الشتيمة الجنسيّة... جرح نرجسيّ ضحيّته المرأة
السجّان شتّامًا
في رواية «القوقعة»، الّتي تُعَدّ واحدة من أشهر الروايات المندرجة تحت تصنيف أدب السجون في العالم العربيّ، يشير مصطفى خليفة - في متن روايته - إلى أنّ السجّان يلجأ إلى استعمال الشتائم الجنسيّة بكثرة في حقّ السجناء الموجودين في أقبية السجون السوريّة، وكأنّه يريد أن يؤكّد أنّ طبيعة العلاقة الاضطهاديّة بين السجّان والسجين، تجعل السجّان يستخدم الشتائم الجنسيّة عبر منهجيّة، الهدف منها تحطيم السجين وإذلاله، من خلال استهداف المرأة في حياته، سواء أزوجته كانت أم أخته أم أمّه أم أيّ قريبة أخرى له، حيث إنّ ذلك السجّان يدرك ما تمثّله المرأة باعتبارها قيمة شرفيّة كبرى للرجل الشرقيّ والعربيّ، ويسعى من خلال هذه الشتائم إلى المسّ بهذا الشرف أو تحقيره[1].
الشتيمة الجنسيّة واحدة من طرق التعذيب اللفظيّة الّتي يتلفّظ بها السجّان؛ لأنّه يدرك ما تمثّله المرأة من قيمة اجتماعيّة مرتبطة بمفاهيم الشرف في الثقافة العربيّة...
وفي سياق آخر مشابه، تشير الباحثة رحمة بن سليمان في بحثها حول «القيميّ والرمزيّ في عمليّات تعذيب المساجين السياسيّين في السجون التونسيّة»، إلى أنّ السجّان يمارس على السجين السياسيّ أنماط تعذيب، تعتمد على المرجعيّات والمعتقدات والقيم الاجتماعيّة، الّتي تصنع هويّاته وانتماءاته وتمثّلاته لذاته ومكانته في المجتمع، وأنّ الشتيمة الجنسيّة واحدة من طرق التعذيب اللفظيّة الّتي يتلفّظ بها السجّان؛ لأنّه يدرك ما تمثّله المرأة من قيمة اجتماعيّة مرتبطة بمفاهيم الشرف في الثقافة العربيّة، الّتي تُعَدّ المرجعيّة الثقافيّة الأولى للسجين[2].
التابو
وبعيدًا عن العلاقات الاضطهاديّة السائدة في أقبية السجون، الّتي تأتي الشتيمة الجنسيّة ضمن إطارها، لتعكس شكل التفاعل الرمزيّ بين السجّان والسجين، وهو تفاعل يهدف من خلاله السجّان إلى إهانة السجين، والحطّ من مكانته الاجتماعيّة، فكيف يمكن تفسير ذلك الاستسهال الّذي تُلْقى به الشتيمة الجنسيّة، في البيئات العامّة في المجتمعات؟ وكيف يمكن تفسير سريانها على ألسنة الأفراد في المجتمعات العربيّة تحديدًا، انطلاقًا من وضعيّة القهر الّتي يرزح تحتها أولئك الأفراد؟
وضمن سياق الإجابة عن السؤالين السابقين، يمكن تعريف الشتائم الجنسيّة على أنّها تلك الشتائم الّتي تأتي نابعة من تابو الجنس في المجتمعات العربيّة وغيرها، حيث إنّها تأتي بهدف توجيه الإهانة والإساءة، وتحقير المكانة الاجتماعيّة للشخص الّذي تُوَجَّه إليه الشتيمة[3].
إنّ الشتيمة الجنسيّة شتيمة متعلّقة بالمرأة بشكل مباشر، وتأتي في غالبيّتها العظمى مرتبطة بالأعضاء التناسليّة للنساء؛ أي أنّها تأتي منسجمة مع مكانة المرأة في المجتمعات الّتي تُسْتَخْدَم فيها وواقعها المجتمعيّ، وحيث إنّ مكانة المرأة في المنطقة العربيّة محكومة بمفهومَي العار والشرف، فإنّ عضوها التناسليّ، بالنسبة إلى المنظومة المجتمعيّة الذكوريّة العربيّة، يمثّل مفتاح هذا الشرف، وإنّ المسّ به من خلال الشتيمة الجنسيّة هو بمنزلة إهانة للعائلة الّتي تنتمي إليها تلك المرأة[4].
عقدة العار
وتبعًا لذلك، يمكن تفسير الشتيمة الجنسيّة الّتي ترد في المجتمعات العربيّة، انطلاقًا من وضعيّة القهر الّتي يرزح تحتها الإنسان في تلك المجتمعات؛ فوضعيّة الإنسان المقهور - بحسب مصطفى حجازي - وضعيّة يعاني تحتها الإنسان المقهور، من خصائص ذهنيّة تأتي في شكل عُقَد نفسيّة تقع في مقدّمتها عقدة العار، فهي بحسب حجازي: ""التتمّة الطبيعيّة لعقدة النقص. الإنسان المقهور يخجل من ذاته، يعيش وضعه كعار وجوديّ يصعب احتماله. إنّه في حالة دفاع دائم ضدّ افتضاح أمره، افتضاح عجزه وبؤسه. ولذلك؛ فالسترة من هواجسه الأساسيّة. إنّه الكائن المعرّض، ويخشى أن ينكشف باستمرار، يخشى ألّا يقوى على الصمود، يتمسّك بشدّة بالمظاهر الّتي تشكّل سترًا واقيًا لبؤسه الداخليّ. هاجس الفضيحة يخيّم عليه؛ فضيحة العجز أو الفقر أو الشرف أو المرض. حساسيّته مفرطة جدًّا لكلّ ما يهدّد المظهر الخارجيّ، الّذي يحاول أن يقدّم نفسه من خلاله للآخرين""[5].
والمقصود بالجرح النرجسيّ العيش تحت وطأة هاجس الكرامة المهدّدة دائمًا؛ فالعزّة والكرامة لهما مكانة رئيسيّة في خطاب الإنسان المقهور؛ لذلك فإنّ بقاء الرأس مرفوعًا، وتجنّب أحاديث الناس، يمثّلان قضايا مصيريّة بالنسبة إليه.
فعقدة العار الّتي تمثّل إحدى الخصائص الذهنيّة للإنسان المقهور، تعمل على توليد ما يمكن تسميته نفسيًّا «بالجرح النرجسيّ»، والمقصود بالجرح النرجسيّ العيش تحت وطأة هاجس الكرامة المهدّدة دائمًا؛ فالعزّة والكرامة لهما مكانة رئيسيّة في خطاب الإنسان المقهور؛ لذلك فإنّ بقاء الرأس مرفوعًا، وتجنّب أحاديث الناس، يمثّلان قضايا مصيريّة بالنسبة إليه.
لماذا المرأة؟
إنّ الإنسان المقهور - بحسب حجازي - قد يتمكّن من العيش دون خبز، لكنّه يفقد شعوره بكيانه الإنسانيّ، في حال أنّه فقد كرامته وظهر عاريًا أمام عاره. ولأنّ الرجل المقهور يُسْقِط العار أساسًا على المرأة، ويرى فيها موطن الضعف والعيب، ويربط شرفه كلّه وكرامته كلّها بحياتها الجنسيّة؛ فإنّ الشتيمة الجنسيّة الّتي تُسْتَخْدَم في السياقات المجتمعيّة العربيّة، لا ترد على لسان الشخص الشاتم وتُلْقى على مسامع الشخص المشتوم؛ إلّا لأنّ الاثنين يعيشان في نفس وضعيّة القهر، ويتمتّعان بنفس الخصائص الذهنيّة والعقد النفسيّة، الّتي تمليها حقيقة العيش في ظلّ هذه الوضعيّة[6].
ثمّ إنّ سياقات القهر المجتمعيّة المولّدة لعقدة العار في نفسيّة الرجل العربيّ، تظهر واضحة وجليّة في كيفيّة تعاطي هذا الرجل مع الشتيمة الجنسيّة، الّتي يختلف وقعها عليه وفقًا للمرأة المذكورة، حيث يزيد وقع هذه الشتيمة وتأثيرها إذا جاءت تستهدف المرأة غير المتزوّجة من عائلة الرجل (العذراء) كالأخت مثلًا، فوفقًا للسياق المجتمعيّ القائم على مرجعيّات ثقافيّة مستندة إلى عقدة العار، الّذي يمنع الجنس خارج إطار الزواج، فإنّ وقع الشتيمة يكون أثقل على مَنْ تُوَجَّه إليه، في حال جاءت بحقّ المرأة العذراء، وذلك لأنّ المسّ بشرف هذه المرأة له دلالة تحقيريّة مضاعفة[7].
أخيرًا، فإنّ الشتيمة الجنسيّة، بارتباطها أساسًا بالعضو التناسليّ للنساء دون الرجال، لا تأتي بما يعكس طبيعة القمع الجندريّ والمكانة الاجتماعيّة المتدنّية للمرأة، في سياق المجتمعات الّتي تُطْلَق بها، وإنّما تأتي كذلك لتعكس طبيعة العلاقة السائدة بين أفراد تلك المجتمعات، وهي علاقة اضطهاديّة تشبه علاقة السجّان والسجين، يتزايد فيها شعور الإنسان المقهور بقهره، ويسعى إلى تفريغ ذلك القهر بشتائم توجَّه إلى غيره، يكون هدفها ممارسة شكل من أشكال العنف اللفظيّ والاضطهاد المعنويّ.
.........
إحالات
[1] يوسف الشوفي، ثنائيّة السجين والسجّان والعلاقات الاضطهاديّة في أدب السجون (دراسة نقديّة بنيويّة)، مركز ليفانت للبحوث والدراسات، ص9.
[2] رحمة بن سليمان، القيميّ والرمزيّ في عمليّات تعذيب المساجين السياسيّين في السجون التونسيّة - قراءة سوسيولوجيّة في شهادات بعض الضحايا، مجلّة عمران، عدد 14، تشرين الأوّل 2015، ص 58.
[3] رشا حلوة، «الشتائم الجنسيّة تُساهم أيضًا في منظومة القمع ضدّ النساء»، Made for Minds ، 28/3/2019، شوهد في 20/07/2021، في: https://bit.ly/3dNEvQ8
[4] المرجع نفسه.
[5] مصطفى حجازي، التخلّف الاجتماعيّ: مدخل إلى سيكولوجيّة الإنسان المقهور، ط9 (المغرب: المركز الثقافيّ العربيّ، 2005)، ص47.
[6] المرجع نفسه، ص47.
[7] حلوة، مرجع سابق.
نشر سابقا في ""فسحة"" بموقع عرب 48."
إسراء عرفات
كاتبة وباحثة من نابلس. خرّيجة قسم العلوم السياسيّة في جامعة النجاح الوطنيّة، وحاصلة على الماجستير في التخطيط والتنمية السياسيّة من الجامعة نفسها. مهتمّة بقضايا الفكر والفلسفة، وتكتب في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة