السّياسَة الإسرائيليّة في القُدس: السَيطَرَة على الحَيّز
يُعتبر السَكَن مِن أساسيّات الحياة، وأحدَ حقوق الإنسان الأساسية التي أقرتها القوانين والمواثيق الدولية، والسَّكن الملائم والصحي دليلٌ على التطور العمراني والثقافي، كما يُستَغل التخطيط في مجال استعمالات الأراضي لضمان التطور في المجالات السكانية، والبنية التحتية، والبيئية. وُظّفت جميع القوانين والتشريعات [في الحالة الإسرائيلية] لخدمة الأساس الذي وضعته رئيسة وزراء إسرائيل جولدا مائير عام 1973 ضمن مخطط، وتم تشكيل لجنة (أرنون جافني) التي وَضعت سياسةً واضحةً أهم مكوّناتها الوصول إلى أقلية عربية وأغلبية يهودية في القدس، بدأتْ ترجمة الخطة بمصادرة 87% من مساحة القدس التي تم توسيعها بعد العام 1967، وتقنين مَنح رخص البناء، ووضع عراقيل كثيرة أمام الفلسطينيين في مجال الإسكان، واعتماد سياسة التخطيط الموجهة في استعمالات الأراضي كأداةِ ضَبْط، وتُعتبر هذه السياسة التي تستهدف المناطق العربية، جزءًا من الصراع الديمغرافي والجغرافي الهادف للسيطرة على المدينة، وتحقيقًا لأهداف واضحة تتلخص بأن القدس عاصمة أبدية للدولة العبرية بأغلبية يهودية وأقلية عربية.
تَمرّ سياسة تخصيص استعمالات الأراضي عبر قنوات رسمية مقننة، وبموجب مخططات هيكلية تُصدّق حسب القانون، لذلك تكتسب هذه المخططات مكانةً رسمية، ولا يمكن إلغاؤها أو تبديلُها إلا بموجب مخططات تمرّ في مسار عملية التصديق نفسه، هذا على افتراض أن التعديل سيكون باستعمال الوسائل نفسها في النظام السياسي الإداري نفسه. ونَلحظ من خلال دراسة السياسات الإسرائيلية اتجاه المدينة المحتلة، أن قاعدة تطوير القسم الشرقي ورفع مركزيته ليلحق بتطور القدس الغربية، تستند إلى استعمال قوانين الأراضي وقوانين الانتداب وتوجهات لجنة (جافني) باعتبارها مرشدًا لأهداف سياسية تتمثّل في الهدم والسيطرة على الحيز، وعملية الإحلال والتهجير. إنّ مشكلة الإسكان الناتجة عن نمو السكان الطبيعي والتقنين في إعطاء رخص البناء، أدت إلى اللجوء للبناء بدون ترخيص، مما وضع سكانًا كثيرين تحت رحمة بلدية الاحتلال ووزارة الداخلية من خلال الهدم -سواء أكان ذاتيًا أم بواسطة البلدية- وخلق مشكلة نفسية واجتماعية، وبهذا تحوّلت التجمعات السكانية في القدس إلى أماكنَ ذات اكتظاظ سكاني دون بنية تحتية، وأصبحت القدس الشرقية متخلّفة تعيش في القرون الوسطى بينما تعيش القدس الغربية في القرن الواحد والعشرين، وعلى الرغم من أن القدس الشرقية تدفع ضرائب بالمقدار نفسه الذي تدفعه "الغربية"، فإن 10% من هذه الضرائب فقط تذهب لها.
كما أن سياسة بلدية الاحتلال بدأت تتّخذ بشكل كبير مَنحى الحدّ من النمو السكاني والبنائي الفلسطيني جاعلةً المدينة طاردةً للسكان باتجاه الأطراف، عن طريق السيطرة على الأرض، بذريعةِ تخصيص مساحات لما يسمى الحدائق القومية وإقامة البؤر الاستيطانية داخل الأحياء العربية، وتقسيم التجمعات العربية إلى فسيفساء وتشتيتها داخل الأحياء اليهودية ومنع تطورها، مما أدى في النهاية إلى جعل مدينة القدس عبارةً عن وادي النسناس في حيفا، وهذا البرنامج واضح تمامًا ضمن سياسة "القدس الموحدة" غير قابلة للتقسيم بأغلبية يهودية وأقلية عربية.
د. خليل تفكجي
مدير دائرة الخرائط في جمعية الدراسات العربية وخبير بارز في شؤون الاستيطان