أَحلامُ غزّة البَسيطَة...
لم تكن غزة تتمنى الكثيرَ قبل الحرب؛ قليلًا من فكّ الحصار، وبضع كيلو مترات لصيادي السمك ليصنعَ "الغزازوة" زبدية الجمبري الشهيّة، وقليلًا من مساعدات المؤن، وإعاناتٍ لبعض عمال البطالة، فيما يبحث شباب عن هجرة ويحلُمون خارج السور.
يحلمُ الغزاوي منذ سنوات طويلة ألا يسمع صوت الزنانة اليومية، وأن ينصب خيمة أمام بحر غزة الجميل، ليحدِّثه عن أحزانه، فجأة تحول هذا البحر إلى ملاذٍ في حرب ضد الإنسانية، لا تفرّق بين كبير وصغير، امرأة وطفل، مسعفٍ وصحافي، حرب كأنها تتدارك ما تعتبره دولة الاحتلال خطأ تاريخيًا يتمثل ببقاء الشعب الفلسطيني في جزء من أرضه، فتحاولُ تصحيح هذا الخطأ بالقضاء على الهنود الفلسطينيين أصحاب الأرض.
ليس ذلك فحسب: حُرقت مخطوطات التاريخ، التي تحمل إرثَ المدينة، ومُحيت آثار القطاع، التي تخبرنا عن حضارات مرّت على غزة العصية، بل مُسحت عائلات من دفاتر السجل المدني. أيّ حربٍ هذه! أيّ عالمٍ هذا الذي يتفرج!
لم تعد هناك قبور، فأصبحت بطون الكلاب والقطط مقبرة للجثث، أما ما يتبقى من عظام فبالكاد يُجمع في كيس لدفنه إن وجدوه، تحت اسم مجهول.
أحلامُ غزة البسيطة، أصبحت أوهامًا، وصار البحث عن عريشة وخيمة أسمى ما يتمناه الغزّي المكلوم، المرأة لم تنزع خمارَ الصلاة منذ عام كي تموت مستورة، لا مواكب للدفن، ولا نعرفُ الأحياءَ كي نعرف الأموات. وجه غزة تغير تمامًا، لا معالمَ فوق الأرض، وأسماءٌ فوق السحاب، وجثثٌ تحت الأرض، ولا أفقَ يخبر أهل المدينة أنهم عائدون إلى منازلهم المدمرة!
تتعالى الجعجعات السياسية، فيما يَنخفِضُ صراخ المتضامنين ويتلاشى شيئًا فشيئًا. بالكاد يسمع أحدٌ نداءات المدفونين تحت الردم، كان أَحدُهم ينادي أول الحرب من تحت أنقاض منزله، علّ أحدًا يخرجه، ولم يعُد يسمعه أحد. أذكر أنني اتصلت أعزّي صديقي بموت أخيه، ردّت زوجته لتخبرني أنه أيضًا كان من بين الضحايا، فوقع الهاتف من يدي، فيما لا يزال صديقي الآخر الذي دَفَن أبناءه يتصل بي ليطمئن عليّ. ابنَتي تتنقلُ من نزوح إلى نزوح، هي التي كانت في الأصل تعاني من تشنّجات في الأمعاء...!
تريد الآن ماء فقط، ماء نقيًا يُنقذ كليتها، بالكاد تجده، يتشارك أغلب النازحين معها وجبةً واحدةً في اليوم، ونستغرب حين يصابون جميعًا بالوباء! لا حائطَ يقيهم الشتاء، ولا خيمةَ تقيهم الصيف، إنها رحلة نزوح الشتاء والصيف، يسارع الأحياء في التقاط الصور ليخبروا العالم أنهم في قيدِ الحياة، فربما تكون الصورَ الأخيرة، يكتب الناس خواطرهم، وأوجاعهم، ويتفرج العالم، يتألم قليلًا ثم يُغلق شاشة التلفاز، أو شاشة الهاتف، وينهض ليومه التالي وكأن شيئًا لم يكن، فيما غابت [أطباق] السمّاقية عن أفراح المساء، وغابت [أطباق] الرمّانية عن أحزان الصباح، لا طَعم للبيوت، ولا تطعيم للأطفال، ولا طُعم للأسماك سوى جثثنا المتحللة. يجلس أحدهم على حافة الجرف المطلّ على الشاطئ، ويتساءل عن بقايا أحلام غزة البسيطة، بعد أن انخفض سقفها: هدنةٌ ولو قصيرة، فتحٌ لمعبر، عودةٌ للشمال، مساعداتٌ من الجنوب، صفقةٌ تنهي المقتلة، وحطبٌ لنار الطهي، و.... فيباغته صاروخٌ آخر، ليقتل حتى الحُلم البسيط.
حسام أبو النصر
كاتب ومؤرخ فلسطيني.