البُعد الرقمي في ظل الحرب: العربي ما بين الرقابة الذاتية وابتكار طُرق للتعبير التقني

بعد أن أنهت ورديّة أخرى كمسؤولة في مختبر لأبحاث السرطان والخلايا الجذعية في مستشفى في شمال البلاد، تفرّغت د. ك. أ. إلى متابعة أخبار الحرب وممارسة بعض النشاطات المسائية. ومع فنجان من القهوة، وشاشة التلفاز تكمل إذاعة أبرز التطورات في الحرب في غزة والتقديرات حول موعد بداية الاجتياح البري للجيش الإسرائيلي، قامت ك.أ. بنشر أشبه في بُنيته بالقصائد القصيرة ونهايته كانت دعوة ستقلب حياة إنسان آخر من حيث لا عودة. 

في صباح اليوم التالي، بمدينة الطيرة بالمثلث، استعدّ كما عادته الدكتور عبد الرحيم سمارة إلى يوم عمل جديد، ينقذ فيه حياة ناس آخرين من خلال عمله كمدير قسم العناية المركزة للقلب في مستشفى هشارون في مدينة بيتح تكفا. إلا أن خبرًا هزّ أركانه بأن وظيفته المرموقة قد انتهت، وبفعل تعليمات "من فوق" وبالتحديد من وزير الصحّة بنفسه وعبر حسابه الشخصي على شبكة X (تويتر سابقًا) تم إعلان توقيفه بناء على منشورات تحريضية عبر شبكة فيسبوك. 

ما هي إلا دقائق وقبيل أن يفهم الطبيب حجم ما حصل، تهاوت عليه مئات الرسائل المعبئة بالتهديد والوعيد. ليتضح أن "زميلة" له بالمهنة قامت بالتشهير بصفحته بشكل غاية في الخطورة، وذلك بناء على وضع رسمة في حسابه الشخصي تحمل راية خضراء تحمل "لا إله إلا الله محمد رسول الله" بالإضافة إلى حمامة وغصن زيتون. هكذا فقط. بل أن الناشرة المجتهدة ذات الآلاف من المتابعين، لم تكلّف نفسها بإخفاء أن الصورة المذكورة قديمة من حزيران-يونيو 2022، أي لا تمت للحرب ولا لأحداث السابع من أكتوبر 2023 بأي صِلة! لم يشفع للدكتور سمارة هذا كلّه، ولا كون د. ك. أ. ناشطة يمينية في حزب "نيتسح يسرائيل" الجديد إلى جانب النجم المتطرّف الجديد على الشاشات "إلياهو يوسيان" من أصول إيرانية. صدر القرار من ذات إدارة المستشفى التي تفاخرت بانجازات الطبيب العربي وقصة "سندريلا" النجاح قبلها بشهر واحد فقط! حينما يُسمع صوت "هساتاه لتيرور" (أي "تحريض على الإرهاب") فلا عُقول تُفكر بالمنطق، ولا جُهد السنين والاجتهاد يُعتبر، دقّت طبول الحرب.

ثلاثة مخاطر قد تواجهك إن تجرأت على الرد على سؤال "مارك"

السؤال الذي اعتاد عليه العالم عند الدخول إلى فيسبوك هو "ما الذي تفكر به؟" .. لم يكن يومًا غير منطقي بقدر ما كان عليه خلال أيام هذه الحرب بالنسبة لأهل الداخل الفلسطيني. 

ثلاث جبهات متنوّعة فُتحت على مستخدمي شبكات التواصل في المجتمع العربي منذ السابع من أكتوبر: الأولى قانونية وملاحقات، شملتها الاعتقالات بدأتها من خلال شخصيات معروفة محليًا وحتى إن لم تكن سياسية من قبل. الثانية في أماكن العمل والدراسة، وشملها مئات حالات الطرد أو الاستجواب من إدارة جامعات، وزملاء في العمل وحتى زبائن، وجزء من هذه الحالات عُممت لكونها بحق أطباء مثل د. سمارة وآخرين أو محاضرين بالأكاديمية. والثالثة من سياسات شبكات التواصل التكنولوجية وتحديد المقبول والمحتوى غير المرغوب، والمنع المظلل "Shadowban". 

هذه العوامل المترابطة جعلت من العربي أداة رقابة ذاتية يسيرها الخوف بشكل كبير.. ليس فقط من التعبير، إنما حتى من وضع "لايك" في تيك توك أو سمايلي خاطئ في انستغرام.. بل حتى أن بعض النشطاء بدأ ينتابه الرعب من مشاركة رأي إسرائيلي، يُحكى بالعبرية، خوفا من اعتباره تحريضي! 

ومع ذلك لم يسلم المجتمع العربي من تعرض أكثر من 250 شخص إلى الاعتقال أو "المحادثات التحذيرية" (بحسب عدالة، 13.11.23)، بالإضافة إلى مئات حالات الإجراءات العقابية ما بين طرد أو جلسات إستماع وغيرها من المضايقات في أماكن العمل والدراسة. 

أبعاد نفسية بظل الرقابة الذاتية وطُرق مُبتكرة لتذويت الخوف

وفي حين أن الميدان الحقيقي، غير العالم الافتراضي، لا يشمل إمكانية للناس أن يعبروا عن تعاطفهم مع مشاهد الأطفال تحت الركام. ومع وجود كم كبير من التحريض باللغة العبرية على العرب حيثما كانوا، تصبح هذه الرقابة الذاتية كَي إضافي للذات. فمن جهة تأنيب ضمير ولوم الذات على التقصير بالتعبير في ظل حرب كلها تصلنا عبر السوشيال ميديا وبأدق التفاصيل. ومن جهة أخرى هذا المنسوب من كَم الأفواه، الذي إن تخطاه العربي أو العربية على صعيد شخصي، فهو يعلم يقينًا أنه يجُر إليه أهله وربما بلدته.

لربما ذروة هذا ظهرت بابتكار طُرق التعبير البديلة لأهل الداخل في بعض الأحيان في زمن الحرب. مثلًا في ليلة قصف مستشفى المعمداني والمشاهد الصعبة منه، باتت كُل حسابات الشبكات الرقمية بالداخل باللون الأسود - دون أي كلمة. وكأنه سقف جديد من التعبير، لكنه موحّد. 

هذا طبعًا بالإضافة إلى اعتماد البعض لطُرق التفافية للحديث عن المشاهد القادمة من غزة دون ذكرها عينيًا، علمًا أن بعض الحالات من اعتقالات وتحقيقات جاءت نتيجة ذكر آيات قرآنية أو حتى كلمة "صباح الخير" فُسرت على أنها دعم للإرهاب.. هذا بالإضافة إلى ذروة استخدام برمجيات الذكاء الاصطناعي - حين تفاخرت مجموعة مهندسين إسرائيليين بتفعيل خوارزمية تعمل على مسح دائم لشبكة "لينكد إن" وتُحصي أي تضامن مع الفلسطينيين وتصنفه تحت دعم الإرهاب. بالتالي أصبح أكثر من 30 ألف موظف حول العالم من قرابة 14 ألف شركات عالمية، في قائمة سوداء هدفها الضغط على مسؤولي التوظيف في كافة القطاعات بعدم التعامل مع هذه الأسماء وذنبهم نشر "free palestine״!

فرصة لفحص حاسة إضافية بالصراع مستقبلًا

في هذه الحرب كما كان في أيار 2021، تعرّف الزملاء ومُركّبات المؤسسات إلى حاسّة سادسة لدى الأفراد - الآراء الداخلية حول أي توتر أمني. ليست المرّة الأولى التي تجتاحنا فيها الحروب في ظل انتشار شبكات التواصل، لكنها المرة الأعنف دون شك. خاصة وأن الحرب وضعت أوزارها في يوم حمل أحداث قتالية غير مسبوقة على أرض الواقع، إنعكست بأحداث غير مسبوقة بالميدان الرقمي وقنوات التلجرام التحريضية على العرب بشكل عشوائي؛ "صيّادي النازيين 2023" وأمثالها خير دليل على خطورة الحالة.

بالتالي هذا الوضع على مستوى التفاعل الرقمي في المجتمع العربي هنا في البلاد هو فعلًا غير مسبوق. لا من حيث الحد من سقفه بالعودة إلى منشورات سنوات سابقة للانتقام من موظفين عرب، ولا من حيث التركيز عليه كأداة لعزل الداخل عن المشهد، ولا من حيث رد الفعل بالصدمة والفزع من هذه التركيبة المقلقة. 

أيا كان طول هذه المرحلة، أو موعد الحقبة القادمة من التوتر الأمني للمجتمع العربي في هذه البلاد - فلا بُد من اتخاذ تدابير مختلفة ومهنية في الجانب التقني على مستوى الأفراد والمؤسسات وحتى الجانب التعليمي الذي لا بُد أن يحمل إرشاد في رفع الوعي الرقمي والإعداد لكون هذا المضمار الافتراضي حاسّة أخرى في الصّراع وتبعاته.

أنس أبو دعابس

استراتيجي تسويق وديجيتال ومقدم البودكاست التقني "صوت التك"

شاركونا رأيكن.م