بعض آثار النكبة على الثقافة الفلسطينية

يحيى الفلسطينيون في الخامس عشر من أيار، شأنهم في كل عام، ذكرى النكبة المؤلمة التي حلت بهم في عام 1948، بأشكال مختلفة، في كل أماكن وجودِهم، في الداخل والشتات الفلسطيني.

ونتيجة حجم النكبة/ الكارثة التي ألمت بفلسطين وشعبها، كان لا بد لها أن تنعكس على شتى مناحي الحياة الفلسطينية، سواء لمن بقي منهم على أرضه، أو من اقتُلع منها وعاش حياة اللجوء في الدول المجاورة، أو فيما تبقى من فلسطين التاريخية في الضفة الغربية وقطاع غزة.

وتركت الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية في الوضع الناشئ أثرها على أبناء الشعب الفلسطيني في واقعهم الجديد. والأمثلة عديدة أورد بعضا منها في الجانب الثقافي على سبيل المثال لا الحصر. 

فالجزء المتبقي من أبناء فلسطين في وطنهم وأرضهم، ومنهم من عاش لجوءًا في وطنه، غلبت على الحياة الثقافية فيها ما أُطلق عليه لاحقا "ثقافة المقاومة" والتمسك بالهوية العربية الفلسطينية، لغة وتاريخا وتراثا، في حين غلبت على الجزء الذي عاش اللجوء، ثقافة الحنين إلى "الوطن السليب" والتغني بأمجاد الماضي، والتصميم على العودة.

وفيما صار يعرف لاحقا بإسرائيل، برز بين الفلسطينيين الذي بقوا في وطنهم شعر و"أدب المقاومة" في وجه المخططات الإسرائيلية بطمس الهوية الفلسطينية و"أسرلة" المجتمع، ودمج أبناء الشعب الفلسطيني في واقع جديد، تغيب فيه القومية العربية الفلسطينية، فكان جواب الفلسطينيين على لسان الشاعر محمود درويش في قصيدته المشهورة" سجل أنا عربي"،  التي يقول فيها:

"سجل أنا عربي

ورقم بطاقتي خمسون ألف

وأطفالي ثمانية وتاسعهم سيأتي بعد صيف"

....... إلى أن يقول: " أنا لا أكره الناس ولا أسطو على أحد

ولكني إذا ما جعت آكل لحم مغتصبي

فحذار حذار من جوعي ومن غضبي"

تلك القصيدة التي صارت بمثابة هوية يرفعها أبناء الشعب الفلسطيني في وجه مخططات حكام إسرائيل بطمس الهوية الفلسطينية.

وفي القصيدة مظاهر الاعتزاز بالعروبة والهوية القومية العربية الفلسطينية في مقابل طمس الهوية و"الأسرلة"، إضافة إلى نشوء تنظيمات سياسية وتجمعات ثقافية حافظت على الهوية والتراث من خلال التمسك باللغة العربية، كهوية ثقافية وسياسية، ورفض للواقع الاستعماري الجديد الناشئ في فلسطين.

أما في الشتات الفلسطيني فبرزت على نحو خاص مظاهر التغني بفلسطين، وطنا وهوية، والحنين إلى الأرض التي شُرِّد أبناؤها، والتصميم على العودة اليها، طال الزمن أو قصر.

وبرزت قصيدة أبو سلمى "سنعود" التي يبدأها:

خلعت على ملاعبها شبابي.. وأحلامي على خضر الروابي.

إلى أن يقول: غداً سنعود والأجيال تصغي.. إلى وقع الخطا عند الإياب.

على أن النكبة كان لها عميق الأثر على الأدب والثقافة الفلسطينيين، شأنها شأن مناحي الحياة الأخرى، والتي ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا، فصار كل ما يكتب في موضوع الحنين والعودة والصمود، يعرف ب"أدب المقاومة"، وبرز فيه أدباء فلسطينيون كبار، من أمثال إميل حبيبي، توفيق زياد، محمود درويش، سميح القاسم، وغسان كنفاني، وغيرهم الكثيرون.

ولم يقتصر التأثير الثقافي للنكبة على الفلسطينيين على الشعر، بل تعداه الى الفنون الأدبية الأخرى، كالرواية والقصة القصيرة، والخاطرة، والمسرح ،والتمسك بالتراث الفلسطيني متعدد الوجوه، غناء ورقصا (دبكة)، وأدوات وعادات وتقاليد، وحتى في الأثواب الفلسطينية وبعض أنواع الطعام، وفي الأغاني الشعبية، خصوصا أغاني الأعراس، حيث تغنت النساء بعد موقعة "الكرامة" التي برز فيها "العمل الفدائي الفلسطيني"، بالقول: "يما اعطيني الفدائي لنُّه ببلاش، نزل الأرض المحتلة بايده رشاش".

وإجمالًا، يمكن القول إنه ما من موضوع أو حدث ترك أثره الثقافي على الشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده مثلما فعلت النكبة، لما لها من تأثير بعيد المدى على حياة الفلسطينيين لأجيال عديدة، منذ بدايتها، وعلى مدى سنوات استمرارها.

واليوم، والشعب الفلسطيني الباقي في قطاع غزة، يعيش نكبة ثانية، ربما أشد قسوة من النكبة الأولى، بأعداد الشهداء ودمار المساكن والبنى التحتية، ويعيش بعض الفلسطينيين هناك مرارة التشريد واللجوء، بعضهم للمرة الثانية او حتى الثالثة، فهو، أيْ الشعب الفلسطيني، مصرٌّ على الصمود والمقاومة، والتمسك بالبقاء في الوطن رغم فداحة الخسائر، ووحشية الاحتلال، ويرفع شعار"لا هجرة ولا توطين".

سيكون "للنكبة الثانية" آثارها القريبة وبعيدة المدى، على كل مناحي الحياة الفلسطينية، ومنها بالطبع، بل وربما على رأسها، الثقافة والفنون بكل أشكالها وتنوعاتها، وستبرز على نحو خاص في الأغاني الشعبية وأغاني الأعراس، وباقي الفنون.

عدنان داغر

صحفي وكاتب فلسطيني مستقل. مقيم في رام الله

رأيك يهمنا