الزمن الجميل، الزمن الخاصّ والزمن العامّ.

ما هو الجمال ألا فرصة التعبير بكل اللغات عن وفائنا ومحبتنا في المساحة غير المرئيّة بيننا. هو الذّكريات الحَيَويّة التي تُبعث في دَواخلنا وواحدة مِن لغات المَحبّة التي اعتاد أبي أن يبثّها لأمي حين كان يُمازحها بَعد مُشاكسة عابرة فترضى وتبتسم ويغنّي لها في فضاء البيت باللهجة الإقرثاوية: "ظِحكت عويشه، إخظّر الدوالي" (ضحكت عويشة إخضر الدوالي). في صِغَرنا كنّا نردد الأغنية معه ضاحكين مستمتعين برمزيّتها دون أن نعلم أو ندري عن مَصدَرها.

بَعد رَحيل مَن نُحِب، نَفهم كميّة التفاصيل المَسكونة فينا. أتأمّل سيرة والدي الذاتيّة، يَعتريني حُزن عَميق لعدم تمكنّه من تحقيق حُلمه بالعودة، أعاين البيت الذي بناه بمتعة وفنّ هو وأمي رغم التّهجير واهتما بأدق تفاصيله. اتصفّح مكتبته وكُتُبَهُ وأغوص في حديقته وأوزّع خيراتها بامتنان لهذه الوفرة الربانيّة وأتأمل بدهشة هذا النموذج من الثّبات والتمسّك بالحياة والبحث عن المعاني في المتّسعات.

مؤخرًا، ظَهَرت الأغنية في ذاكرتي. وبدأت التأمّل بمعناها ورَبط الغزل بتزهير الطبيعة. من أين أتى بالأغنية؟ هل أَلّفها بنفسه أم التَقَطَها على مرّ تجربته الحياتية من بيئته ومن المجتمعات التي تعرّف عليها خلال مسيرته الحياتية؟  وبما أن اسم عويشه غير مألوف لي تساءلت من أين أتى بالاسم؟  ... تساءلت وباشرت البَحث عن مصدر الأغنية.

أشهرًا معدودة بعد أن تيقّظ في داخلي هذا السؤال وأثناء "سهريّة" في بيت خالي عماد يعقوب في قرية كفر ياسيف، تجلّى اسم عويشة. مُمكن أنها مَحض الصُّدفة وغالبًا لا. لأنني أؤمن بدورة الحياة وبالحكمة الربانية التي تحدّد مواسم النّضوج والتّجلي.

خالي عماد، المربي والمرتبط ارتباطًا وثيقًا بقريتنا "إقرث" ترأس لجنة أهالي إقرث بين السنوات 2008-2011. في كتابه "حكايا من بلدنا" الذي أصدره عن دار الهدى عام 2022، كتب في مقدمة الكتاب: "لم يُسعفني الحظّ مرّتان: الأولى أنني لم أولد فيك يا بلدي، والثانية أنّني وعلى ما يبدو لن أعود ولن أتمكّن من العيش فيك، إلّا إذا حصلت معجزة".

هذه المَسافة الزمنية التي لم تُعايش فعليًّا الحياة في إقرث قبل النكبة إلّا من حكايا الأهل، وزيارتها دوريًّا والمطالبة بالعودة إليها منذ النكبة، هي ما يُبقي الجَمر حيًّا. جَمر يتولّد من ثنائية الفقدان والحَنين، والذي بات جزءًا من هويّتنا وانتمائنا وتعريفنا. إنها رغبة دائمة في استقطاب ما تبقّى من الذاكرة وإعادة تحقيقها في الواقع.

أن تولَدَ لعائلة مهجَّرة، يَعني أنه بالتّوازي لسيرورة الحياة الشخصية وتخطيطات المستقبل، يُرافِقُك ظلّ. ظلّ يَجمع بين الحنين والمَحَبة والمبدئيّة وهو ينعكَس على كلّ مناحي الحياة ويتشكل تِباعًا للسّياق. في العَقل الباطِن، هو عِبارة عَن مَسألة وقضيّة وُجود. وجود شخصيّ ووطني وعائلي ومهني. هو قيمة ترافقك في كلّ مناحي حياتك ومِن خلالها تبحث عن العدالة في كلّ مكان.

فَمَن هي عويشة إذًا؟ في تلك السهريّة اتضح أمامي مسارٌ مُوازٍ لخالي، في البّحث عن سيّدَة عينيّة تحمل اسم "عويشة".  

لإقرث بلدات مجاورة عديدة، رَبَطت بين أهاليها علاقات جيرة وشَراكة في الأفراح والأتراح. منها، طربيخا، وسروح، وإدمت، والنبي روبين وعرب العرامشة.

في السهريّة المَذكورة، قَبل أشهر معدودة، اتّضح لي أنه كانت لجدّتي أُم أُمي، عفيفة - أم بشارة، شَريكة من عَرب العرامشة، سيّدة تُدعى "عويشة الجفّال" – أم حافظ، وقد اقتَنَيَتا سوية بقرة، ترعاها عويشة، وتهنأ السيدتان من إنتاج البقرة. 

خالي الذي يُدير اليوم معهدًا لتصوير الأشعة منذ تقاعد مبكرًّا من سلك التربية والتعليم، يُشارك زبائنه مِن عرب العرامشه بهذه "السالفة" ليؤكّد علاقة الجيرة والشراكة والمحبّة بين أهل إقرث أو "إجرف" على لسان البدو - جيران الرضا، كما ذَكَرَهم في كتابه، البدو من عرب العرامشة.

مؤخرًا، حين شارك أحد المتواجدين بمعهده من أهل العرامشة بهذه السالفة، قَفَز مندهشا قائلًا، "هاظي أمي!"، وحين استدعى أخاه الذي انتَظَره خارج المعهد، اتّضح أن السالفة معروفة لأخيه الذي يكبره، وأخبرهما أن البقرة كانت تحمل اسم "شامة".

تركت هذه القصة في مشاعري ووجداني أثرًا وتأثُّرًا كبيرين، وكَشَفت طبيعة العلاقات الإنسانية، العابرة لكلّ سياسات الاقتطاع والتجزئة والتشويه. علاقات تحكمها المودّة بالفطرة، متّصلة ببيئتها، بالأرض والمرعى والطبيعة. مُتَّسعات فاتحة ذراعيها للجميع، نموذج للوفرة الإنسانية، رجال ونساء على حدّ سواء منهمكون في الإنتاج الكَريم المشترك. هذه هي طبيعة الجَمال واستدامته، رغم النكبة. ثبات النوايا ونقاؤها، ذكريات وعلاقات دائمة الخضرة، مثل عيون أبي.

رحيل والدي جسّد رحيل جيل كامل من شباب يافعي النكبة، كان لهم القليل وحققوا الكثير. لملموا أشلاء بقايا وطن وأعادوا تشكيله بكل هدوء وصبر وأناة وثبات، ليوفروا للأجيال القادمة نموذج للتمسك بالأمل بمستقبل كانوا هم من حرموا منه.


الصورة: جانب لإحدى المظاهرات الحاشدة في القدس عام 1972، كما جاءت في إحدى الصحف الاسرائيلية.

د. كوكب إلياس خوري

عاملة اجتماعيّة علاجيّة وباحثة في مجال الجندر، الأسرة، الثقافة والإبداع. بحثت ضمن رسالة الدكتوراة في "مدرسة الخدمة الاجتماعيّة في جامعة حيفا" المحور الجماليّ بصفته ركنًا أساسيًّا للتفكير في الوجود وتشكيله، من خلال الخلق والإبداع الفنّيّ، من منظور وتجربة المبدعات الفلسطينيّات في مجال الفنون البصريّة المعاصرة.

בהא סבית
لا فُضَّ فوكِ د. كوكب خوري ، ما أروع هالكلمات، ما أروع هالمقال ... فعلاً هنالك إتسَّاع للذاكره الإنسانيَّه الإجتماعيَّه المعرفيَّه من خبرة حياه . ولنا ذِكرى طيِّبه من أبائنا وأهلنا الذين رحلوا (لروحهم السلام ) في كل يوم ... وخاصةً في هذه الأيام من النكبه والتهجير التي تُثير فينا هذه المأساه الطويلة الأمد ،مع الحُلم الأمل والنضال من أجل إحقاق العداله والحق. مُتشبثين بحق العوده ، فما ضاع حق ما دام وراءه مُطالب . بهاء سبيت
الخميس 1 أيار 2025
רוזאן עיד
ما اعمق ما كتبت، مشاعرياً، حسيا" لغوياً، قومياً. نحن بحاجه للقصه الشخصيه لنرفع هويتنا عالياً ونفتخر بما كان وبمن كان بالماضي والحاضر والمستقبل.
الخميس 1 أيار 2025
راوية حداد
غاليتي د.كوكب خوري حس عربي عال . وكم استعملنا كلمة "حس" للصوت، في لغتنا المحكية وهل تولد الكلمة من غير الصوت ومن غير الشعور؟! أبدعت صديقتي ،رحم الله والدك ،وادام إرثه من خلالك والعائلة الكربمة وأمد الله بعمر "عويشة"، وأدام ضحكتكم لتخضر الدوالي.
الخميس 1 أيار 2025
وسام خوري
رائعه ومبدعه ❤️
الخميس 1 أيار 2025
نديمه خليل
وصف راءع كل الاحترام
الخميس 1 أيار 2025
حسام غنايم
اسلوب رائع في السرد...الكلمات والترابط...وكأن المقال عبارة عن عرض سينمائي يوثق الماضي بنقله للحاضر..ينبض بالحقيقة والواقعية المهيبة...بوركت اناملك. "من زمان ما استمتعت بهيك سردية غنية"..شدتني من اول حرف لآخر حرف دون استثناء
الخميس 1 أيار 2025
رأيك يهمنا