من سندريلا حتّى إلزا: حضور الأنثى في ثقافة الأطفال وأدبهم
يشهد عالم ثقافة الأطفال والفتيان تغييرات واسعة النطاق في العقود الأخيرة، في ما يتعلّق بمكانة وصورة الطفلة والفتاة والمرأة فيه. حضرت الأنثى في ثقافة الأطفال والفتيان منذ فجرها، وكانت المصدر الرئيسيّ لتطوّر هذه الثقافة، لكن لأسباب اجتماعيّة وتاريخيّة، تتعلّق بمدى نفوذ النساء في القرون السابقة، أصبح توثيق هذه المساهمة ودورها غير واضح وشبه معدوم.
في العقدين الماضيين، نُشِرَت دراسات عديدة تهدف إلى الكشف عن هذه المساهمة، بمختلف الأدوات الاجتماعيّة والتأريخيّة. أحد الأمثلة البارزة كتاب إليزابيث وانينغ هاريس، «كان يا مكان مرّتان» [Twice Upon A Time] الّذي كشفت فيه قصص الكونتسّات الفرنسيّات خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، بصفتهنّ حكواتيّات كنّ يروين ويصغن حكايات شعبيّة معقّدة ومركّبة، في فترة موازية للأدب الشعبيّ البسيط والمجرّد الّذي دوّنه شارل بيرو.
دراسات أخرى تتمحور حول صورة المرأة في أدب الأطفال المنشور في دول غرب أوروبّا وشمال أمريكيا، وكيف تأثّرت هذه الصورة بمكانة المرأة في المجتمع. على سبيل المثال، في دراسة واسعة النطاق نشرتها مجموعة من الباحثات بقيادة جانيس ماكبي عام 2011، روجِع 5618 كتابًا للأطفال نُشِرَت خلال القرن العشرين في الولايات المتّحدة. نتائج الدراسة شهدت على كون مجال أدب الأطفال مجال أدبيّ ذكوريّ بامتياز؛ فمثلًا، يحضر التمثيل الذكريّ مرّتين أكثر من الإناث في عناوين الكتب تقريبًا، و1.6 مرّة أكثر في جنس الشخصيّة الرئيسيّة. من النتائج المروّعة الأخرى الّتي ظهرت في الدراسة، أنّه من ثلاثينيّات حتّى ستّينيّات القرن الماضي، وهي الفترة الّتي تتمثّل بحراك موجة النسويّة الثانية، ازدادت الفجوات الجندريّة أكثر ممّا كانت عليه في الفترات السابقة واللاحقة.
أُجْرِيَت دراسات مماثلة، أصغر نطاقًا، في المنطقة العربيّة، في محاولة لفهم مكانة وصورة الأنثى في أدب الأطفال. أجرت إحدى الدراسات يولندا أبو النصر وزينات باروني عام 1994، حول كتب الأطفال في السنوات 1977 - 1993، كشفت فيها أنّ غالبيّة الشخصيّات النسائيّة في كتب الأطفال تؤدّي دور الرعاية وما يتعلّق بنشاطات محصورة في العائلة.
دراسة ثانية قامت بها الباحثة هالة إسبنيولي حول أدب الأطفال العربيّ (في فلسطين، ولبنان، ومصر، وسوريا، والكويت، والعراق، والأردنّ)، وفيها أيضًا كان التمثيل الذكريّ ضعف التمثيل الأنثويّ في عناوين الكتب (1.73). بالإضافة إلى ذلك، تكشف الدراسة أنّ المهن المذكورة في عناوين الكتب تنسب للذكور مهنًا عديدة ومتنوّعة (حتّى في حال كانت الشخصيّات من الحيوانات)؛ خيّاط، نجّار، خبّاز، طبيب، بائع، صانع أحذية، حطّاب، موسيقيّ، عازف ناي، حارس، ربّان، قائد، رياضيّ، مهندس، مخترع، لاعب كرة قدم. أمّا الإناث، فالخيارات في حالتهنّ محدّدة وهي: أمّ، ممرّضة، قاضية لمرّة واحدة.
كما الأدب، كذلك هي سينما الأطفال والفتيان؛ نجد فيها صورة عينيّة ومحصورة للأنثى، تتمحور في إطار ميزات كالطاعة، والضعف، وحكم العواطف، والخمول، والاتّكاليّة. كلّها ميزات عهدناها في أفلام أميرات «ديزني» الأولى، من بيضاء الثلج، وسندريلا، والأميرة النائمة؛ كلّها أفلام تتضمّن ثيمات خمول متكرّرة تشمل حياة الأميرات وانتظار أمير الأحلام، إلى جانب صقل معايير جمال عينيّة.
على الرغم من كلّ هذا، يجب أن نتذكّر أنّ النوع الاجتماعيّ (الجندر) خلق اجتماعيّ وتمثيل ثقافيّ، وهو أيضًا كذلك في ثقافة الأطفال وأدبهم؛ تمثيل اجتماعيّ معيّن في الثقافة، يشكّل مصدرًا رئيسيّ لاستعادة شرعيّة أنظمة النوع الاجتماعيّ القمعيّة وعدم المساواة بين الجنسين. تساهم الرسائل المنقولة من خلال تمثيل الذكور والإناث في الكتب، في بلورة أفكار الأطفال ما يعنيه أن يكون المرء فتًى أو بنتًا، رجلًا أو امرأة.
في الآونة الأخيرة، بدأ ناشرو أدب الأطفال ومختلف المهنيّين العاملين في الحقل، يفهمون أنّ هذا الوضع لا يمكن أن يستمرّ على هذا النحو. في غرب أوروبّا وشمال أمريكيا، نشهد بالفعل اتّجاهات تغيير واسعة النطاق تحاول تغيير توازن القوى والصور الموجودة في أدب الأطفال لصالح أدب أكثر توازنًا وإنصافًا وأكثر تمثيلاً للبنت والفتاة والمرأة. في العواصم الكبرى في أوروبّا والولايات المتّحدة، يمكن للمرء أن يصادف اليوم رفوف كتب الأطفال تحمل تصنيفات مثل «أدب النساء القويّات»، أو «السير الذاتيّة للفتيات البطلات» وغيرها، وكلّها رفوف تملؤها كتب مثل «قصص قبل النوم للفتيات المتمرّدات» (Good Night Stories for Rebel Girls) و«نساء في العلوم» (Women in Science)، إلّا أنّه إلى جانب هذه الرفوف، تضّخمت كذلك الرفوف الورديّة الّتي تحمل في طيّاتها قصص الجنيّات والأميرات؛ تلك القصص الّتي بلورت جمهورها على ثقافة الأميرات الّتي أسّستها سينما الأطفال.
في الكتب من النوع الأوّل، نجد عادةً قصص إناث تمكّنّ من فعل تغيير اجتماعيّ أو سياسيّ في عالم الواقع، وتحوّلت سيرهنّ الذاتيّة إلى قصص أطفال تشجّع الطفلات والفتيات بشكل خاصّ على تبنّي خطواتهنّ. بين الشخصيّات المركزيّة المذكورة بشكل متكرّر نجد الفنّانة فريدا كاهلو، والعالمة ماري كوري، والباحثة جين جودل، حتّى الحقوقيّة روث بايدر غينسبورغ. هؤلاء النساء من الواقع، تحدّين عائلاتهنّ ومجتمعاتهنّ ونججن في مجالاتهنّ، أمّا القصص من النوع الثاني، فهي بالعادة شبيهة جدًّا بقصص الأميرات التقليديّة، وتكون عادة مع نزعة متمرّدة بسيطة ضدّ عامل قمعيّ معيّن، بينها نجد الكثير من قصص الجنّيّات اللّواتي يحاولن إنقاذ قبيلتهنّ أو خليّتهنّ، أو قصص الأميرات اللّواتي يتحدّين الأمراء الّذين يعرضون الزواج عليهنّ، أو حتّى قصصًا تحكي عن بنات صغيرات يحاولن ترتيب غرفهنّ لتحويلهنّ إلى ممالك، أو قصر يدرنه بأنفسهنّ.
على الرغم من التقدّميّة الظاهرة في كلا النوعين، إلّا أنّها تقدّميّة سطحيّة لا غير. في النوعين ما زال التعامل مع صورة المرأة بصفتها مختلفة كلّ الاختلاف عن الرجل؛ فنحن لا نجد قصص سير ذاتيّة عن رجال ناجحين تحت عنوان «قصص رجال ناجحين»، بل تبقى فقط تحت عنوان «قصص نجاح». قد يكون هذا الفصل ضروريًّا لإعادة التوازن المُنْصِف في أدب الأطفال، بعد عقود طويلة من القمع والتمييز وتطبيع صور الذكور والرجال، لكن ربّما الصورة الأمثل المطلوبة هي حضور الكتب كافّة، على رفوف موحّدة وغير مفصولة، وبشكل طبيعيّ أكثر.
في سينما الأطفال جاءت التغييرات أبكر من أدب الأطفال، حيث بدأت بإعادة صياغة الحقل منذ نهاية التسعينيّات، ولهذا قد نجد اليوم أنواع الأفلام كافّة متوفّرة في دور العرض؛ ما أبطالها ذكور وما بطلاتها إناث. في أستوديوهات «ديزني» على سبيل المثال، إلى جانب بطلات مثل الملكة إلزا (ملكة الثلج، 2013)، وجودي (زوتروبوليس، 2016)، وموانا (2016)، وراية (راية والتنّين الأخير، 2021) نجد الأبطال مثل هيرو (الأبطال الستّة، 2014)، وميغل (كوكو، 2017)، وإيان (الشقيقان، 2020)، ولوقا (2021)؛ كلّ بطلة وبطل من المذكورين لم يعد يميّز جنسًا أو نوعًا اجتماعيًّا واحدًا – بل أصبحوا أبطالًا ينظر إليهم الأطفال، الأولاد والبنات، بصفتهم رموزًا واستعارات لقيم أخلاقيّة وفكريّة كاملة غير محصورة في قوالب جندريّة.
هذه التغييرات كافّة بدأت بصبغ أدب الأطفال العربيّ كذلك، مع حفظ الاختلافات كافّة بين الحقلين؛ لكنّني متأكّد من أنّ إعادة إجراء دراسة يولندا أبو النصر وزينات باروني، أو دراسة هالة إسبنيولي، سوف تسفر عن تغييرات إيجابيّة نحو أدب أكثر توازنًا، وصور طفلات وفتيات ونساء، منصفة أكثر.
في العقد الأخير، نجد في العالم العربيّ كاتبات ومؤلّفات بارزات، ملتزمات بالنضال النسويّ وبصوره في أدبها، مثل رانيا زغير، وتغريد النجّار، وسونيا النمر، ولبنى طه، وأحلام بشارات، ومايا أبو الحيّات، وغيرهنّ الكثيرات. وفعلًا، طالما بقي حقل أدب الأطفال العربيّ بين أيدي هؤلاء النساء، فنحن في طريقنا إلى أدب منصف أكثر للأنثى، مكانةً وصورة.